"جماعة الموتى أو مرثية قميص صوفيا الملطخ بالدماء"، هو عنوان رواية للكاتب الإيراني فريد قدمي، التي صدرت طبعتها الجديدة مؤخراً في إيران عن دار هيرماند للنشر. تبدأ هذه الرواية باللغتين الفارسية والبلغارية في وقتٍ واحد، فبرغم أن اللغة الرئيسية للرواية هي الفارسية، إلا أن القارئ يصادف خلالها أجزاء مكتوبةً باللغات الإنكليزية والفرنسية والروسية والألمانية.
تتحدث الرواية عموماً عن ثلاثة أزمنة وسياقات تاريخية مختلفة، والروايات الثلاث تتقاطع مع بعضها البعض وتلتقي في النهاية. فالرواية الأولى لها جانب السيرة الذاتية يحكي فيها "قدمي"، بضمير المتكلم، عن تجاربه في أثناء إقامته في بلغاريا عام 2019، حيث كان كاتباً مقيماً في دار ضيافة صوفيا الأدبية في عاصمة بلغاريا، ويصف فيها جزءاً كبيراً من تجاربه، خلال مكوثه في ثلاث مدن بلغارية، هي صوفيا وروسه وبورغاس.
اللقاء مع شعراء وكتاب بلغاريا الحديثين، وزيارة منزل الشاعر الوطني البلغاري نيكولا فابتساروف، ووصفه لمدن بلغاريا وثقافة الشعب البلغاري وروحه، تشكل هذا الجزء من الرواية.
ومن المثير أن جميع الأبطال والشخصيات الموجودة في هذه الرواية حقيقيون، فمن حسن الصبّاح (1124-1037) مؤسس الطائفة الإسماعيلية المعروفة بـ"الحشاشين"، إلى جيمس جويس الكاتب الإيرلندي في القرن العشرين، وفلاديمير لينين الزعيم الشيوعي السوفياتي، وحتى كتّاب بلغاريا الحديثين، مثل: فيلينا مينكوف (Velina MINKOFF) وإزدراوكا أوتيموفا (Zdravka Evtimova) ويانا جينوفا رئيس دار الأدب في مدينة صوفيا.
تتضمن هذه الرواية نقداً لاذعاً للسياسة والسلطة في العالم المعاصر، وذلك من خلال سرد قصة السياسة في ثلاث مناطق جغرافية وثلاثة أزمنة مختلفة في الشرق الأوسط، والاتحاد السوفياتي الشيوعي، وبلغاريا ما بعد الشيوعية الحالية
يصف المؤلف في الجزء الأول من الرواية، اليوم الأول من إقامته في مدينة صوفيا على النحو التالي: "يانا امرأة في الأربعين من عمرها، طويلة القامة وذات وجه مبتسم وتعبير صريح، مثل هيبية مثقفة تخرجت من جامعة هارفرد. نحن ضيوفها على الغداء، تم ترتيب طاولات المطعم في مساحة مفتوحة، على منصة تطل على الرصيف، جو منتصف النهار في شهر أغسطس بارد جداً وممتع هناك، لدرجة أنني لا أستطيع أن أصدق أننا في هذا الوقت من العام، فلقد جئت من طهران حيث كانت الحرارة تبلغ 40 درجةً مئويةً. قطرات من المطر تبلل الأرصفة ويتصاعد عطر المطر. انتهى الغداء، نعود إلى المنزل لنستحم ثم نخرج مرةً أخرى لنجوب وسط المدينة، وينابيع المياه المعدنية، وكنيسة ألكسندر نيفسكي، والحي العربي الذي أغلب سكانه سوريون. للوهلة الأولى رأيت، صوفيا مدينةً أنثويةً، فهي مدينة تحرسها قديسة اسمها صوفيا، وُضع تمثالها في وسط المدينة بدلاً من تمثال لينين، القديس الحارس للمدينة الذي كان يشبه كل شيء إلا شاكلة القديس. وربما تجد صورة هذه القديسة في كتاب الألفية والشلفية، الذي يذكرني بكليوباترا ملكة مصر قبل أي شيء، إذ كانت على غلافه صورة هذه القديسة وقد قرأته منذ سنوات. تشرح لي يانا بقايا العصر البيزنطي، التي تم اكتشافها في وسط المدينة في أثناء الحفر لمترو الأنفاق، بينما تم بناء مترو الأنفاق في ذلك الوقت مع الحفاظ على هذه الآثار التاريخية. صورة مذهلة لا أعتقد أنه يمكن رؤيتها في أي مكان في العالم، أطلال من العصر البيزنطي محاطة بهياكل حديثة، تشبه ما يفعلونه أحياناً في صناعة الموضة، مزيج من الملابس الحديثة مع ملامح من العصر الماضي".
من صوفيا إلى حسن الصبّاح
أما الجزء الثاني في هذه الرواية، فهو عبارة عن قصة تاريخية، تبدأ في قلعة ألموت التاريخية (شمال إيران)، وبوفاة "محمد بن بزرك أميد" الزعيم الثالث للإسماعيليين سنة 1162، وصولاً إلى ابنه الحسن الثاني الذي تزعّم هذه الفرقة الشيعية النزارية، والذي يحظى بشعبية كبيرة بين الإسماعيليين، وقد عدّه كثيرون منهم الإمام الموعود، الذي بشّرهم "حسن الصبّاح" بإمامته.
كان الحسن الثاني هو القائد الرابع لقلعة ألموت، وهو القائد الذي خلف ثلاثة قادة، هم: حسن الصبًاح وكيا بزرك أميد ومحمد بن بزرك أميد. تأسست الحكومة النزارية على يد حسن الصبّاح في قلعة ألموت عام 1090، وهي حكومة ثورية، انتفضت بهدف إنقاذ إيران من حكم الأتراك السلاجقة. استولى حسن الصبّاح على هذه القلعة التي تم بناؤها على قمة جبل في "سلسلة جبال البرز" التي تمتد من شمال غرب إيران حتى شمال شرقها، وقرر تحويلها إلى مقر لثورته العظيمة، التي جاءت لتأسيس مجتمع بلا أي تسلسل للمقامات، حيث لا فرق بين واعظ وفلاح ووزير وصانع أحذية.
وفي هذا الجزء من الرواية نقرأ: "القلعة التي حوّلها حسن صباح إلى حصنه الثوري، كانت في البداية ملكاً للأتراك السلاجقة الذين لم يرضَ وزيرهم الشهير 'خواجه نظام الملك' إلا بإراقة دم حسن. جاء حسن صباح أولاً إلى نهر الديلم (جنوب إيران) في زِي المعلم، وأرسل رفاقه لدعوة أهالي ألموت للمذهب الإسماعيلي. كما استخدم لقباً مزيفاً باسم 'دهخدا' لتعليم أطفال الحراس وشيوخ القلعة، وفي فترة قصيرة، أقل من عام، تمكن من زج أتباعه داخل القلعة وتمكن من السيطرة على الحراس وبالنتيجة استولى على القلعة بأسرها. وفي السنوات التالية، قام حسن الصباح بتزويد وتطوير معدات القلعة وبنائها، وأنشأ فيها مكتبةً كبيرةً، في هذه القلعة التي لا يصل إليها إلا النسور ومقاتلو الجبال "الحشاشون". وعلّم أتباعه الذين أطلقوا عليه اسم 'سيدنا' تعاليمه الروحية والعسكرية، وسرعان ما تردد اسم حسن الصبّاحمن الديلمان حتى القدس".
حسن الصباح الذي لم تكن لديه القوة للزحف إلى مختلفة مدن إيران وطرد الأتراك السلاجقة، لم يجد طريقةً سوى اغتيال النبلاء السلاجقة من جهة، وفتح القلاع الأخرى في جميع أنحاء البلاد من جهة أخرى، حيث أرسل أتباعه من قلعة ألموت إلى أقصى أنحاء البلاد لاغتيال الطغاة السلاجقة ومرتزقتهم، مؤكداً على عدم سفك دماء الأبرياء. بعد وفاة حسن الصبّاح، واصل كيا بزرك أميد ومحمد بن بزرك أميد مسيرته، وعندما أصبح الحسن الثاني زعيماً لألموت، وصل صيت شجاعة مقاتليه الجبليين إلى عواصم أوروبا.
ويبدأ هذا الجزء من الرواية بحدث تاريخي في الثامن من آب/ أغسطس عام 1164، والذي يوافق السابع عشر من رمضان، يوم أعلن الحسن الثاني، المعروف بالحسن علي ذكرى السلام، القيامة في ألموت، وأجاز للشيعة النزاريين عدم أداء الشعائر الدينية مثل الصلاة والصيام، وفي ذلك الحين فتح شيعة ألموت براميل النبيذ واحتفلوا بيوم القيامة بأمر من الحسن الثاني. ومن هنا تروي الرواية رحلة رشيد الدين سنان وفتاة بلغارية اسمها "صوفيا"، وهما يسافران من ألموت إلى سوريا لاغتيال حاكم القدس نور الدين الزنكي، الذي كان أحد حكام الأتراك من النظام الزنكي، بين فترة 1146-1146.
في هذه الرواية يصعب على القارئ تحديد الحدود بين الحقيقة والخيال، لأن الكاتب فريد قدمي، قد مزج فيها الشخصيات والأحداث الخيالية مع الشخصيات والأحداث التاريخية بتفاصيل دقيقة.
سروال ستالين
الرواية الثالثة، قصة حياة فلاديمير ماياكوفسكي، التي تبدأ في موسكو، وتستمر في برلين وباريس وإسطنبول، وتنتهي في مدينة صوفيا عاصمة بلغاريا. كان فلاديمير ماياكوفسكي (1893-1930)، شاعراً وكاتباً مسرحياً ثورياً روسياً، عُرف مسرحه وشعره بأنهما مسرح الثورة وشعرها. وهو أهم وأشهر شاعر شيوعي في الاتحاد السوفياتي، أنهى حياته بإطلاق النار على نفسه عن عمر يناهز 36 عاماً.
ولكن بحسب قدمي، فإن ماياكوفسكي لم ينتحر في موسكو، بل كان هناك طالب إيراني أدى مشهد انتحاره، وذهب هو إلى برلين برفقة ستالين، حتى أن قدمي يكتب في هذه القصة قصائد باللغة الروسية وبأسلوب ماياكوفسكي، مما يجعلنا نعتقد أن روايته الخيالية هذه، واقعية.
حتى أن هناك مذكرةً لزوجة ميخائيل بولغاكوف (1891-1940)، الكاتب الروسي الشهير الذي كتب العديد من الأعمال وانتقد من خلالها الشيوعية والديكتاتورية السوفياتية، تدخل في هذه الرواية وتشير إلى اللقاء الذي جمع بين ماياكوفسكي والدكتاتور السوفياتي جوزيف ستالين، لكننا نعلم أن لا هذا اللقاء حدث ولا وجود لمثل هذه المذكرة، بل كلها من نسج خيال الكاتب: "جاءوا في الظهيرة لرؤية ميخائيل من مسرح موسكو، نفس الكلام المعتاد عن العمل الذي كان ميخائيل سيكتبه عن حياة الرفيق ستالين. شعرت بالملل. فارتديت معطفي وخرجت من المنزل لأتمشى في الحديقة الملكية. كانت السماء تمطر بهدوء ولم يكن الطقس قارساً. وعندما مررت بمكتبة لينين، رأيت ماياكوفسكي، الذي كان واقفاً بجوار تمثال دوستويفسكي وهو يرتدي قبعةً ومعطفاً واقياً من المطر وبيده عصا، ويكتب شيئاً في دفتره. لم يرَني. فقلت له: 'فولوديا، هل يغششك دوستويفسكي؟'. فضحك وقال: 'أوه، لا. إنني سأزور الرئيس. قلت في نفسي لأوصل رسالة دوستويفسكي، إلى العم 'أبو شنب'. فأكتب ما يقول حتى لا أنساه. سألته: 'هل حقاً ستقابل الرفيق ستالين؟'. أجاب: 'كان من المفترض أن يأتي إلى منزلي، لكنني أخبرته أن شاربه قد لا يتسع في غرفتي الصغيرة، وسوف يخرج من النافذة، فمن الممكن أن تظن الجارة أنه حبل غسيل وتعلق ملابسها الداخلية عليه'. ماياكوفسكي هذا شخص غريب. وهو يختلف عن الشعراء الشيوعيين الآخرين؛ طوال اليوم كنت أفكر في صورة عمه ستالين 'أبو شنب' التي صورها لي. من المستحيل أن تفهم متى يمزح ومتى يكون جاداً. فهل كان يواعد الرفيق ستالين حقاً؟".
لكن ما الذي يربط هذه الأجزاء الثلاثة المختلفة من الرواية ببعضها؟ يمكن فهم هذا الموضوع من خلال اسم الرواية: "مجمتع الموتى" و"صوفيا".
تُعدّ عناصر مثل الفكاهة والموقف النقدي والنقد السياسي، من السمات البارزة لروايات الكاتب الإيراني فريد قدمي، والتي يمكن قراءتها في هذه الرواية أيضاً، وتحديداً في الجزء المكتوب باللغة الإنكليزية، الذي جاء على شكل سلسلة من التغريدات
Commune كلمة لاتينية تعني المجمتع، ومنها اشتُّقت كلمة "الشيوعية". فعنوان الرواية بالفارسية أي "كُمون مُردگان" تعني جماعة الموتى، حيث يجمع المؤلف في هذه الرواية الموتى من فترات تاريخية مختلفة ومواقع جغرافية متباعدة.
ولكن ما الذي يجمعهم؟ "صوفيا"! صوفيا هو اسم عاصمة بلغاريا وكذلك اسم المرأة في هذه الرواية، فهي الفتاة التي يقابلها المؤلف في طائرته في أثناء سفره إلى بلغاريا، وهي الفتاة البلغارية التي انضمت إلى الإسماعيليين في العصور الوسطى وسعت إلى اغتيال ملك القدس، وكذلك هي حبيبة ماياكوفسكي في بلغاريا. يبدو أن "قدمي" يريد أن يخبرنا أن كل هؤلاء النساء هي صوفيا نفسها.
تُعدّ عناصر مثل الفكاهة والموقف النقدي والنقد السياسي، من السمات البارزة لروايات الكاتب الإيراني فريد قدمي، والتي يمكن قراءتها في هذه الرواية أيضاً، وتحديداً في الجزء المكتوب باللغة الإنكليزية، الذي جاء على شكل سلسلة من التغريدات؛ فدونالد ترامب الرئيس السابق للولايات المتحدة والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ووزير خارجية إيران السابق محمد جواد ظريف وزعيم كوريا الشمالية كيم جونغ اون، يخوضون خلاله معركةً على منصة تويتر، تبدأ بتغريدة من دونالد ترامب يقول فيها إن زوجته هي أجمل امرأة في العالم، لكن كيم جونغ أون لا يوافق على ذلك.
تتضمن هذه الرواية نقداً لاذعاً للسياسة والسلطة في العالم المعاصر، وذلك من خلال سرد قصة السياسة في ثلاث مناطق جغرافية وثلاثة أزمنة مختلفة في الشرق الأوسط، والاتحاد السوفياتي الشيوعي، وبلغاريا ما بعد الشيوعية الحالية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...