جمعية الشعراء والفلاسفة الرومانسيين في "ينا"
برزت فكرة الكتابة بشكل جماعي وطبع المجلات أو الكتب المشتركة، وتجميع مجموعة من الكتّاب والشعراء معاً تحت عنوان "الاجتماع الأدبي"، في الغرب. وتعود الفكرة إلى حلقة "ينا"، وهي حلقة من الكتّاب الرومانسيين الألمان الذين اجتمعوا في القرن التاسع عشر الميلادي في مدينة ينا في ألمانيا، وكان الأخوان شليجل ونوواليس النواة الرئيسية لهم.
أحد الإخوة، فريدريش شليجل، وهو الشاعر والناقد الأدبي والفيلسوف والمستشرق الألماني (1772-1829)، وُلد في عائلة بروتستانتية، لكنه تخلّى في شبابه عن دين أسرته، لصالح اللاهوتية والفردانية، ودخل الجامعة لدراسة الحقوق، لكنه ركز بدلاً من ذلك على الأدب الكلاسيكي، وبدأ حياته المهنية ككاتب ومحاضر، وأسس مجلة "آتينيوم"، وهي مجلة جمعت بين شعراء وكتّاب الرومانسية الآخرين حول فكرة الاجتماع الأدبي.
هناك اقتباس شهير لأحد أعضاء إخوان الصفا، يعكس إلى حد كبير نهجهم في التوفيق بين الدين والفلسفة في عصر العباسيين، وهو: "الشريعة طبّ المرضى، والفلسفة طبّ الأفراد الأصحاء. الأنبياء يعالجون المرضى لئلا تتفاقم مرضاهم، لكن الفلاسفة يسعون إلى الحفاظ على صحة الأفراد الأصحاء لكيلا يصابوا بالمرض"
كان فريدريش، هو الأبرز في الحركة الرومانسية، والراعي الرئيسي لـ"آتينيوم" التي شكلّت محوراً للحركة الرومانسية. نشر فريدريش، في عام 1819، نظريته اللغوية التي أظهرت أن اللغات الهندية-الإيرانية والألمانية متصلة تحت اسم "اللغات الآرية"، وكان أول فيلسوف يحوّل كلمة "آريان" إلى مفاهيم عنصرية، وتالياً أقام رابطةً بين الرومانسية والفاشية. توفي فريدريش شليجل في عام 1829، عن عمر يناهز 56 عاماً.
الشاعر والفيلسوف فريدريش غرايهر فون هاردنبرج، المعروف بلقب نوفاليس (1772-1801)، كان آخر أعضاء حلقة ينا، والاجتماع الأدبي آتينيوم. كانت وفاته تعني بطريقة ما انهيار مجموعة الرومانسيين في ينا، حيث كان نوفاليس بالتعاون مع شليجل (فريدريش وأوغست)، وشلايرماخر، يسعى إلى تأسيس عقيدة جديدة وكانوا يتحدثون عن العودة إلى جذور الدين بحثاً عن كتابة إنجيل جديد يستند إلى الروحانية البشرية، ويكون خالياً من أي ارتباط بالدين الرسمي والحكومة.
شلايرماخر (1768-1834)، كان فيلسوفاً ولاهوتياً ألمانياً، يُعدّ رائداً في علم التفسير الحديث، وبسبب تأثيره الكبير على التفكير المسيحي المتأخر، عُدّ واحداً من آباء اللاهوت الحديث في مجموعة ينا الأدبية ومجلة آتينيوم، وهذه الاجتماعات الأدبية برغم عمرها القصير، كانت بداية الحركة الرومانسية الكبيرة التي أثرت في الفكر الأوروبي والعالم على مدار القرن العشرين.
مجموعة أَسيفال السرّية في باريس
بإلهام من مجموعة ينا الأدبية في ألمانيا، أسس الكاتب الفرنسي جورج باطاي، في باريس مجموعة أَسيفال السرّية، وذلك بهدف التجمع الأدبي السرّي الذي كان ينشر مجلات تحمل الاسم نفسه، وبأفكار معادية للفاشية تنفي أي سلطة وتروّج لأفكار التمرّد والراديكالية.
جورج باطاي (1897-1962)، كان فيلسوفاً وكاتباً فرنسياً، ورائداً وملهماً للعديد من الفلاسفة اللاهوتيين الحديثين الفرنسيين، وذلك خلال سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية، كما شارك لفترة مع السورياليين، لكنه انفصل في ما بعد عنهم. كانت مجالات اهتمام باطاي تشمل الفلسفة والاقتصاد والنظرية الأدبية وكتابة الرواية وعلم الجمال والسياسة.
برغم أن تاريخ الاجتماعات الأدبية في أوروبا يعود إلى قرنين مضيا فحسب، إلا أن المجمع الأدبي للإخوان الصفا في الشرق الأوسط يعود إلى آلاف السنين. "إخوان الصفا وخلان الوفا"، هو عنوان اختاره كتّاب دائرة المعارف العلمية والفلسفية، المعروفة بـ"رسائل إخوان الصفا"، لأنفسهم ولأتباعهم.
يرى كثر أن فلسفته كانت بمثابة الإجابة على الفاشية في عصره، إذ كانت تستهدف مجالات مثل: نسف أي تسلسل هرمي، وقطع أي رأس قيادي، ورفض أي سلطة تقليدية مثل الإله. وفي المقابل، سعى إلى تأسيس فضاء مشترك بين الأشخاص الذين لا يملكون قائداً. مفهوم الصداقة والاجتماع الأدبي كان من بين أهم المواضيع الفلسفية لباطاي.
في عام 1936، أسس باطاي في باريس مجموعةً أدبيةً سرّيةً تحت عنوان أَسيفال (Acéphale)، التي نشرت مجلةً بالعنوان نفسه، وتم نشر أول أربعة أعداد من مجلة أسيفال بين عامي 1936 و1937، وكان العدد الأول للمجلة نتاج عمل جماعي، يحتوي على ثماني صفحات فقط وبدأ بنص باطاي بعنوان "العصر المقدس"، وبعد ذلك جاء فيها نص للكاتب بيير كلوسوفسكي بعنوان "الوحش".
كانت على غلاف المجلة رسومات للرسام الفرنسي أندريه ماسون، تصوّر هيكلاً من دون رأس، وهو تمثال عن رمز للأَسيفال، وهذه المفردة هي في حد ذاتها كلمة يونانية تعني "من دون رأس". وهذه اللوحة استُلهمت بوضوح من لوحة ليوناردو دافنشي المشهورة بعنوان "الإنسان الفيتروفي"، التي تظهر رجلاً من دون رأس يخفي جنسه. وذلك هو النهج الأساسي للأسيفال، الذي لم يكن للجندر فيه أي دور.
المتنوّرون الإيرانيون في البصرة
برغم أن تاريخ الاجتماعات الأدبية في أوروبا يعود إلى قرنين مضيا فحسب، إلا أن المجمع الأدبي للإخوان الصفا في الشرق الأوسط يعود إلى آلاف السنين. "إخوان الصفا وخلان الوفا"، هو عنوان اختاره كتّاب دائرة المعارف العلمية والفلسفية، المعروفة بـ"رسائل إخوان الصفا"، لأنفسهم ولأتباعهم. وحول هوية إخوان الصفا، هناك اختلافات كثيرة وغموض تاريخي كبير، لأنهم كانوا يخفون بفعل القصد أسماءهم لكيلا تؤثر شخصيتهم على تقييم ما يكتبونه، ووفقاً للمستشرق الفرنسي هنري كوربان، كانوا طيبين ومخلصين يقدّمون أنفسهم في رسائلهم على أنهم مجموعة صالحة، ولكنهم لم يذكروا أسماءهم.
ما نعلمه اليوم هو أن إخوان الصفا كانوا مجموعةً من الفلاسفة المسلمين الإيرانيين في القرن الرابع الهجري، وكان المنهج الروحاني، ومفاهيم الصداقة والأخوة والصفا في صلب أفكارهم، كما كان مفهوم الأخوة بالنسبة لهم مفهوماً عابراً للجنس، حيث أن هدفهم كان إنشاء مجتمعات إسلامية تقوم على الصداقة بين الفلسفة اليونانية والدين من جهة، وبين جميع الأديان وأتباعها في بيئة خالية من التحيّز من جهة أخرى.
في مجمعهم الأخوي هذا، كان التوافق الروحي شرطاً للتقارب، وكانت الجنسية والدين والعرق أو الأصل الاجتماعي للأفراد لا تعني شيئاً لهم. فببساطة النساء والرجال كانوا يُقبلون في هذه الدائرة، شرط أن يكون لديهم التوافق الروحي. وبحسب معتقداتهم مثلما كان يحق للأنبياء مثل آدم ونوح وإبراهيم وموسى هداية الناس، فيمكن لزرادشت النبي الإيراني وأفلاطون الفيلسوف اليوناني، أيضاً أن يهديا الناس. ومن وجهة نظر إخوان الصفا، إله أنبياء بني إسرائيل هو الإله نفسه الذي يدعوه زرادشت آهورا مزدا، كما أنه الأصل نفسه الذي يطلق عليه أفلاطون اليوناني اسم "الخير العليا".
عاش هؤلاء المثقفون المجهولون، في زمن الخلافة العباسية، وكانوا يعتقدون أن الشريعة الإسلامية ملوثة بالجهل ومختلطة بالخرافات، وأنه ينبغي استخدام الفلسفة والعلوم الطبيعية لتنقيتها، وبرأيهم عندما تتناغم الفلسفة اليونانية مع الشريعة الإسلامية يتحقق الكمال المنشود، ولهذا السبب قاموا بنشر رسائلهم بشكل مجهول وجعلوها متاحةً للجميع ليثبتوا أنه ليس لديهم هدف آخر سوى إرضاء الله وتحسين المجتمع المسلم.
وهناك اقتباس شهير لأحد أعضاء إخوان الصفا، يعكس إلى حد كبير نهجهم في التوفيق بين الدين والفلسفة في عصر العباسيين، وهو: "الشريعة طبّ المرضى، والفلسفة طبّ الأفراد الأصحاء. الأنبياء يعالجون المرضى لئلا تتفاقم مرضاهم، لكن الفلاسفة يسعون إلى الحفاظ على صحة الأفراد الأصحاء لكيلا يصابوا بالمرض".
برغم أن هوية مؤلفي رسائل إخوان الصفا غامضة، إلا أن العديد من التخمينات قد نشأت حول هوية أعضاء هذه الدائرة في التاريخ. في السياق نفسه كشف العالم والأديب والفيلسوف الإيراني في القرن الرابع الهجري، أبو حيان التوحيدي، عن هوية بعضهم ووصف هدف كتابة رسائلهم بأنه "إنقاذ الدين بواسطة الفلسفة".
وحول زيد بن رفاعة الذي يعتقد أنه واحد من أفراد هذه الجماعة الفكرية، يقول: "لقد أقام لفترة طويلة في البصرة وأحضر أصدقاء مطلعين على مجموعة متنوعة من العلوم والمهارات الصناعية، مثل أبي سليمان محمد بن معشر البيستي، وأبي الحسن علي بن هارون الزنجاني، وأبي أحمد المهرجاني، والعوفي... تأسست هذه الجماعة واضعةً لنفسها مذهباً تقول فيه إن الشريعة قد تلوثت بالجهل وإنه لا يمكن تطهيرها إلا من خلال الفلسفة".
هنناك مؤرخون يقولون إن إخوان الصفا كانوا من الشيعة، كما يعدّهم البعض من ذرية الإمام السادس للشيعة جعفر الصادق، وذلك نظراً إلى بعض المعتقدات الشيعية الظاهرة بوضوح في رسائلهم
ترك إخوان الصفا 54 رسالةً باللغة العربية، و14 رسالةً في الرياضيات، و17 رسالةً في العلوم الطبيعية، و10 رسائل في العلوم النفسية، و11 رسالةً في الأخلاق، ورسالة واحدة كمقدمة ورسالة أخرى كخلاصة.
يرى العديد من المؤرخين أن جماعة إخوان الصفا، على الرغم من أنها تأسست أولاً في البصرة، وانتقلت لاحقاً إلى بغداد وانتشر أعضاؤها في ما بعد في مدن مختلفة، لكن في المقابل هناك مؤرخون يقولون إنهم كانوا من الشيعة، كما يعدّهم البعض من ذرية الإمام السادس للشيعة جعفر الصادق، وذلك نظراً إلى بعض المعتقدات الشيعية الظاهرة بوضوح في رسائلهم، ومع ذلك، ووفقاً لما ذكر في رسائلهم، يمكن القول إن هؤلاء المفكرين لم يكونوا ملتزمين بأي مذهب معيّن وكانوا يعتقدون أنه لا يجب أن يكون هناك تعصب تجاه أي مذهب. ويرى العديد من المؤرخين أن إخوان الصفا جزء من الفلاسفة الإسماعيليين، والإسماعيليون جماعة من الشيعة اعتقدت بإمامة إسماعيل بن جعفر الصادق.
حكم الإسماعيليون في فترات مختلفة من الزمن، بما في ذلك في فترة حكم الفاطميين في مصر وإفريقيا، التي تُعدّ الفترة الذهبية للفكر والأدب الإسماعيليين، حيث يذكر جميع كتّاب الإسماعيليين رسائل إخوان الصفا ضمن نصوصهم، على الأقل في المراحل الأولى لانتشار المذهب الإسماعيلي.
وقد اتبع الباحثون الغربيون في الغالب الفرضية نفسها، فمرةً يعدّهم هنري كاربون مجموعةً ذات فكر إسماعيلي، ومرةً أخرى، يُقدّم رسائل إخوان الصفا على أنها "نصبٌ خالدٌ للفكر الإسماعيلي". في النهاية، يظلّ إخوان الصفا من ألغاز التاريخ الفكري، وتأتي رسائلهم كشاهد معقد على تنوع وتعدد اتجاهات الفكر في فترة زمنية حيوية من تاريخ الإسلام.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...