"في الوقت اللي الفلاحين فيه متحمسين للتضحية بكل حاجة، كنا بنلاقي بقالين بيحاولوا يستغلوا الظروف فقمنا بالتبليغ عنهم وقبضت عليهم مباحث التموين"؛ عطيات حجازي سعودي (فلاحة - قرية الدلاتون - محافطة المنوفية).
اعتدنا أن نتعامل مع حرب تشرين الأول/أكتوبر، التي نحيي ذكراها الخمسين هذا العام في مصر، من زاوية المعارك الحربية والسياسية، والنواحي الاقتصادية والجغرافية، والاكتفاء بذكر التكاتف الاجتماعي بشكل سريع ونموذجي، ويتلخص في مشهد لرجال يجلسون على مقهى شعبي قاهري في نهار رمضاني يهتفون "الله أكبر" وهم سعداء بإذاعة البيان الأول للقوات المسلحة في الثانية ظهراً، دون الدخول في تفاصيل الحياة اليومية لحكايات الناس ورؤيتهم.
فهل كانت الصورة مثاليةً فعلاً بهذا الشكل؟ وكيف رأى العمال والفلاحون والأطفال ما حدث في تشرين الأول/أكتوبر 1973؟
"في المعركة كان معانا ربنا... ومعانا روسيا بنفسها"
في عدد كانون الأول/ديسمبر 1973، نشرت مجلة "الطليعة" اليسارية المصرية ملفاً بعنوان "في مواجهة الإمبريالية الكبرى والإمبريالية الصغرى... رؤية شعبية لحرب 6 أكتوبر... شهادات واقعية للعمال والفلاحين"، عرضه الكاتب محمد سيد ريان في كتابه "الثقافة سنة 1973-سيرة شعبية لحرب أكتوبر".
خمسون عاماً على حرب تشرين الأول/أكتوبر، يتكرر فيها الكلام عن الخطط العسكرية والمعارك الحربية والدفاع الجوي وخط بارليف، لكننا يمكن أن نجد ما هو جديد ومؤثر في تفاصيل الحكايات الإنسانية الصغيرة، وقصاصات الجرائد والمجلات القديمة
فكما نشاهد في شهادة الفلاحة عطيات، كانت الأغلبية تقدّم التضحيات، لكن ذلك لم يمنع من وجود صغار المستغلين المتاجرين في قوت الشعب وقت الأزمات من بعض بقّالي التموين وتجار المواد الغذائية.
وفي شهادة عامل اليومية عطية عبد المنعم، نلاحظ خريطة التحالف المساند لمصر: "أيام المعركة عرفتنا بأفضال الدول العربية ومساعدتها لنا بكل شيء، وقطع البترول عن أصدقاء إسرائيل والاتحاد السوفياتي والصين ومدّنا بالسلاح وبالأكل واللحمة وكل طلباتنا"، وهي الرؤية التي تغيّرت بعد معاهدة السلام مع إعادة كتابة التاريخ باعتبار حرب تشرين الأول/أكتوبر حرباً مصريةً خالصةً، وتجاهل الجبهة السورية والمساعدات العربية، والدعم العسكري المقدم من الكتلة الشرقية.
وهو ما يوضحه محفوظ محمد حسين (عامل معمار-مركز ميت غمر)، الذي يعدّ أسباب العبور "رسالة الجندي المصري والعناية الإلهية وسلاح روسيا"، و"العرب كلهم كانوا معنا وروسيا كانت معنا وأمريكا عدونا اللدود وكلنا ساخطين عليها وعلى المحبين لها".
وهو ما يبيّن مقدار الصدمة التي تعرض لها قطاع عريض من الشعب المصري بعد ستة أشهر من تاريخ صدور عدد مجلة الطليعة، مع زيارة نيكسون رئيس أمريكا "الإمبريالية الكبيرة" المساندة لإسرائيل لمصر في شهر حزيران/يونيو 1974، واحتفاء السادات به في استقبال "شعبي" احتفالي في محافظات مصرية عدة، تطبيقاً لنظرية الصدمات الكهربائية التي كان يعدّها علاجاً للمشكلات وللشعب معاً.
ويعبّر الشيخ محمد عزب (فلاح - مركز زفتى)، عن المزيج المتكون في سنوات السادات الأولى، بين الاتجاه الإسلامي الصاعد والتعاون مع الاتحاد السوفياتي، الذي سيتخلص منه السادات لاحقاً، فيعبّر الشيخ عن حماسته للمعركة التي لم نكن نستحق أن نعيش لو لم تحدث. "وفي المعركة كان معانا ربنا، ومعانا روسيا بنفسها وإخلاصها وسلاحها، وكل أيام الحرب كنا عال العال، ما كانش ناقصنا حاجة".
ويعبّر الفلاح "محمد صقر"، عن الروح الجديدة التي سادت بعد الحرب، والرغبة في استمرارها كما عبّر عنها فيلم "الرصاصة لا تزال في جيبي". لا تزال الرصاصة في جيب الشعب المقاتل، ومن الممكن أن يستخدمها ضد الفاسدين والانتهازيين، "وكان فيه بقالين بيحاولوا يستغلوا الظروف، لكن اللي كنا بنسكت عليه قبل الحرب ما يصحش نسكت عليه أثناء الحرب، فبلّغنا فيهم واتحولوا للنيابة العسكرية"، وهي الروح التي تبخرت لاحقاً مع رياح الانفتاح والفساد والهجرة واتساع الفوارق الطبقية.
يوسف إدريس في "ميكي"... ويوسف السباعي في "سمير"
أما مجلات الأطفال في مصر وأشهرها، "ميكي" و"سمير"، فقدّمتا محتويات مختلفةً عما نتوقعه من مجلات الأطفال، ففي عدد 25 تشرين الأول/أكتوبر 1973، قدمت "ميكي" ملفاً بعنوان "كلمات في المعركة"، فيه أبرز كتابات الأدباء المصريين عن المعركة، فيقول نجيب محفوظ تحت عنوان "عودة الروح": "روح مصر تنطلق بلا توقع، تتعملق وتحلق بلا مقدمات تتجسد في الجنود، بعد أن تجسدت في قلب ابن من أبرّ أبنائها، تقمص في لحظة من الزمان عصارة أرواح الشهداء العظام من زعمائها، واتخذ قراره، ووجّه ضربته...".
نلاحظ تخلّي محفوظ عن حذره المعتاد في مديح الرؤساء وتعظيم الحاكم، واستلهامه لفكرة "الكل في واحد" لتوفيق الحكيم من رواية "عودة الروح"، وذلك بالرغم من أنه كان من المُعاقَبين من قبل السادات بعد توقيعه على بيان المثقفين رفضاً لحالة اللا سلم واللا حرب، إلا أن فرحته بالمعركة غيّرت من موقفه، وبرغم انتقاده لسلبيات عصر السادات إلا أنه ظل يضع حرب تشرين الأول/أكتوبر في ميزان حسناته، وأيّد لاحقاً مبادرة السلام مع إسرائيل التي عارضها الكثير من المثقفين.
وبالحماسة نفسها يكتب يوسف إدريس بعنوان "الخلاص": "بضربة إرادة واحدة رُدّت إلينا كرامتنا وعادت إنسانيتنا... لم أكن أعلم أن الفرد باستطاعته حين يجمع إرادته أن يحتوي فيها إرادة أمة وتاريخ شعب وقدرة حضارة... ولكن البطل أنور السادات غيّر من مفهومي"، وهو المديح الذي يصل إلى "ولكن شعبنا عبر معه فيافي الذلة والمسكنة، عبر الصغائر والحقارات".
ثم انقلب إدريس إلى النقيض بعد معاهدة السلام، ووصل إلى إصدار كتاب "البحث عن السادات"، الذي شنّ فيه هجوماً عنيفاً غير موضوعي على السادات وحرب تشرين الأول/أكتوبر، إذ "كيف استطاع شارون بقواته الصغيرة أن يستجلب -لا بد من إسرائيل نفسها- هذا الكم من الأوناش واللوريات والمعدات الآلية، يستجلبها من إسرائيل ويصنع بها السد في أقل من 24 ساعةً من قراره أن 'يعبر' القناة، وفي ظل حرب طاحنة؟ أما إذا لم يكن قد استجلبها، وأنها كانت طوال الوقت هناك، فإن هذه تكون قمة المأساة الضاحكة؛ إذ معناها أن شارون، أو الجيش الإسرائيلي، كان يعرف أن حرب 73 كانت ستقوم، وأن الجيشَين المصريَّين الثاني والثالث سيَعبران القناة بنجاح، وأن الردَّ على هذا العبور يكون من خلال هذا السد"، وهو ما يعني اتهاماً للسادات بالخيانة في مواجهة ثغرة الدفرسوار أو اعتبار حرب تشرين الأول/أكتوبر تمثيليةً متفقاً عليها.
بينما يعبّر الكاتب الإسلامي أحمد بهجت، في الملف نفسه، عن الفكرة السائدة لدى اليمين الديني، وهي ارتباط الهزيمة بالإلحاد والنصر بالعودة إلى الدين: "إن الإيمان بالله قد أعاد إلينا الوطن والشرف"، وهي فكرة الشيخ الشعراوي نفسها في السجود شكراً لهزيمة حزيران/يونيو 1967، حتى لا يكون النصر ونحن في "أحضان الشيوعية".
مجلة "سمير" كانت مهتمةً بالأجواء الحربية قبل بدء المعركة في 6 تشرين الأول/أكتوبر. ففي عدد 7 تشرين الأول/أكتوبر، والذي لم يلحق ببداية الحرب، واصلت المجلة نشر القصة المصورة "رجال لا يعرفون المستحيل من أجل القضية العادلة"
وتتنوع مظاهر التفاعل مع المعركة في مجلة "ميكي"، فيُبرز عدد 25 تشرين الأول/أكتوبر، تحية السادات للمحاربين في أرض المعركة، أما عدد الأول من تشرين الثاني/نوفمبر، فيحمل غلافه "ميكي" مرتدياً زي الطالب والعامل والفلاح وهم يحملون كلمة "النصر".
رجال لا يعرفون المستحيل... في مجلة "سمير"
أما مجلة "سمير" الأكثر مصريةً، فكانت مهتمةً بالأجواء الحربية قبل بدء المعركة في 6 تشرين الأول/أكتوبر. ففي عدد 7 تشرين الأول/أكتوبر، والذي لم يلحق ببداية الحرب، تواصل المجلة نشر القصة المصورة "رجال لا يعرفون المستحيل من أجل القضية العادلة"، سيناريو حسين قدري، ورسوم عفت حسني، عن العمليات الفدائية.
أما عدد 21 تشرين الأول/أكتوبر، فحمل عنوان "انتصار يساوي العمر كله"، مع رسم لسمير مرتدياً الزي الأزهري، يدعو في ليلة القدر لمصر بالنصر، وقصة مصوّرة بعنوان "سمير والدفاع المدني"، ويعلن العدد عن هدية العدد المقبل الذي سيصدر في عيد الفطر، "طيارة ونبلة بلاستيكية ولبيسة قلم"، وهي هدايا مرتبطة بأجواء الحرب والغارات الجوية، ويتصدر عدد 28 تشرين الأول/أكتوبر عنوان "مصر التي في خاطري وفي فمي، أحبها من كل روحي ودمي"، ويتضمن قصةً ليوسف السباعي مع لوحات جمال قطب، تدور أحداثها خلال حرب 1948، بعنوان "طريق العودة".
خمسون عاماً على حرب تشرين الأول/أكتوبر، يتكرر فيها الكلام عن الخطط العسكرية والمعارك الحربية والدفاع الجوي وخط بارليف، لكننا يمكن أن نجد ما هو جديد ومؤثر في تفاصيل الحكايات الإنسانية الصغيرة، وقصاصات الجرائد والمجلات القديمة حتى لو كانت "ميكي" أو "حواء" أو "الكواكب".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.