أصدر الرئيس السوري بشار الأسد، بوصفه القائد العام للجيش والقوات المسلحة، أمراً إدارياً مطلع هذا العام الجديد، يقضي بتسريح سبعة آلاف صف ضابط وفرد من الجيش السوري. وجاء في الأمر وفق وزارة الدفاع: "أصدر سيادته أمراً إدارياً يقضي بإحالة نحو سبعة آلاف متطوع ممن لديهم أوضاع اجتماعية وإنسانية خاصة، على المعاش التقاعدي بناءً على رغبتهم".
بدا القرار مربكاً للمتابعين، ومشتتاً، وفي مكان مفاجئاً للسوريين؛ فسبعة آلاف جندي هم تقريباً قوام فرقة عسكرية مقاتلة بأكملها، والبلد لا يزال يرزح تحت وطأة حرب هائلة وتقاسم مريب للنفوذ.
ففي الشمال الغربي تسيطر جبهة النصرة "هيئة تحرير الشام". وفي الشمال تسيطر تركيا والجيش الوطني المدعوم منها. وفي الشمال الشرقي أمريكا وقوات سوريا الديمقراطية. وفي الشرق قاعدة التنف الأمريكية وعمليات "داعش" المتنامية. أما في الجنوب، فالسويداء التي دخلت شهرها الخامس معتصمةً في مواجهة السلطة، تجاور درعا التي قصف الأردن مواقع في محيطها أواخر العام الفائت، وفيها تمتلك السلطة تمثيلاً صورياً لا أكثر.
فعلامَ يدل ذاك القرار؟ يتساءل السوريون المتوجسون من حرب قادمة على الأبواب باتت قريبةً. ويضيفون: هل حلّ الجيش بات قريباً تمهيداً لسيطرة المال على القرار الميداني؛ وفاغنر ومكاسبها النفطية على الأرض السورية نموذج؟
بهذا القرار تكون قد اكتملت صورة يمكن تعميمها على عام 2023، بوصفه بلا منازع عام "الاستقالات الجماعية" من القطاعات كلها، وبالتأكيد لن يكون الجيش بمنأى عن تلك "الثورة" الانسحابية من المشهد الوظيفي والتوظيفي العام في سياق أنّ أفضل راتب لعسكري في الجيش لن يصل إلى 30 دولاراً شهرياً، وأفضل راتب لموظف مدني لن يصل إلى 14 دولاراً.
أصدر الرئيس السوري بشار الأسد، بوصفه القائد العام للجيش والقوات المسلحة، أمراً إدارياً مطلع هذا العام الجديد، يقضي بتسريح سبعة آلاف صف ضابط وفرد من الجيش السوري. علامَ يدل ذاك القرار؟ يتساءل السوريون المتوجسون من حرب قادمة على الأبواب باتت قريبةً
الظاهرة
تنطلق وجاهة الحديث عن "ظاهرة" الاستقالات الجماعية من آراء أصحابها الذين التقى بعضاً منهم رصيف22، خلال إعداد هذه المادة. إجمالاً هم يرون أنّ إلزامهم بدوام يومي لسبع ساعات مقابل أجر شهري زهيد، هو ما يسهم في تمعين إفقارهم ومن ثم اقتيادهم إلى ما دون حدود الصفر المعيشية، في حين أنّ افتتاح "بسطة" قهوة سيجني لهم أضعاف ما يتقاضونه من وظائفهم الحكومية المتهاوية قدراً وقيمةً ونقداً.
ذات يوم، قبل قرن وثلاثة أعوام، وتحديداً في عام 1920، تشكلت أول حكومة وحدة وطنية بزعامة هاشم الأتاسي، بعيد الاحتلال الفرنسي لسوريا، فتوجه سادة البلاد وأعيانها للتوسط طمعاً في شغل وظيفة حكومية، أياً كانت تلك الوظيفة، والأثير أنّ الحال ظلّ كذلك حتى عام 2011، حين كان الناس يدفعون مبالغ طائلةً كرشاوى لقاء توظيفهم في المؤسسات الحكومية التي تؤمّن لهم دخلاً محترماً ومعيشةً أكثر من كريمة، وتأميناً صحياً وامتيازات عديدةً. يكفي القول إن راتب الموظف السوري قارب الألف دولار إلّا قليلاً عشية الحرب عام 2011، ثم صار في 2024، 14 دولاراً فقط. إنه انهيار هائل!
الشتاء قادم
لم يتوقع المراقبون الحكوميون ومراكز الدراسات السورية، ما ظهر منها وما بطن، أن يتجه السوريون فجأةً نحو الاستقالات الجماعية ومن القطاعات كافة، مشترين الجلوس في المنازل، والهجرة نحو الصومال وتنزانيا والسودان والخليج ومصر وأوروبا بكل ما تحمله تلك الهجرات من مخاطر، كبديل من الوظيفة التي كانت حلماً ثم صارت وبالاً وقيداً محكماً على الرقاب بمنع السفر والدراسات الأمنية لتبرير موجبات الاستقالة منها.
في المسلسل الأكثر شهرةً خلال العقد الماضي "صراع العروش"، ظلّت منذ الحلقة الأولى تعاد على مسامع مئات ملايين المشاهدين عبارة "الشتاء قادم winter is coming". فهمها المشاهد منذ الموسم الأول. لم يتطلب منه الأمر الانتظار حتى الجزء الثامن والأخير لفهمها، ولكن في سوريا حصل العكس، برغم أنّ جملة "القادم أسوأ" كانت حاضرةً منذ بداية الحرب، ولكن السلطات فوجئت بعد عقد ونيف باستقالة الناس جماعاتٍ من وظائفهم، ذاك أنّ سلطات المشرق عامةً تصل متأخرةً للغاية، تصل بعيد انتهاء عرض الحلقة الأخيرة، فتسأل عن فحوى الحلقة الأولى من العمل كاملاً، ثم تعيد سؤالها مراراً، وحين لا تفهم، تعود لدراسة المنطلقات النظرية والشعارات الوطنية وفق مبدأ "عصفور باليد".
نفسية الأمة العتيدة
في سوريا لا توجد مراكز إحصاء فعلية وذات موثوقية، وإلّا لكانت تمكّنت على الأقل من إحصاء السكان الذين ظلّوا في البلاد، أقلّه في مناطق الحكومة، دون أن تترك للسوريين مجالاً للتكهن حول هل تعداد سكان دمشق اليوم مليون أم خمسة ملايين؟ تلك معضلة أخرى!
قبل قرن وثلاثة أعوام، وتحديداً في عام 1920، تشكلت أول حكومة وحدة وطنية بزعامة هاشم الأتاسي، بعيد الاحتلال الفرنسي لسوريا، فتوجه سادة البلاد وأعيانها للتوسط طمعاً في شغل وظيفة حكومية، أياً كانت تلك الوظيفة، والأثير أنّ الحال ظلّ كذلك حتى عام 2011، حين كان الناس يدفعون مبالغ طائلةً كرشاوى لقاء توظيفهم في المؤسسات الحكومية. لماذا تبدّل الحال الآن؟
وعليه، لا توجد مؤسسة واحدة في الدولة السورية قادرة على تقديم عدد دقيق للمستقيلين، وإن امتلكت إحدى المؤسسات رقماً فهي لن تعلنه لجملة من الأسباب تتعلق بكينونة الدولة الغامضة نشأةً وتأسيساً وسلوكاً، ولئلا يؤثر ذلك على المزاج العام، فيقود -لا قدر الله- إلى وهن نفسية الأمة وجرح الكرامة الوطنية.
وعليه، هناك طريقة من اثنتين لمتابعة الملف؛ الأولى زيارة المؤسسات -وما أكثرها-للسؤال عن الحال فيها كيف غدا، أو سؤال الموظفين -بعضهم على الأقل- عن موضوع الاستقالات في دوائرهم وقطاعاتهم.
ولكن مصدراً حكومياً ذا اطلاع قال لرصيف22، إنّ النصف الأول من العام الفائت تم فيه قبول آلاف طلبات الاستقالة. ففي السويداء المدينة الجنوبية الصغيرة جغرافياً وبشرياً ومؤسساتياً، كانت هناك 400 استقالة مقبولة، وحتى الآن يُنظر في آلاف أخرى وربما أكثر، فقد وصلت بعض المؤسسات إلى حدود 10 طلبات استقالة يومياً، والمؤسسات في سوريا كثيرة من حيث العدد وفوق أن تحصى في زمن قصير، لتشعبها وتنوعها وتباعدها وأحياناً عدم جدوى وجودها.
طرائق خاصة
صحيح أنّ عقد الاستقالات لم يبدأ في عام 2023، لكنّه توّج في ذلك العام كمّاً ونوعاً وكيفيةً، وفيه بدأت الوزارات تستسلم أمام الرغبات والطلبات الهائلة، وأولى تلك الوزارات التي رضخت كانت وزارة التربية، الوزارة الأكثر تعقيداً في مكانتها العلمية التأسيسية لبلد يحتاج إلى عمادين لينهض؛ القضاء والتعليم، وفق القول الشهير لونستون تشرشل في الحرب العالمية الثانية.
وزارة التربية حددت شروط الاستقالة بمضي 30 عاماً من الخدمة للمعلم في المدارس وتأمين البديل، مؤكدةً -من حيث لا تدري- أنّ ذلك لن يؤثر على سير العملية التعليمية. كان ذلك كله في الشهر الأخير من العام الماضي، حين علل الوزير قراره بوجود فائض تدريسي في مدن على حساب أخرى.
المدرّسة لمياء الصوفي، كانت قد حصلت على تفريغ لتتحول إلى إدارية في إحدى مدارس التعليم الأساسي في دمشق، قبل أن يصدر قرار مع بدء العام الدراسي أيلول 2023، بإنهاء تفريغ كل المدرّسين وإعادتهم إلى جدول المدرّسين الصفّيين.
تقول: "هل هناك نقص في دمشق؟ أين الفائض إذاً في دير الزور؟ هذا تخبّط غير مقبول. عمري 36 عاماً، وأحتاج إلى 18 عاماً للاستقالة وفق الشروط، فهل هذا منطقي؟ أنا الآن أسير بإجراءات استقالتي وفق طريقة ما، وستنجح كما نجح جميع المدرّسين الذين سبقوني. أجمل ما في سوريا أنّ لا شيء مستحيلاً فيها، كالتقارير الطبية الموثقة بقليل من المال والواسطة".
لمياء تؤكد خلال حديثها إلى رصيف22، وجود فراغ هائل في الجسد التربوي العام في البلاد معيدةً ذلك إلى الظرف الاقتصادي الطاحن، وتعتقد من وجهة نظرها أنّه خلال سنوات قليلة لن يبقى هناك مدرسون فعليون في القطاع التربوي، لأنّ كل من تخرّج ويتخرج في سنوات الحرب يهاجر فوراً ويرفض الوظيفة من أساسها.
حتى الأمن!
خلال الحرب تسرّبت أعداد هائلة من الموظفين من دوائرهم دون استقالات أو أذونات وأولئك واجهوا أحكاماً قضائيةً مسلكيةً أو إرهابيةً، حسب الظرف القائم والتحقيقات المرتبطة، لكنّ الجميع في مكان ما استفادوا مراراً من مراسيم عفو رئاسية شريطة إعادة ارتباطهم بالوظائف ليصار إلى إعفائهم من العقوبات القانونية التي نصّ عليها المشرّع القانوني وقانون العقوبات السوري.
ولكن قبل ذلك وبعده، وبافتراض حسن النية وتقديم الموظف لاستقالته مسلكياً عن طريق التسلسل الإداري، فإنّ ذلك سيجعله محاطاً بالأمن على اختلاف أفرعه المعنية للسؤال والتبيان والدراسة والتدقيق وسؤال الجوار والتقصي والتحقق عن الدوافع الحقيقية للاستقالة، وما إذا كانت تندرج تحت بنود تواطئية معادية للبلد ومؤسساته، أم هي في سياقها الذي لا يحمل أبعاداً. وقد يكون الأمن قد فهم ولو متأخراً أنّ الاستقالة هي الحالة السليمة، والورطة هي في المكوث عاماً آخر في القيد الحكومي، وإلا لما تقدم سبعة آلاف عسكري بطلب تسريح.
وبالمناسبة، أعداد كبيرة من عناصر الأمن أنفسهم، تقدموا بطلبات تسريح، إلى جانب ضباط نظاميين، ففي سوريا هناك مسلكان، أولهما يجني الكثير من المال بمعزل عن الطريقة، والآخر يقود إلى الفقر دون هوادة، والفقراء في كل مكان مستقيلون، اليوم أو غداً.
أعداد كبيرة من عناصر الأمن أنفسهم، تقدموا بطلبات تسريح، إلى جانب ضباط نظاميين، ففي سوريا هناك مسلكان، أولهما يجني الكثير من المال بمعزل عن الطريقة، والآخر يقود إلى الفقر دون هوادة، والفقراء في كل مكان مستقيلون، اليوم أو غداً
الملف في الأمن
ثائر ع.، موظف في إحدى المديريات التي تتبع للمصالح العقارية (مؤسسة حكومية) تمكن من الاستقالة بعد شقّ النفس وطلوع الروح كما يصف رحلته لرصيف22، والتي استمرت عاماً ونصف عام من تقديم طلبات الاستقالة المرفقة بالتقارير الطبية وغيرها، وفي كل مرة كان يأتي الجواب من الوزارة بالتريث دون مبرر. كان ذلك في العام الأول من الرحلة، أما في نصف العام الثاني فتغيّر الحال.
يقول: "في الأشهر الستة الأخيرة، تم تحويل ملفي إلى الأمن السياسي والعسكري والجوي وأمن الدولة، لدراسة هويتي وتوجهاتي ودوافعي والتحقق من موجبات مبرراتي، فسأل الأمن زملائي وأصدقائي وجيراني وبائع الخبز في الحي، وحاورني وزارني وحقق معي بأدب وهدوء وظللنا كذلك حتى جاء الإذن بالاستقالة المنشودة التي لم يكد ينقضي شهرٌ عليها حتى صرت في دبي حيث أنا الآن، وحيث عرفت أني كنت في وظيفة تمتصني وتقتل شغفي. إنها دبي، إنها المدينة التي كادت دمشق تصير مثلها لولا سنواتها العجاف".
"هل هناك أغرب من هذا؟"
"دفعت حتى استقلت! هل يكفي أن أقول ذلك، وفق قول المصريين: 'دفعت لطوب الأرض حتى وافقوا على استقالتي'، للمدير، والمدير العام، والوزير، وعناصر الأمن والتفتيش"؛ يقول موظف مستقيل من قطاع البلديات لرصيف22، حصل على استقالته أواسط العام الماضي مفضلاً عدم الكشف عن اسمه، بعد أن قوبل طلب استقالته مراراً بالرفض لأسباب يصفها بالواهية.
ويتابع: "كان يربطني عقد سنوي بالمؤسسة الحكومية التي أعمل فيها، وحصلت في بادئ الأمر على موافقتهم في إجازة طويلة، ثم حاولت السفر من المطار بشكل شرعي إلى الخليج بعد أن حجزت التذكرة والإقامة، وهناك أمسكت بي الشرطة وأعادتني إلى داخل دمشق، وقالوا لي خذ موافقةً خطيةً من وزيرك. الوزير قال لي قدّم استقالتك، فقدّمتها، لكنه لم يوافق عليها. هل هناك أغرب من هذا؟".
ويضيف: "بعد سيل من المال والوسائط، حصلت على إمضاء على استقالتي، وبالمناسبة، المضحك أنني كنت موظفاً في مؤسسة لا مكتب لي فيها ولا عمل، كنت كآلاف غيري، زائداً على المكان. لا نقدّم خدمات ولا نخدم المواطنين في سياق البطالة المقنعة، ولكنّهم متمسكون بنا لأسباب مبهمة لا أحد يجد تفسيرات لها، ولن أنسى أن أشكر الأمن بمختلف أفرعه الذي قيل لي بطريقة ما إنّه قد كتب في الملف عنّي 'إيجابي مؤيد يملك أسباباً صحيةً غير سياسية أو مريبة'، وكان هذا الرأي النهائي للأمن السياسي بعد موافقة الأفرع وتطابق الدراسات الأمنية".
"حلاوة البدايات"
وصف أحد الذين التقاهم رصيف22، الوظيفة بأنها في أولها تشبه "فرحة البدايات" في علاقات الحب التي تفضي إلى الزواج، قبل أن يكتشف الزوجان أنّهما غير متفاهمين ولا يحبان بعضهما فتصير حياتهما جحيماً يفضي غالباً إلى الطلاق.
فالوظيفة الحكومية في العقل الجمعي المتقدم ما زالت ترتبط نسبياً بالأمان، ولكنّ أجيالاً لاحقةً أكثر عقلانيةً وتحرراً باتت تعرف وتدرك وتقرأ وتستنج أنها سجن كبير يشبه حفرةً تصير مع الوقت مقبرةً لا مناص منها إلّا بالهرب قبل "حلاوة البدايات"، والهرب هنا يكون بالهجرة التي تكاد تفرغ البلد من شبابها، حتى أنّ سوريين في الإمارات باتوا يقولون إنّ من يلتقونهم من معارفهم هناك صاروا أكثر ممن يلتقون بهم من معارفهم مصادفةً في شوارع بلادهم حين زيارتها السنوية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.