"أتمنى أن أخرج لهذا العالم وأصرخ في وجهه بكل ما أوتيت من قوة لأقول: ‘أنا بينية الجنس... ولدت بالفطرة بينية... لست الوحيدة في العالم... اقبلونا كما نحن‘. لقد سئمت الخوف والخجل والوصم والوشوشات التي تلاحقني في كل مكان. تارة أوصف بالمثلية وتارة أخرى بالمزدوجة الميل الجنسي لكنني في الواقع عند مفترق الأنوثة والذكورة".
هذا ما تقوله مها، وهو اسم مستعار بناءً على رغبة المصدر، في حديثها لرصيف22، مبرزةً أنها لا تملك الشجاعة بعد لمواجهة مجتمع يرفض الاختلاف ولو كان عطاءً ربانياً. فحالة الإحباط والاكتئاب التي تتملّكها باستمرار، تجعلها في غنى عن التصدي للتصنيفات غير الصحيحة التي توصف بها. كما أنها تفضّل العمل على صحتها النفسية وتقبل ذاتها قبل الخروج للمجتمع وتحدي نظرات الاستغراب والرفض التي تلاحقها منذ نعومة أظافرها.
تعيش مها عزلة عن محيطها الاجتماعي منذ سنوات، لم ترغب يوماً في الحديث عن معاناتها وصراعاتها الداخلية لأن ذلك يزيد ألمها خاصة عندما لا تجد الشخص المناسب الذي يصغي إليها ويتفهم حالتها لكن إصرار عائلتها التي ساندتها في رحلتها الطويلة للتعرف على ذاتها، على زيارة طبيب نفسي غيّر حياتها حيث نصحها بالتواصل مع الشريحة التي تشبهها وتنتمي إليها. وهنا قررت الانخراط في إحدى الجمعيات التي تُعنى بحقوق الإنسان ووجدت السند في أشخاص يشاركونها نفس الهوية الجندرية ونفس الهموم.
توضح مها أنها ولدت عام 1987 إذ جرى تحديد جنسها بطريقة تقليدية لم تراعِ خصوصية جسدها الذي استوعب أعضاءً يندر اجتماعها في جسد واحد. فقد ولدت بعضوٍ ذكري ورحم أنثى.
ما هي البينية الجنسية؟
تشير مصطلحات "البينية الجنسية" و"ثنائية الجنس" و"الإنترسكس" إلى الأشخاص الذين لا تتطابق صفاتهم التشريحية وكروموسوماتهم الجنسية (أو أعضاؤهم التناسلية الجنسية الداخلية أو الخارجية) تماماً مع صفات وكروموسومات الذكر ولا الأنثى النموذجية - في ما يُعرف طبياً بـ"اضطراب التطور الجنسي".
ظلت ثنائية الجنس "تابو" في تونس حتى تم تناولها حديثاً في عملين سينمائيين، هما "المابين" للمخرجة التونسية ندى المازني حفيظ، و"الإبرة" للمخرج عبد الحميد بوشناق. كيف اختلفت زاوية الطرح والقصة؟ وهل يسهمان في تغيير نظرة المجتمع إلى بينيي/ات الجنس؟
وهناك العديد من المفاهيم والأفكار المغلوطة الشائعة عن هذه الفئة من البشر التي تشكّل نحو 2% من سكان العالم، بما في ذلك تصنيفهم على أنهم "جنس ثالث" أو "عابرون/ات جنسياً".
ويعرِّف مكتب حقوق الإنسان في الأمم المتحدة البينية الجنسية بأنها: "الخصائص الجنسية التي لا تتوافق مع التصورات الثنائية المعروفة لجسد الذكر أو الأنثى"، أي أن الأشخاص بينيي/ات الجنس يولدون/تولدن بأكثر من صفة جنسية بحيث يكون التنوع في الصفات الجسمانية على مستوى الأعضاء التناسلية أو الصفات الوراثية أو الكروموسومات أو الهرمونات.
وجرى التوافق على أن يكون 26 تشرين الأول/ أكتوبر من كل عام يوماً عالمياً للتوعية بالبينية الجنسية. كما تم تصميم علم أصفر تتوسطه دائرة أرجوانية لبينيي/ات الجنسية. وأنشئت المنظمة الدولية للبينية الجنسية وهي تضم المنظمات البينية الجنسية الأوروبية للدفاع عن حقوق الإنسان وهدفها الاعتراف بالأشخاص البينيي/ات الجنس في أوروبا والعالم.
القانون لا يحمي
ويتعرض بينيو الجنس في تونس إلى العديد من الإشكاليات والعوائق القانونية والاجتماعية. فإلى جانب الأزمات النفسية التي تعصف بهم وقدمت مها نبذة عنها، يواجه هؤلاء بشكلٍ أساسي عدم توفر أية حماية قانونية لهم كفئة هشّة مهددة بكافة أشكال التمييز والوصم والتعنيف التي يواجهها أفراد المجتمع الكويري بوجه عام. يضاف إليها أزمة الالتباس وسوء الفهم لمفهوم الإنترسكس وإزالة الغموض عنه ومعرفة حقيقة ما يعيشه أفراد هذه الفئة.
وتبيّن عهد جمعاوي، مديرة مكتب تونس لمنظمة "صحافيون من أجل حقوق الإنسان"، أن الوضعية الخاصة بالأشخاص بيني الجنس في تونس معقدة، إذ يشير المصطلح إلى الأشخاص الذين يولدون بخصائص بيولوجية جنسية لا تتطابق مع التعريفات النمطية للجسم الذكري أو الأنثوي، ويختلف الوعي والاعتراف بحقوقهم بشكل كبير من بلد لآخر، وتونس ليست استثناءً في ذلك. فيُساء فهم القضايا المتعلقة ببينية الجنس غالباً وينظر إليها على أنها "مثيرة للوصم".
ويمكن - بحسب جمعاوي - أن يعكس ذلك جملة من الصعوبات في مختلف المجالات بما في ذلك الصحة والتعليم والتوظيف والاندماج الاجتماعي. فقد يواجه الأشخاص البينيو الجنس تمييزاً وتحديات خاصة في ما يتعلق بالوصول إلى الرعاية الصحية المناسبة والمحترمة، والحديث ما يزال على لسان جمعاوي التي تضيف لرصيف22: "التمييز تجاه هذه الفئة من المجتمع في تونس يجد مرجعيته ومشروعيته في جملة من القواعد الثقافية والدينية والاجتماعية. فالقانون التونسي لا يوفر حماية كافية أو اعترافاً محدداً بحقوق الأشخاص بينييّ الجنس مما يؤدي إلى نقص في الاعتراف القانوني والاجتماعي فضلاً عن غياب السياسات العامة المحددة لتلبية احتياجاتهم".
"من الأكيد أن تناول السينمالقضايا حقوق الأقليات من منظور إنساني مهم بالنسبة لمناصرة حقوق الأقليات. لكن في حالة تقديم المواضيع في صورتها الصحيحة وعدم وضع صور أو تنويه للإيحاء بمغالطات عن فئة هشة ما، مثلما فعل عبد الحميد بوشناق في فيلم الإبرة"
وتزيد جمعاوي: "لا وجود لأرقام دقيقة عن عددهم في تونس وإن كانت التقديرات تشير إلى وجود حوالى 600 شخص من المعنيين بهذه الوضعية. ومع ذلك، تجب الإشارة إلى أن الوضع في تحول وهناك تنامٍ في الوعي بقضايا النوع الاجتماعي في تونس. كما أن منظمات المجتمع المدني والمدافعين عن حقوق الإنسان يسهرون على تعزيز الفهم والاحترام وحماية حقوق الأشخاص بينيي الجنس. وهذا ما نحن بصدد العمل عليه في منظمة ‘صحافيون من أجل حقوق الإنسان‘ ضمن مشروعنا القادم وهو تعزيز دور وسائل الإعلام في التوعية بشأن الصحة الجنسية والإنجابية".
البينية الجنسية في السينما التونسية
ظلت ثنائية الجنس "تابو" في تونس حتى تم تناولها حديثاً في عملين سينمائيين، أولهما "المابين" للمخرجة التونسية ندى المازني حفيظ المعروفة بتسليط الضوء على المواضيع غير المتداولة أو المسكوت عنها. وكذلك فيلم "الإبرة" للمخرج عبد الحميد بوشناق.
في "المابين"، ظهرت البطلة الرئيسية "شمس" وهي شابة بينية الجنس تعيش في إحدى الجزر التونسية وتعمل خياطة وقد انقلبت حياتها رأساً على عقب بعد انكشاف "سرها" أي هويتها. فاضطرت إلى خوض مشوار طويل بين طب التجميل والقضاء علّها تتمكن من تحديد جنسها. في نهاية المطاف، تقرر "شمس" أن تتقبل نفسها وهويتها البينية في مجتمع لا يقبلها ويحاول إجبارها على اختيار هوية جنسية نمطية.
أما بوشناق، فقرر في "الإبرة" تسليط الضوء على معاناة الأهل الذين يرزقون أطفالاً بينيي الجنس من منظور إنساني ينتقد نظرة الدين والقانون والطب والمجتمع للبينية الجنسية. يدور الفيلم حول قصة زوجين رزقا مولوداً بعد أربع سنوات من محاولات الإنجاب المستمرة، فكان طفلهما ثنائي الجنس. وتباينت ردة فعل الأب والأم تجاه الطفل، فالأم تتمسك به فيما الأب يرفضه.
هل وُفِق التناول السينمائي في عرض القضية؟
بحسب المخرج التونسي والناشط الحقوقي بسام بن إبراهيم، فإن "السينما يمكن أن تكون سلاحاً ذا حدين حتى في هذه القضايا. فالجهل بها يمكن أن تقوم بمفعول عكسي" وإن كان يعتقد بشكل عام أنه "من المهم أن تطرح المواضيع بكل الطرق ويفتح باب النقاش حتى نستطيع كسر الجهل بمثل هذه المواضيع ونحاول إصلاح المغالطات الموجودة ولو بخطوات صغيرة".
ويشرح لرصيف22: "من الأكيد أن تناول السينما لقضايا حقوق الأقليات من منظور إنساني مهم بالنسبة لمناصرة حقوق الأقليات. لكن في حالة تقديم المواضيع في صورتها الصحيحة وعدم وضع صور أو تنويه للإيحاء بمغالطات عن فئة هشة ما، مثل ما فعل عبد الحميد بوشناق في فيلم الإبرة".
ويرى أن الفيلم أعطى إيحاءات خاطئة جداً ومخالفة للحقيقة بأن البينية الجنسية قد تكون نتاج عارض صحي (كالضعف الجنسي أو حادث ما) أو عادات سيئة. ويضيف: "الأرضية الأولية والأساسية للفيلم أن زوجين يحاولان لأربع سنوات إنجاب طفل وفي النهاية نجحا في الأمر بصعوبة شديدة وكأن الشخص البيني هو نتيجة لإشكال إنجابي يحدث للوالدين. ثم في مستوى آخر نلاحظ مشهداً لكرة سلة ترتطم بقوة ببطن فاطمة (ممثلة دور الأم) في شهرها التاسع من الحمل إذ تم التركيز على هذا الحدث وكأنه حدث للجنين أمر مريب حيث أن هذا المشهد تم كذلك وضعه في الفيديو الترويجي. ثم هنالك مشهد أكل المأكولات الحارة حيث كان الزوج خائفاً على الجنين".
"الحق في اختيار الهوية الجندرية والميول الجنسية معيار مهم في أي عمل ينبغي اعتباره داعماً لحقوق أفراد المجتمع الكويري"... هل نجح فيلما "الإبرة" و"المابين" في التعبير عن قضية البينية الجنسية في تونس؟
ويردف المخرج التونسي: "يوجد العديد من الأفلام العربية التي تطرقت للمواضيع الكويرية لكن لترسيخ صور اعتباطية ونمطية موجودة بالأساس ويتم التأكيد عليه وهنا نحن ضد مفهوم مناصرة قضايا الأقليات"، لافتاً إلى أن المخرج عبد الحميد بوشناق يحاول إنكار انتماء البينيين/ات للمجتمع الكويري خلال لقاءاته عبر وضعهم في تصنيف مختلف.
على العكس، يجد بسام أن فيلم "المابين" لندى مازني حفيظ تناول الموضوع بطريقة أقرب للواقع، ما يعكس إرادة لتغيير موقف المجتمع من أفراد هذه الفئة من خلال محاولة لطرح الموضوع من زوايا مختلفة وخاصة التأكيد على أن الأشخاص البينيين ينتمون للمجتمع الكويري من خلال إبراز الفيلم علاقة الشخصية الرئيسية بالشخصيات الأخرى أو من خلال المقابلات الصحافية للمخرجة والنقاشات بعد عرض الفيلم والحديث عن النيات أصلاً من بداية العمل على الفيلم. فمخرجة هذا الفيلم وفريقها مختصون في العمل على مثل هذه المواضيع.
يتفق كرم مع هذا الرأي إلى حد بعيد، وهو ناشط كويري من جمعية "موجودين" التونسية المعنية بحقوق وقضايا المجتمع الكويري، الذي أكد على أن قضية البينية الجنسية في تونس هي "موضوع شائك لأن قضية الإنترسكس في المجتمع الكويري بتونس والمنطقة ليس لها ظهور بارز لأن الفئة المعنية بها ليست متواجدة على الساحة بطريقة معلنة".
وبينما يعرب كرم عن دهشته من تناول القضية في فيلمين حديثين، يقول إنه منذ الثورة التونسية، ظهرت أعمال فنية تسلط الضوء على قضايا مجتمع الميم عين لكن عادةً ما اختُص المثليون/ات والعابرون/ات جنسياً فقط دون غيرهم/ن من فئات المجتمع الكويري، مرجحاً أن التأخر النسبي في الاهتمام بالإنترسكس سينمائياً وعلى الأرض ربما حدث بسبب عدم انتظام أفراد هذه الفئة في جمعيات مدنية تطالب بحقوقهم وتقبلهم، أو معلومات كافية عنهم/ن وعن تجاربهم/ن.
ويصف كرم تناول القضية في السينما بأنه "استباقياً إلى حد ما" إذ يأتي في وقت "المجتمع المدني بما فيه الجمعيات المعنية بمجتمع الميم عين ما زال ‘متشبعش‘ بمفهوم الإنترسكس، وبالتعرف على معنى الكلمة والتعرف عليهم/ن عن قرب".
إلى ذلك، يؤكد كرم أن هناك فرقاً كبيراً في الطرح والتناول في الفيلمين وإن اتفقا في زاوية التناول الاستعطافي لا الحقوقي، وعدم عرض القضية بالشكل الأنسب. يقول: "فيلم الإبرة يركز ع تجربة الأهل مع إنجاب طفل/ة إنترسكس، بينما الطفل/ة لا دور حقيقي له/ا في تحريك الأحداث. أما المابين فيركز على شخصية إنترسكس عانت جميع أشكال العنف التي تعانيها أي شخصية من الفئات الهشة، بما فيها العنف الجنسي والجسدي واللفظي والاقتصادي والرمزي. هذه المعاناة المتعددة تشتت التركيز عن القضية الأصلية للفيلم: قضية الإنترسكس وقبولها لذاتها وقبول محيطها الاجتماعي لها".
لكن التحفظ الأكبر الذي أبداه كرم على طرح الفيلمين للقضية هو "تصوير بينيي/ات الجنس وكأنهم/ن ضحايا خطأ طبي أو عيب خلقي لا يد لهم فيه ومحاولة جلب تعاطف المشاهد منذ هذا المنظور، لا على أساس الإيمان والتقبل لشمولية حق الإنسان في اختيار هويته الجندرية وميوله الجنسية. وهناك فرق شاسع بين المنظورين"، خاتماً "الحق في اختيار الهوية الجندرية والميول الجنسية معيار مهم في أي عمل ينبغي اعتباره داعماً لحقوق أفراد المجتمع الكويري".
علاوة على ذلك، يرى كرم أن "الفيلمين لم يتمكنا من شرح وتفسير مفهوم الإنترسكس. ربما حاولا لكن لم يقدما صورة واضحة. كانت هناك بعض الأخطاء العلمية الدقيقة - لا سيما في فيلم الإبرة الذي شهد ‘أغلاطاً فادحة‘".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...