"منذ ارتقت الملكة نريمان عرش وادي النيل، والأمة كلها في مصر والسودان تتيمن بهذا الحادث السعيد، وتدعو الله أن يحقق الرجاء، فيرزق جلالة الفاروق ولياً للعهد. وقد استجاب الله الدعاء وحقق الرجاء، وأشرقت طلعة الأمير أحمد فؤاد ولي عهد مصر والسودان وأمير الصعيد"؛ هكذا كتبت مجلة الهلال تهنئة بعنوان "الملكة السعيدة"، قبل شهور قليلة من انقلاب تموز/يوليو 1952، فلم تصبح ناريمان ملكة ولا سعيدة ولا فاروق ملكاً.
كيف تأثرت مجلة الهلال الثقافية، التي تأسست عام 1892، بتحولات السياسة والمجتمع في تموز/يوليو 1952؟ من خلال عدد من مجلات الهلال من نهاية الأربعينيات وحتى الستينيات، نشاهد التغيرات المعبرة عن علاقة الثقافة بالسياسة والكاشفة لتغير المجتمع المصري في سنوات حافلة بالأحداث التاريخية الهامة، ويمكن تقسيم تلك المراحل لما قبل تموز/يوليو، محمد نجيب، جمال عبد الناصر الخمسينيات، جمال عبد الناصر الستينيات.
إرهاصات ثورية تؤدي لانقلاب عسكري
في كانون الثاني/يناير 1952 وقبل حريق القاهرة في26 كانون الثاني/يناير، أصدرت الهلال عدداً خاصاً باسم "ثورة الحرية"، كتب فيه فكري باشا أباظة مقالاً بعنوان "مصر الثائرة"، تحدث فيه عن تصاعد مقاومة الاحتلال الإنكليزي، وعن ثورة تتمخض عن إنشاء "كتلة شرقية" أو "اتحاد إسلامي" تقف متحدة ضد أي عدوان عليها وتقف "على الحياد" بين المعسكرين الشرقي والغربي.
تمثل مجلة الهلال في تلك الفترة اليمين المصري المحافظ المتأثر بالثقافة الإنكليزية وبالتبعية الثقافة الأمريكية الصاعدة بعد الحرب العالمية الثانية، ونشرت العديد من الموضوعات المترجمة من مجلات "ريدرز ديجست" و"مغازين ديجست"
وهي نفس الأفكار التي تبلورت بعد تموز/يوليو 1952، والتي لم تأت من فراغ بل كانت مطروحة من قبل في ظل دولة تواجه واقع تحول العالم لمعسكرين بعد نهاية الحرب العالمية الثانية وصعود حركات الاستقلال في بلاد العالم الثالث، ليختتم فكري أباظة مقاله بـ:
"إلى الأمام…
هذه هي بداية الشرر…
فانتظروا اندلاع النار!…".
تمثل مجلة الهلال في تلك الفترة اليمين المصري المحافظ المتأثر بالثقافة الإنكليزية وبالتبعية الثقافة الأمريكية الصاعدة بعد الحرب العالمية الثانية، ونشرت العديد من الموضوعات المترجمة من مجلات "ريدرز ديجست" و"مغازين ديجست"، وكتابات تنمية بشرية أمريكية لديل كارينغي وريبورتاجات عن أخبار وأعمال نجوم هوليود، ومن الطبيعي أن يكون أبرز كتّابها عباس محمود العقاد وفكري أباظة باشا ومحمود بك تيمور و عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ) الكاتبة الإسلامية، التي كانت تكتب قصصاً اجتماعية واقعية تميل فيها للمحافظة الأخلاقية.
النابغة محمد نجيب وفاروق الذي أساء لسمعة مصر
شهور قليلة انقلبت فيها "الهلال" من التهنئة بقدوم ولي العهد للاستبشار باللواء محمد نجيب الذي كتب بنفسه عدة مقالات في الهلال واختارته المجلة في تشرين الثاني/نوفمبر 1952 ضمن 6 وجوه من نوابغ العلم والسياسة والأدب في العالم، مع نهرو وأيزنهاور وأينشتاين، واصفة إياه "في عنيه الواسعتين يلتمع بريق القوة واليقين والذكاء الذي يخترق الحجب".
وكتب محمد فريد أبو حديد في كانون الثاني/يناير 1953، مقالاً بعنوان "إلى الأمام ويا ويل من يقف في الطريق" عن النظام الإقطاعي الفاسد الذي كان يعرقل حركة الأمة المصرية ويشيع فيها الفساد والظلم والطغيان،.
ويعتبر المؤرخ عبد الرحمن الرافعي سقوط أسرة محمد علي تطوراً تاريخياً طبيعياً في حياة مصر، ويرى أن فاروق قد جمع كل عيوب الولاة السابقين عليه، إضافة لعيوبه الخاصة، مما أدى لتغلغل الفساد والإساءة لسمعة مصر التي صارت في أواخر عهده "مضغة في أفواه العالم"، بينما كتب فاروق محمد نجيب في تشرين الأول/أكتوبر 1952 للهلال واصفاً إصابات والده في حرب فلسطين: "لقد مات أبي عدة مرات، وبعث عدة مرات، وكان في موته وبعثه الجندي الشجاع، والمؤمن الذي لم يتطرق الى قلبه أي شك في أن الله يملك مصائر الناس جميعاً".
خمسينات مستقرة... و رياح قومية عربية شرقية
مع نهاية عام 1954 اختفى محمد نجيب، ليس فقط من صفحات الهلال، بل من الحياة السياسية والعامة بأكملها، واستتبت الأمور لصالح جمال عبد الناصر رئيساً لمصر، وهو ما انعكس على صفحات الهلال في هدوء النبرة والحماس الزائدين، بعد مناخ ساخن استمر منذ حرب فلسطين عام 1948. ولكن تلك النبرة الساخنة عادت مرة أخرى بعد الانتصار "السياسي" في مواجهة العدوان الثلاثي خلال "حرب السويس" عام 1956، وتحول عبد الناصر لبطل شعبي عربي يحارب الاستعمار.
ووصفته الهلال في العيد الخامس للثورة عام 1957 بأنه حقق لمصر في خمس سنوات ما كان يحتاج لخمسة قرون، وأن "جمال عبد الناصر قد طوى القرون إلى الأمام، فحقق لمصر ما لم يكن يدور في الأحلام"، وصاحبت نبرة الحماس موجة عروبية ممتزجة بالاتجاه لتكاتف إسلامي وتعاون شعوب الشرق، وانعكس ذلك على غلاف المجلة في أيلول/سبتمبر 1957 الذي يحمل عبارة "مجلة العروبة للعالم العربي".
وكتب البكباشي السيد فرج مقالاً بعنوان "عمرو بن العاص الذي أدخل مصر في الوطن العربي". وكتب الدكتور عبد الوهاب عزام "المستقبل لنا نحن العرب"، والشيخ حسن مأمون مفتي الديار المصرية "العرب هم رسل الإسلام والسلام"، ونشرت الهلال إعلاناً عن كتابها "الجزائر الثائرة" الذي صدر في 15 كانون الثاني/يناير 1957 بالاشتراك مع وزارة الإرشاد.
وفي أيار/مايو 1958 سألت الهلال ثلاثةً من الأدباء "هل خدمت القصة فكرة القومية العربية؟ وهل أدت رسالتها نحو تحرير الشعوب العربية؟".
قال طه حسين إنه راضٍ عن القصة العربية بشرط أن تكون دائماً بالفصحى، لأن ذلك يساعد في نقل القصة للبلاد العربية التي بدأنا نتوحد معها ونتداخل معها في كل شيء، بينما رأى الكاتب محمود تيمور أن القومية العربية هي التي ستؤثر في القصة. ثم جاء دور القصة التي عليها استنهاض الهمم لاستكمال بناء القومية العربية، ولكن القاص لن يستطيع فرض تلك القومية إذا كانت بذورها غير موجودة أو غير صالحة للاستنبات.
وقال نجيب محفوظ إن القصة تخدم القومية العربية فعلاً بالتزام كتابتها بالفصحى، وبمعالجتها للمسائل العربية من التاريخ أو الحاضر، وإنها أسهمت في تحرير الأقطار العربية بتنوير الأذهان ضد الاستعمار والتقاليد القديمة.
الستينيات... من عظمة ناصر إلى الديالكتيك
بدأت الهلال عقد الستينيات في عدد كانون الثاني/يناير 1960 باختيار عظماء ثلاثة لعام 1959، نهرو وخروتشوف، وأولهم جمال عبد الناصر الذي بدأ بإحياء معاني الكرامة والعزة في النفوس، ثم مضى والشعب معه ليحقق مبادئ الثورة.
مجلة الهلال نموذج بسيط لعلاقة السياسة بالثقافة في مصر. شاهدنا كيف ينتقل مديح المجلة من الملك لنجيب ثم لناصر، بنفس العبارات تقريباً، وكيف تتحول موضوعات المجلة من كتابات مترجمة لترويج الدعاية الأمريكية
مع خروج الشيوعيين من المعتقلات الناصرية عام 1962 بسبب تحسن العلاقات مع الاتحاد السوفياتي مموّل السدّ العالي، عاد الشيوعيون إلى وظائفهم، وتولوا مناصب عديدة في الصحف والمجلات الثقافية، ليصدر عدد كانون الثاني/يناير 1965، برئيس تحرير هو كامل الزهيري، بعنوان "اليسار في العالم"، وبكتّاب يساريين مثل محمد أنيس، محمود أمين العالم، وجان بول سارتر الذي كتب عن المناضل لومومبا.
وامتلأت صفحات المجلة بموضوعات تناقش الهيغلية والوجودية والماركسية ومناظرات تناقش الديالكتيك والماركسية ويسار الوسط، في ما يبدو جديراً بدوريات متخصصة لا مجلة ثقافية عامة. أما كتاب الهلال لشهر كانون الأول/ديسمبر 1968 فهو موسوعة الهلال الاشتراكية، لتنقلب المجلة من اليمين لأقصى اليسار، ولكنها ستعود لاحقاً لليمين -ولكن الديني- في عهد السادات، وتلك قصة أخرى.
مجلة الهلال نموذج بسيط لعلاقة السياسة بالثقافة في مصر. شاهدنا كيف ينتقل مديح المجلة من الملك لنجيب ثم لناصر، بنفس العبارات تقريباً، وكيف تتحول موضوعات المجلة من كتابات مترجمة لترويج الدعاية الأمريكية عن حياة هوليودية سعيدة ومتفائلة للجميع، إلى موضوعات عن حتمية القومية العربية، وصولاً لأفكار ماركس وهيغل، وتلك الانقلابات الفكرية والثقافية صدى واضح لانقلابات سياسية بدات في تموز/يوليو 1952 ولم تنته حتى الآن، تظل مثاراً للتأمل ولفهم ما نقرأه ونعرفه عبر الأزمان.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين