يرتبط شهر كانون الثاني/يناير في مصر بانفجارات شعبية تعلن سقوط نظام ما، إما فعلياً كما حدث في حريق القاهرة 26 كانون الثاني/يناير 1952، الذي سبق حركة ضباط تموز/يوليو 1952 بستة أشهر، أم في مظاهرات 25 كانون الثاني/يناير 2011، التي أنهت حكم مبارك، أو رمزياً كما في مظاهرات 18 و19 كانون الثاني/يناير 1977، التي مثّلت ردّ فعل الشعب المصري على رفع أسعار أغلب السلع الأساسية بعد أوهام الرخاء الاقتصادي التي وعد بها السادات.
لا تزال مظاهرات كانون الثاني/يناير 1977، تثير الجدل بين كونها انتفاضةً شعبيةً وفق وصف المعارضين، أو "انتفاضة حرامية" حسب وصف السادات نفسه. فهل كانت هبّةً شعبيةً لم تُستغل، أم كانت تخريباً وقف عقبةً أمام الإصلاح الاقتصادي؟
في هذا الموضوع ننظر من قرب إلى هذا الحدث من خلال 3 مجلات مصرية صدرت في كانون الثاني/يناير وشباط/فبراير 1977، وكيف اختلفت الرؤى وفقاً للاستقطاب السياسي بين اليمين واليسار، وما التفاصيل التي غابت عنا بمرور الزمن؟
لا تزال مظاهرات كانون الثاني/يناير 1977، تثير الجدل بين كونها انتفاضةً شعبيةً وفق وصف المعارضين، أم "انتفاضة حرامية" حسب وصف السادات نفسه. فهل كانت هبّةً شعبيةً لم تُستغل، أم كانت تخريباً وقف عقبةً أمام الإصلاح الاقتصادي؟
البداية مع مجلة "الطليعة"، الممثلة لأقصى يسار الصحافة المصرية في ذلك الوقت، حيث يكتب لطفي الخولي، افتتاحيةً قويةً يرفض فيها الرواية الحكومية التي صورت المظاهرات على أنها مؤامرة شيوعية، ويتهم أجهزة الأمن بدفع عناصر تابعة لها للتخريب في يوم 19 كانون الثاني/يناير من ذلك العام، لإيجاد ذريعة لاتخاذ إجراءات قمعية ضد جميع المعارضين، وهو ما أدى إلى القبض على عدد من الصحافيين اليساريين، كفيليب جلاب ورفعت السعيد وحسين عبد الرازق ومحمد سلماوي ويوسف صبري، بالإضافة إلى سكرتير مجلة "الطليعة"، عبد المنعم الغزالي، في أثناء عمله في المجلة.
يهاجم الخولي سياسةَ الانفتاح الاقتصادي وشروط "صندوق النقد الدولي" في رفع الدعم، ويستشهد برئيس البنك الدولي الذي قدّم نصيحةً عامةً لحكام العالم الثالث من موقعه الرأسمالي: "عندما يكون الأغنياء قلةً قليلةً والفقراء كثرةً غالبةً، وعندما تتوسع الهوة بين الفريقين بدل أن تضيق، فإن الأمر لا يعدو أن يكون مجرد مسألة زمن قبل ضرورة الاختيار بين التكلفة الاجتماعية للإصلاح والتكلفة السياسية للتمرد".
وفي نهاية الافتتاحية، يطالب الخولي باحترام إرادة الجماهير في هبّتها التلقائية ورفض المواقف التخريبية المفروضة على حركة الجماهير من عناصر ذات طابع فاشي أو غير مسؤول، ونبذ سياسة القمع البوليسي وتقديم اليسار ككبش فداء، وتنحية الحكومة وإقامة مؤتمرات شعبية تشارك فيها كل الأحزاب والاتجاهات لإيجاد حلول للمشكلات الاقتصادية.
هل تعلمون شيئاً؟
وفي مقال لأبو سيف يوسف بعنوان "ولكن... هل تعلمون شيئاً؟"، يستعرض الكاتب الوعودَ الوردية لصحف الحكومة قبل أيام من القرارات الاقتصادية الصادمة: "لن ترتفع أسعار السلع الأساسية" (الجمهورية 3-1-1977)، و"مصر تتغلب على مشكلاتها الاقتصادية في عام 1980" (الجمهورية 13-1-1977).
واستشهدت افتتاحية مجلة "أكتوبر" القريبة من السلطة، بتجربة شيلي الاقتصادية في العلاج بالصدمة التي سوف تظهر نتيجتها بعد عامين من معاناة الشعب: "وسنتان ليستا بالوقت الطويل في حياة شعب"، وهو ما يستنكره الكاتب عادّاً أن هناك توجهاً لإقامة ديكتاتورية يمينية فاشية على طريقة بينوشيه في تشيلي.
تستمر "الطليعة" في تغطية المظاهرات من خلال باب التقارير الشهرية، وتصف اليوم الأول وتتحدث عن اقتصار المظاهرات فيه على الطلبة والعمال ومن انضم إليهم من المواطنين، ومع انتهاء النهار ظهر عشرات الآلاف من الصبية الذين لا تزيد أعمارهم عن 16 عاماً وذوي السوابق والبلطجية لتتحول إلى عمليات حرق للمواصلات العامة والعربات الخاصة، تطورت في اليوم الثاني إلى محاولات قطع خطوط القطارات وإحراق بعض ملاهي شارع الهرم، ومقرّ الاتحاد الاشتراكي في الإسكندرية.
كانت مجلة "الطليعة"، الممثلة لأقصى يسار الصحافة المصرية في ذلك الوقت، حيث كتب لطفي الخولي، افتتاحيةً قويةً يرفض فيها الرواية الحكومية التي صورت المظاهرات على أنها مؤامرة شيوعية، ويتهم أجهزة الأمن بدفع عناصر تابعة لها للتخريب في يوم 19 كانون الثاني/يناير.
وينتقد تقرير "الطليعة"، الصحف الحكومية التي لا تشعر بمعاناة الجماهير، فيكتب محسن محمد، رئيس تحرير "الجمهورية"، صباح الثلاثاء 18 كانون الثاني/ يناير: "كان لا بد من إدارة اقتصادية لمصر -وكان لا بد من هذه القرارات- وهي لا تكسب الحكومة شعبيةً، ولكنها تكسب الوزراء احترامهم لأنفسهم وتكسب مصر احترام العالم". وفي اليوم نفسه تقول جريدة "الأخبار" في افتتاحيتها: "لقد راعت حلولنا أن تأخذ كثيراً من القادرين، وهذا عدل في توزيع الأعباء مع عدم الإنكار أن الطبقة المتوسطة ستتحمل أعباءه، وأن المسؤولية الآن هي مسؤولية ربة الأسرة وعلى كل عضو في الأسرة أن يتعاون على مقاومة جشع أي تاجر يحاول أن يستثمر الأزمة في نهب جيوب من يعانون".
كما ينتقد التقرير قيام الصحف الحكومية باتهام اليساريين بالتحريض على التخريب والمبالغة في التخويف من الشيوعية المصحوب بالإلحاح على الدول البترولية من أجل المساعدات الاقتصادية، والذي يصل إلى الاستجداء الذي كتبه ثروت أباظة: "متعكم الله بغناكم، وأنتم أحرار في أموالكم تنفقونها أنى شئتم وحتى ولو كان البعض يختزنها في بنوك سويسرا وإنكلترا وغيرهما من أنحاء العالم التي لا تحتاجها، ولكن ألا تتذكرون أيضاً إخوتكم الذين بدمائهم زادوا أسعار البترول".
كان هذا موقف مجلة "الطليعة"، وهو ما تسبب في إصدار السادات قراراً بغلقها مستخدماً "أنياب الديموقراطية".
ثورة أطفال... الإنسان المصري هو المسؤول
في الجانب المعاكس، كانت مجلة "الجديد"، وهي مجلة ثقافية برئاسة تحرير الدكتور رشاد رشدي، عميد المعهد العالي للفنون المسرحية ومستشار الرئيس السادات، تمثل أقصى اليمين المؤيد للنظام. تبدأ المجلة بباب بريد القراء، الذي يعبّر عن جمهورها وتوجهاتها، فيلقي أحد القرّاء باللوم في الأزمة الاقتصادية على الإنسان المصري: "وأهم مسؤول هنا هو الإنسان المصري ذاته. لأن كلاً منا أصبح أناني النفس يؤثر مصلحته الشخصية. وقد أوصلتنا هذه الأنانية إلى سلبية وتطورت السلبية إلى انتهازية فكل منا ينتهز الفرص لتحقيق مصالحه الشخصية".
ويرفض قارئ آخر "أحداث" 18 و19 كانون الثاني/يناير في رسالة بعنوان "ثورة الأطفال"، ويرى أن ما حدث من تخريب ودماء مستنزفة، "هي في الواقع أمل كل شيوعي مخلص وكل ماركسي مهذب، هي ما يعملون له لعشرات السنين بلا كلل أو ملل"، وأنه من غير المنطقي أن تنقلب الأوضاع "لمجرد زيادات طفيفة في الأسعار اتفق جميع الاقتصاديين في العالم على ضرورتها".
في عدد 24 كانون الثاني/يناير 1977، تضع مجلة "روز اليوسف" عنواناً باللون الأحمر: "أسبوع الحرائق!"، فبرغم انتماء المجلة إلى اليسار إلا أنها تحاول أن تكون معارضةً من داخل النظام وأقلّ حدةً من مجلة "الطليعة"
أما رشاد رشدي، فيُرجع السبب في ما حدث، إلى الشعور بعدم الانتماء الذي تولد لدى الشعب المصري خلال 18 عاماً من الحكم الناصري، "وهذا هو السبب في أن بعض أفراده من المتخلفين عقلياً وقعوا فريسةً سهلةً للعملاء والخونة... ولكن السادات، والشعب كله من ورائه، قد أبطل سحر الخيانة باستفتاء الخميس 10 شباط/ فبراير".
الماركسيون حلفاء نظام السادات... ونكتة الداخلية
وفي عدد 24 كانون الثاني/يناير 1977، وضعت مجلة "روز اليوسف" عنواناً باللون الأحمر: "أسبوع الحرائق!"، وكتب عبد الرحمن الشرقاوي مقالاً افتتاحياً بعنوان "الوحدة في مواجهة المخرّبين"، مصحوباً بصورة للرئيس السادات، فبرغم انتماء المجلة إلى اليسار إلا أنها حاولت أن تكون معارضةً من داخل النظام وأقل حدةً من مجلة "الطليعة"، فحذر الشرقاوي من المتطرفين الرجعيين الذين يتهمون اليسار كله بالخيانة، وعدّ اليسار مكوناً من مكونات النظام: "والماركسيون والشيوعيون هم حلفاء النظام الوطني الذي يقوده السادات. وهم ينقدون الحكومة أو يعارضونها ممارسين للديموقراطية التي أتاحتها لهم ثورة 15 أيار/مايو في ظل سيادة القانون"، ويطالب بالبحث عن الأسباب الحقيقية لما حدث بدلاً من إلقاء التبعات على تنظيم سرّي يسمي نفسه "حزب العمال الشيوعي".
تميز عدد "روز اليوسف" بالتغطية الميدانية للأحداث، فترصد خروج مظاهرات طلبة جامعات القاهرة وعين شمس وحلوان في مسيرات متفرقة انضم إليها الموظفون وبعض ربّات البيوت، اقتصرت فيها الاحتكاكات على إلقاء قنابل مسيلة للدموع وبعض الهتافات، كما اتجهت مظاهرة من 400 شخص إلى مؤسسة "الأهرام"، رافعةً صور جمال عبد الناصر، ثم توجهت إلى دار "أخبار اليوم"، ومع غروب الشمس بدأ الطلبة والموظفون والعمال بالانصراف، لتظهر مع السابعة مساءً مجموعات بدأت عمليات الإحراق واقتحام قسم الموسكي وتكسير المحال وإحراق مخازن "أخبار اليوم".
وتصف المجلة بيان الداخلية الأول الذي عدّ ما يحدث عبارةً عن قلة من الشيوعيين "وممن يسمون أنفسهم الناصريين" الذين فشلوا في تحريض الطلبة، وقلة من الماركسيين الذين فشلوا في تحريض العمال، بنكتة الأسبوع، التي لم يصدقها أحد، وقال عنه ضابط شرطة لزميله في ميدان عرابي: "هل تضحك الداخلية على الناس أم علينا؟".
وتشيد المجلة بقرار السادات بإلغاء زيادة الأسعار، ونزول قوات من الجيش لحفظ الأمن، لأنه "من حسن الحظ أن الداخلية ليست هي التي تحكم مصر".
لكن برغم محاولة التوازن والإشادة بالرئيس السادات، إلا أنه سيقوم أيضاً بإقالة القيادة اليسارية في "روز اليوسف"، عبد الرحمن الشرقاوي رئيس مجلس الإدارة، فتحي غانم وصلاح حافظ رئيسَي التحرير، ليستكمل طريقه في القضاء على بذور الديموقراطية التي بدأ بها حكمه، ويستمر متحالفاً مع التيارات الدينية، متجاهلاً المشكلات الاقتصادية والاجتماعية المتصاعدة، ويستمر في السير نحو مزيد من الصدامات والتوتر ليصل إلى الذروة في اعتقالات أيلول/ سبتمبر 1981، ثم النهاية في 6 تشرين الأول/ أكتوبر 1981، كنتيجة لتجاهل انفجار شعبي لم يرغب في سماع صداه، واختار سماع نغمة المؤامرات والمخربين والتنظيمات السرّية و"انتفاضة الحرامية".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع