شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!

"استعدتُ ملكية جسدي"... عندما تكون السينما شاملة وتتسع لأفراد مجتمع الميم- عين

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة نحن والميم-عين

السبت 17 ديسمبر 202210:56 ص


 يأتي هذا التقرير كجزء من مشروع "مش عَ الهامش"،
 والذي يسلط الضوء على الحقوق والحريات والصحّة الجنسيّة والإنجابيّة في لبنان.

"هذا الفيلم مقتبس من قصة واقعية"؛ كثيراً ما نشاهد هذه العبارة في بداية الأفلام السينمائية أو الوثائقية، ويفضّل بعض الناس هذا النوع، ربما من باب الواقعية وعدم السماح لخيالات الكاتب بأن تأخذهم إلى حيث يشاء وربما لزيادة حجم التفاعل مع القصة وتصديقها، لذا يحارون حينها: هل التأثر بالقصة الحقيقية أم بالأداء التمثيلي والمَشاهد؟

تختلف أشكال القصص، ومنها الأفلام المقتبسة من المذكرات مثل "Eat Pray Love"، المستند إلى مذكرات إليزابيث جيلبرت، أو فيلم "Titanic" الرومانسي الشهير المأخوذ عن قصة حقيقية لغرق السفينة، بالإضافة إلى الأفلام الوثائقية التي تحدثت عن هتلر وتشرشل وغورباتشوف وجمال عبد الناصر وضباط الموساد وإيمي وينهاوس، وغيرها، ولكن قليلاً ما كان يتم التطرق إلى قصص تدور حول المثلية الجنسية، باستثناء قلة قليلة من الأفلام مثل "The Imitation game" الذي تحدث عن "تورينج" عبقري الرياضيات وعالم الكمبيوتر الذي ساعد في فوز الحلفاء في الحرب العالمية الثانية عن طريق فك الشيفرة، ولكن تمت محاكمته من الحكومة البريطانية بسبب ميوله الجنسية في العام 1952.

من الهامش إلى السينما

هنالك قصص تتحول من مجرد أحداث في حياة أشخاص إلى سيناريوهات على الورق أو مقاطع مصورة تنسج مع بعضها مادةً فنيةً سينمائيةً متاحةً للجميع، وهي في الغالب تروي قصصاً أو مراحل مهمةً في حياة شخصيات مؤثرة سياسياً وتاريخياً وفنياً، وهناك بعض القصص المخفية حتى في الواقع، وتجري من دون أن يعلم بها أحد، وبقيت بعض الشخصيات على الهامش لفترات طويلة.

لذا قرر بعض صنّاع الأفلام، منذ سنوات طويلة، اقتباس قصص من حياة أشخاص ينتمون إلى الفئات المهمشة وتقديمها بشكل سينمائي، كقصص المثليين/ ات ومعاناتهم/ نّ مع الواقع أو العابرين/ ات جنسياً، واستطاعت هذه الأفلام أن تضرب بعرض الحائط المحاذير أو الخطوط الحمراء التي بُنيت عليها السينما الواقعية أو السينما المستقلة، ومنها فيلم "The Queen_1968" الذي يتحدث عن دراغ كوين، عاش في نيويورك في العام 1967، وكواليس مسابقة "Miss ALL_American Camp Beauty Pageant"، وأحدث فيه المخرج سيلفيو باندينلي ضجةً كبيرةً، لأنه لم يكن أحد على علم بهذه المسابقة الخاصة.

هذا بينما عرض فيلم "Paris Is Burning" في العام 1990، قصص العديد من الدراغ كوين وهم يتحدثون/ ن عن أنفسهم/ نّ أمام الكاميرا.

قرر بعض صنّاع الأفلام، منذ سنوات طويلة، اقتباس قصص من حياة أشخاص ينتمون إلى الفئات المهمشة وتقديمها بشكل سينمائي، كقصص المثليين/ ات ومعاناتهم/ نّ مع الواقع أو العابرين/ ات جنسياً 

أما فيلم "Forbidden Love"، فقد عرض قصة حب بين فتاتين مثليتين في كندا، وتضمّن حديثاً مع الشخصيات وتفاصيل كثيرةً عن القصة وشكل الحياة الخاصة بهما في فترة الأربعينيات والخمسينيات والستينيات من القرن الماضي.

كما ناقشت بعض الأفلام قضايا مهمةً كان من غير الممكن التركيز عليها لولا قرر بعض السينمائيين كسر الحواجز وفتح المجال للحديث عن بعض المواضيع التي تُعدّ من المحظورات بالنسبة إلى البعض، كالزواج بين المثليين/ ات وردود الأفعال حوله في مجتمع ذوي البشرة السوداء الذي تحدث عنه فيلم "The New Black"، وحياة الأطفال الذين تربّوا في عائلة مثلية والذي تحدث عنه فيلم "Gayby Baby".

لم تلقَ هذه الأفلام في الغالب ردود أفعال إيجابيةً ولكنها كانت ضروريةً وقتها لرصد مرحلة مهمة يمكننا الآن الاعتماد عليها لتوثيق أو معرفة تفاصيل الحياة في وقت من الأوقات، ولكن الأمر يختلف كثيراً في دول الشرق الأوسط.

العالم العربي يروي قصصه

بالرغم من اهتمام الأوساط السينمائية الغربية بالحديث عن قصص وقضايا الشخصيات التي تُعدّ في العالم العربي مرفوضةً وفي أحسن الأحوال حساسةً، إلا أن هذه المواضيع ما لبثت أن أصبحت شبه عادية في دول العالم الأول، بيد أن الأعمال السينمائية باتت تدمج بين هذه الشخصيات وبين مختلف أنواع الشخصيات لتصبح خطوطاً دراميةً، أو ربما الانتقال إلى عمق أكبر من مجرد الحديث عن وجود أشخاص مثليين/ ات أو عابرين/ ات جنسياً وكأنه اكتشاف جديد.

بينما في العالم العربي، كان التطرق إلى هذه المواضيع يبتعد عن المعالجة والتعاطي العلمي والمدني بقدر ما يقترب من البحث عن المشاهد الساخنة والجريئة وامتطاء حساسية المشاهد العربي لهذه الأمور، ولم تبدأ الأوساط السينمائية بالتعاطي مع المواضيع المثلية وغيرها، بطريقة علمية ومسؤولة، حتى سنوات قريبة ماضية، كما فتح المجال لعرضها في محافل سينمائية عربية كالمهرجانات والعروض الجماهيرية.

تحدث فيلم "Exit Beirut"  عن التناقض الذي تمرّ به الفتاة بين المثلية التي تعيشها في السر، وبين الحياة الاجتماعية العلنية التي تلعب فيها دورها كزوجة وأم لديها مسؤوليات

على سبيل المثال، عرض مهرجان أيام قرطاج السينمائية، في العام 2017، فيلم "في الظل"، للمخرجة ندى المازني، وهو فيلم وثائقي لاذع يتناول أوضاع المثليين/ ات في تونس. لاقى العمل أصداءً مختلفةً بين الذي عدّه غير مقبول وبين الذي وجد أن فكرة الفيلم جيدة لكن مشاهد الرجال العراة غير مقبول، وبين الذي رحّب بالفكرة وصفق بعد نهاية العرض، كما حصل فيلم "جهاد من أجل الحب"، على الجائزة الخاصة لمهرجان تورنتو للأفلام، وهو يرصد حياة المثليين/ ات المسلمين/ ات في 12 دولةً، منها إيران ومصر وجنوب إفريقيا وفرنسا، وهو من إخراج بارفيز شارما.

استطاعت بعض الأفلام العربية كسر التابوهات المتعارفة وتحويل قصص الشخصيات التي فرض عليها المجتمع الشرقي التهميش إلى مواد سينمائية شاهدها الآلاف وربما الملايين، ولكن بقيت مشاركة هذه الأفلام أو أعدادها خجولةً جداً، ولا توجد العديد من المهرجانات العربية مثلاً، المختصة بأفلام من هذه النوعية، إلا أن مهرجان "SRHR Film Days" في بيروت، والذي امتد من 29 تشرين الثاني/ نوفمبر وحتى الثاني من كانون الأول/ ديسمبر الجاري، بتنظيم من مجتمع بيروت للأفلام ومعهد الأصفري للمجتمع المدني والمواطنة في الجامعة الأميركية في بيروت، قرر دعم الأفلام الوثائقية التي تروي قصصاً تقدّم فهماً للصحة الجنسية والإنجابية والحقوق الجنسية مثل الدورة الشهرية والعنف القائم على النوع الاجتماعي وغيرها من المواضيع، بأفلام عربية وأجنبية من جنوب غرب آسيا وشمال إفريقيا وغيرها من البلدان، ومنها فيلم "Exit Beirut" الذي تحدث عن التناقض الذي تمرّ به الفتاة بين المثلية التي تعيشها في السر، وبين الحياة الاجتماعية العلنية التي تلعب فيها دورها كزوجة وأم لديها مسؤوليات، بينما عرض فيلم "Belly Dance Vogue" قصة شخص عابر جنسياً استطاع أن يعيش الحياة التي يرغب فيها بعد السفر، بينما فيلم "Nidhal" عرض قصة شاب تونسي قرر اللجوء إلى هولندا بعد أن عجز عن أن يعيش حياةً طبيعيةً في تونس في ظل القوانين هناك.

واختلفت الأفلام بين تلك التي عرض المخرج فيها قصته الحقيقية، وبين تلك التي اقتبس فيها قصةً لأشخاص آخرين، ولكنها أفلام واقعية حدثت مشاهدها قبل سنوات طويلة، وقرر أصحابها الاحتفاظ بها، ثم في لحظة ثقة قرروا نقلها إلينا لنشاهد ما يحدث بعيداً عن الذي تفرضه علينا شوارعنا العربية أو قنواتنا الرسمية، ليثبتوا أن الحق في تحويل قصصنا إلى مواد علنية لا يقتصر على الشخصيات التاريخية أو التي تتوافق والذوق العام.

مخرجة تروي قصتها

تصوّر أنك تشاهد فيلماً سينمائياً يتحدث عن قصتك أو عن حدث مرّ في حياتك. سوف يبدو الأمر غريباً ومثيراً وربما مخجلاً أو مقلقاً، لأننا نميل بالفطرة إلى إظهار التفاصيل الجميلة الناصعة من حياتنا وإخفاء كل ما هو سلبي، ولو أتيحت لنا الفرصة للتحدث عن أنفسنا أمام المجتمع أو في مكان للتوظيف لجعلنا من أنفسنا شخصيات أسطوريةً، ولكن ماذا لو كنت مخرجاً قررت أن تصنع من قصة حياتك فيلماً وثائقياً لا مجال فيه للتزييف والإخفاء؟

قد تفكر ملياً في الأمر، إلا أن مادونا أديب، أخذت القرار بالفعل وصنعت من رحلتها فيلماً أطلقت عليه اسم Let My Body Speak، وحكت فيه عن أشكال المعاناة في طفولتها أيام المدرسة، حين أطلق عليها محيطها لقب "حسن صبي"، وهو كناية عن اختلافها عن بقية الفتيات أو عدّها أقرب إلى الفتيان، ثم معاناتها في المراهقة مع الجسد والأثداء والشعر وغيرها من الملامح، ومعاناتها مع هويتها الجنسية التي دفعتها لإقامة علاقات مغايرة كي تنسى واقعها، حتى قررت أن تغادر سوريا في النهاية لتضع كل تفاصيل حياتها في فيلم.

صنعت مادونا أديب من رحلتها فيلماً أطلقت عليه اسم Let My Body Speak، وحكت فيه عن أشكال المعاناة في طفولتها أيام المدرسة، حين أطلق عليها محيطها لقب "حسن صبي"

تقول صانعة الفيلم، مادونا أديب، لرصيف22: "لا أحد يتحدث عن أحد، أنا أتحدث عن نفسي، ولا أرغب أن يتحدث عني أحد أو أن يصوّر مخرج آخر قصتي. كنت حقيقيةً جداً في صناعة الفيلم، ودار نقاش طويل بيني وبين المنتجة حول ذكر كل تفاصيل قصتي وبشكل مباشر، لأني كنت أرغب أحياناً في إلغاء بعض التفاصيل التي قد تسبب لي الخجل أو الحرج، ولكن في النهاية الفيلم حقيقي ويجب أن يحتوي على كل التفاصيل".

قد تتقاطع تفاصيل مراحل معاناة مادونا مع العديد من الشخصيات التي يفرض عليها المجتمع أن تكون هامشيةً أو تبتعد عن المسار الرئيسي، وكأنه يجب على بعض الشخصيات أن تسير على جانبي الطريق كي لا يصلها الضوء، ويحرم البعض من أبسط الحقوق الممنوحة لكل كائن حي وهو الجسد، وهذه النقطة التي ركزت أديب عليها، وقررت أن تدع جسدها يتكلم وصوّرت تفاصيله في لقطات حقيقية بعيدة عن التجميل والتلوين، وكأنها في معركة مع المجتمع لاستعادة جسدها.

"الفيلم يتحدث عن رحلتي لاستعادة ملكية الجسد من مجتمع أبوي أعطى نفسه الحق في السيطرة عليه وأخذه، والرحلة أخذت وقتاً طويلاً إذ شرحت فيها كيف أُخِذ مني جسدي رويداً رويداً حتى استعدته مجدداً بعد السفر"

تضيف مادونا: "كل المراحل التي ذُكرت في قصتي من الطفولة إلى المراهقة فالشباب، وكل المعاناة التي تضمنتها أعدّها مرحلةً واحدةً ومتشابهةً، ولكن كل مرحلة فيها ‘تروما’ مختلفة، وأتحدث عن قصة شخصية يمكن لكل شخص أن يأخذ منها ما يشاء، ولكن نقطتي الرئيسية هي الكشف عن تأثير القمع بكل أشكاله على الجسد، وأناقش الجسد كواقع اجتماعي تحت قمع سياسي واجتماعي، لأن كل ما يحدث اجتماعياً تأتي آثاره على الجسد، ورغبت في التحدث عن الأمر بصوت عالٍ لأن هناك العديد من الأشخاص الذين يعتقدون أنهم وحيدون في هذه الدائرة".

وتتابع: "الفيلم يتحدث عن رحلتي لاستعادة ملكية الجسد من مجتمع أبوي أعطى نفسه الحق في السيطرة عليه وأخذه، والرحلة أخذت وقتاً طويلاً إذ شرحت فيها كيف أُخِذ مني جسدي رويداً رويداً حتى استعدته مجدداً بعد السفر"، هذا وتختم حديثها عن الجسد بالقول: "إنه أرضي الوحيدة لأني خسرت كل شيء في ذلك المكان الذي غادرته، لذا استعدته وهو الشيء الوحيد الذي أملكه والذي سوف يبقى لي".

لم تكن السينما يوماً إلا مرآة المجتمع بأكمله، وفي الوقت الذي ينشغل فيه العالم الآن في موجة مشاهدة أفلام الإثارة والأكشن ومحاولة فرض شخصيات سلبية من القتلة والمجرمين والمهربين على أنهم أبطال، قصداً ومن دون قصد، أليس الأولى الالتفات إلى شخصيات اجتماعية موجودة فعلاً وتضطر إلى أن تمشي في الظل في شوارعنا العربية، بسبب سياسات القمع والتمييز والاضطهاد؟ مع التشديد على أنه من الضروري التعاطي مع جميع الناس، بمختلف توجهاتهم الجنسية والجندرية، بعيداً عن مبدأ التعاطف أو الإثارة أو النظر إليهم من منظور شبّاك التذاكر وبيع البطاقات. 

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

المجاهرة العنيدة بأفكارنا

ظننا يوماً أنّ تشبثنا بآرائنا في وجه كلّ من ينبذنا، هو الطريق الأقوم لطرد شبح الخوف من الاختلاف.

لكن سرعان ما اتّضح لنا أنّ الصراخ بأعلى صوتٍ قد يبني حواجز بيننا وبين الآخرين، وبتنا نعي أنّ الظفر بالنجاح في أيّ نقاشٍ والسموّ في الحوار، لا يتحقّقان إلا بفهمٍ عميق للناس الذين ينفرون منّا، وملاقاتهم حيث هم الآن.

Website by WhiteBeard