عصر يوم الأحد الثالث من تشرين الأول/ أكتوبر عام 1993، أسقطت طائرات مروحية أمريكية نحو 100 جندي من قوات من النخبة فوق سطح مبنى وسط سوق "بكارا"المزدحم في قلب مقديشو. كانت مهمة الجنود اعتقال اثنين من كبار مساعدي محمد فارح "عيديد" أحد أكبر أمراء الحرب الصوماليين، في غضون ساعة واحدة. بدلاً من ذلك، وجد الجنود أنفسهم محاصرين في أزقة السوق الضيقة، وخاضوا قتالاً ليلياً طويلاً ضد الآلاف من الصوماليين المدججين بالسلاح لتنتهي المعركة بخسائر فادحة للأمريكيين ومقتل آلاف الصوماليين بين مسلحين ومدنيين.
قدمت هوليوود الرواية الأمريكية من خلال الفيلم الشهير "Black Hawk Down" الذي أنتج عام 2001 ومن إخراج ريدلي سكوت، والذي أظهر الصوماليين متوحشين يرفضون المنقذ الأمريكي. لكن، في ما يلي ضوء على الرواية الصومالية للتدخل الأمريكي في الصومال بين عامي 1992 و1994، من الصوماليين الذين كانوا جزءاً من تلك الأحداث، وليس فقط كما رآها أو صوّرها الأمريكيون.
الجيش الأمريكي في الصومال
بدأت الأحداث في عام 1991، حين تفككت مؤسسات الدولة في الصومال بفعل الحرب الأهلية التي شهدتها البلاد على خلفية الصراع السياسي الذي امتد لعقود. بعد نجاح الميليشيات القبلية المسلحة بقيادة جبهة المؤتمر الصومالي الموحد (USC) في إسقاط نظام محمد سياد بري، نشب صراع داخل الجبهة بين قطبيها الجنرال محمد فارح عيديد، مسؤول المكتب العسكري للجبهة، والذي يعود له الفضل الأكبر في إسقاط النظام، وعلي مهدي، الشخصية السياسية والتاجر المعروف في مقديشو، والممول الرئيسي للجبهة.
اشتعل الصراع بعد اختيار علي مهدي كرئيس مؤقت للبلاد، من قبل المجلس التنفيذي للجبهة من دون استشارة الجنرال عيديد، الذي عاد بعد ملاحقة بقايا نظام بري في جنوب البلاد بجيش كبير، وشنّ هجوماً عنيفاً على مقديشو لتندلع حرب "الأشهر الأربعة" الدموية بين عيديد ومهدي في مقديشو. خلّف القتال مدينة مدمرة تماماً وآلاف القتلى والجرحى ومئات الآلاف من المهجرين بحلول نهاية عام 1991.
دمرت المعارك القبلية المحاصيل الزراعية ومعظم مخازن الغذاء في الصومال، لتترك معظم البلاد في حالة مجاعة قاسية، لتتعمق الأزمة، منذرة بعواقب وخيمة، قد تقضي على وجود الكيان الصومالي. احتلت معارك مقديشو وصور القتلى صدارة الاهتمام الدولي بحثاً ونقاشاً، فتحرك المجتمع الدولي.
"أكبر كذبة صدّرها الأمريكيون للعالم هي فيلم ‘سقوط الصقر الأسود‘ الذي صوّر الصوماليين كمجموعة من الحيوانات المتوحشة المجرّدة من الإنسانية، وهذا عكس ما حصل"... فما هي حقيقة ما حدث؟
أطلقت الولايات المتحدة عملية أسمتها "إعادة الأمل" في كانون الأول/ ديسمبر 1992، قبيل مغادرة الرئيس الراحل جورج بوش الأب البيت الأبيض بأسابيع، بموجب ذلك القرار جرى إنزال 27 ألف جندي من البحرية الأمريكية إلى شواطئ العاصمة مقديشو، لوقف الصراع الدائر بين الفصائل الصومالية المتناحرة وتأمين الطرق لإيصال المساعدات العاجلة إلى عشرات الآلاف من الصوماليين المتضررين بسبب الحرب الأهلية. لاحقاً، تولت الأمم المتحدة في أيار/ مايو 1993 قيادة العمليات التي كانت تهدف إلى تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار بين الفصائل الصومالية، وتوفير الأمن في الموانئ والمطارات والطرق الرئيسة لتسهيل وصول المساعدات الإنسانية.
كان أهم ما يجب على قوات الأمم المتحدة فعله هو البدء في نزع سلاح الميليشيات ولو بالقوة إذا تطلب الأمر، وفي الخامس من حزيران/ يونيو 1993، تكبدت الأمم المتحدة أكبر خسارة لقوات حفظ السلام التابعة لها عندما تعرضت الوحدة الباكستانية لهجوم مباغت أثناء قيامها بتفتيش مستودعات أسلحة أمير الحرب عيديد جنوبي العاصمة. غيّرت تلك الهجمة بوصلة المهمة، وتم تحميل عيديد المسؤولية المباشرة عن الحادث، وبدأت فرقة الرينجرز الأمريكية خططها للقبض على عيديد وكبار قادته.
ملاحقة الجنرال عيديد
رداً على الهجوم الذي أودى بحياة 24 جندياً باكستانياً، شنّت القوات الأمريكية في مقديشو غارة على منزل عبدي حسن عوالي قيبديد، أمير حرب ووزير داخلية الجنرال محمد عيديد في 12 تموز/ يوليو 1993. كان الهدف هو تصفية الجنرال عيديد وقادته، ظناً أنّهم يعقدون اجتماع مجلس حرب، لكن بحسب شهادة قيبديد كان الاجتماع يضم 150 من مختلف أطياف قادة المجتمع الصومالي، بينهم رؤساء مختلف العشائر الصومالية ومثقفين ورجال دولة سابقين، بهدف إقناع الجنرال عيديد بإيقاف الحرب ضد القوات الأمريكية والأممية، ليتسنى إدخال المساعدات الإنسانية للمدينة المزدحمة بالنازحين.
يقول قيبديد "كانت مجزرة، لم يُقتل أي عسكري في هذا الهجوم البربري، كان القتلى الـ86 قادة دينيين وقضاة سابقين وأساتذة جامعيين وشاعر معروف وزعماء عشائريين ونساء وأطفال".
مثّل الهجوم الأمريكي على بيت عبدي قيبديد تحولاً مفصلياً في عمل القوات الأمريكية والأممية في الصومال، وأدى إلى تحول التدخل الأجنبي في نظر الصوماليين من تقديم المساعدة إلى عدوان. عُرفت الأحداث التي نفذتها قوات خاصة أمريكية باسم "الاثنين الدامي". بعد الغارة حمّل رجال العشائر الصومالية السلاح، واتبعوا عيديد، ومن ثم شكلوا عدواً أكبر ضد القوات الأمريكية
قدّر الصليب الأحمر ضحايا الغارة الأمريكية على المنزل والأماكن المحيطة بنحو 200 شخص، من بينهم أربعة صحافيين أجانب قدموا لتغطية الغارة، ولقوا حتفهم على يد الحشود الغاضبة. في شهادته، اتهم أمير الحرب قيبديد، الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة الأدميرال الأمريكي جوناثان هاو، بالتآمر ضد المجتمع الصومالي لأنّه شجعهم على عقد الاجتماع الذي استهدفته القوات الأمريكية.
مثّل الهجوم الأمريكي على بيت عبدي قيبديد تحولاً مفصلياً في عمل القوات الأمريكية والأممية في الصومال، وأدى إلى تحول التدخل الأجنبي في نظر الصوماليين من تقديم المساعدة إلى عدوان. عُرفت الأحداث التي نفذتها قوات خاصة أمريكية باسم "الاثنين الدامي". بعد الغارة حمّل رجال العشائر الصومالية السلاح، واتبعوا عيديد، ومن ثم شكلوا عدواً أكبر ضد القوات الأمريكية. قال جندي أمريكي سابق شارك في العمليات في الصومال: "هذه هي النقطة التي بدأنا فيها خسارة الصومال ولم نكن حتى ندرك ذلك".
لم ينتظر عيديد طويلاً ليرد، بعد شهر قُتل أربعة جنود أمريكيين في انفجار لغم أرضي في مركبتهم جنوبي مقديشو، وأُصيب أربعة آخرين في هجوم آخر، وأصبح من الواضح أن عيديد كان يركز هجماته على القوات الامريكية، لتبدأ مرحلة جديدة من الحرب بين أمريكا الجنرال العنيد.
معركة مقديشو
قال محمود عبدي علمي، السكرتير الشخصي للجنرال عيديد، في كتابه "معركة الرينجر في مقديشو"، إنّ "الهدوء ساد أرجاء مقديشو ولكن الكل كان يتوقع عاصفة كبيرة". جاءت العاصفة في الثالث من تشرين الأول/ أكتوبر 1993، حين تحركت قوة أمريكية من قاعدتها في مطار مقديشو، لاستهداف منزل في وسط سوق بكارا المزدحم، بناءً على معلومات تفيد بتواجد اثنين من كبار مساعدي عيديد في اجتماع لزعماء عشيرة هبر غدير التي ينتمي إليها عيديد، وهي الأحداث التي يدور حولها فيلم "Black Hawk Down".
شملت خطة الهجوم إنزال عشرات الجنود جواً لمهاجمة المنزل، مع تقدم قافلة عسكرية برية لنقل القوات والأسرى. تكونت القوات من 19 طائرة مروحية، و12 مركبة قتالية، بمجموع 160 جندياً أمريكياً، على أن تستغرق ساعة واحدة للدخول والخروج.
لكن العملية لم تسرّ كما كان مخططاً لها حيث واجهت القوات الأمريكية مقاومة شرسة من ميليشيا عيديد، وتمكن عدد قليل من المسلحين الصوماليين من إيقاف تقدم القافلة البرية، ثم طلبوا الدعم من مختلف الميليشيات بما فيها بعض الحركات الإسلامية بزعامة حركة الاتحاد الإسلامي، فتجمع آلاف المسلحين لصد الهجوم الأمريكي.
امتد القتال بين الطرفين حتى صباح اليوم التالي، وأُسقطت طائرتين مروحيتين من طراز "Black Hawk" في الساعات الأولى، ووقع 90 جندياً حاولوا إنقاذ الأحياء من طاقم الطائرتين في حصار. صباح اليوم التالي، تدخلت قوة أممية كبيرة تمكنت من إنقاذ الجنود الأمريكيين.
إجمالاً، خلّفت المعركة التي استمرت 18 ساعة، 18 قتيلاً أمريكياً، و70 مصاباً، وتدمير طائرتين مروحيتين، ومئات القتلى الصوماليين حسب الرواية الأمريكية. وبثت وسائل الإعلام الأمريكية صوراً قاسية لحشود مبتهجة وهي تسحب جثث القتلى من أفراد طاقم طائرات الهليكوبتر في شوارع مقديشو، في مشهد أثار الرأي العام الأمريكي الذي ضغط على البيت الأبيض، ما أدى إلى إعلان الإدارة الأمريكية بقيادة بيل كلينتون سحب قواتها من الصومال.
في مقابلة إعلامية، ذكر أمير الحرب عبدي قيبديد شهادته عن المعركة، قائلاً إنّه وصل إلى موقع تحطم طائرة الهليكوبتر الثانية، وقام بإنقاذ الطيار دورانت من بين الحشود الغاضبة، متابعاً بأنّهم وضعوه في منزل آمن وقدموا له الرعاية الطبية. وأضاف: "سبب رعايتنا له أولاً لنستبدله لاحقاً بأسرانا المختطفين لدى الأمريكيين، وثانياً لكي يرى العالم والأمريكيون أنفسهم أننا لسنا ما يقوله الإعلام الغربي عنا أو أنهم هم الطرف الخَيّر في المعركة فقط". بعد أسبوع أُفرج عن الطيار الأمريكي عبر الصليب الأحمر.
الأمل أم تعقيد الأزمة؟
اضطرت الأمم المتحدة للانسحاب من مقديشو في آذار/ مارس عام 1994، بسبب تردي الأوضاع الأمنية، ولحقها الجيش الأمريكي في 25 من الشهر نفسه، لتصبح البلاد تحت رحمة أمراء الحرب، الذين قضى عليهم تنظيم المحاكم الإسلامية في 2006.
بعد مرور 30 عاماً على معركة مقديشو، تثير الأحداث تساؤلات حول جدوى التدخلات المسلحة في الأزمات. في البداية كان التدخل الأمريكي والأممي الذي ضمّ قوات من دول عدة بما فيها عربية وإسلامية يهدف إلى استعادة النظام ومعالجة الأزمة الإنسانية، لكنه سرعان ما أدى على تعقيد الأزمة
أما أمير الحرب الجنرال فارح عيديد فلم تتمكن القوة الأمريكية المخصصة لمطاردته من المساس به، وظل حياً حتى وفاته في 24 تموز/ يوليو 1996 متأثراً بإصابة لحقته في إحدى المواجهات بين أمراء الحرب.
بعد مرور 30 عاماً على معركة مقديشو، تثير الأحداث تساؤلات حول جدوى التدخلات المسلحة في الأزمات. في البداية كان التدخل الأمريكي والأممي الذي ضمّ قوات من دول عدة بما فيها عربية وإسلامية يهدف إلى استعادة النظام ومعالجة الأزمة الإنسانية، لكنه سرعان ما أدى على تعقيد الأزمة.
وذكر محمود عبدي علمي في كتابه المشار إليه سلفاً، أنه لم يكن من الضروري أنّ تتدخل أمريكا عسكرياً لأنّ ذلك أثار الحساسيات مع الأطراف المسلحة في الصومال، كما كان متوقعاً. وأوضح أنّه قبل التدخل العسكري عملت 27 منظمة إغاثية بشكل سلس في العاصمة بل أن الجنرال عيديد أمر أتباعه بتسهيل الأمور والعمل مع هذه المنظمات، وزار مع إحداها مدينة بيدوا لتفقد أوضاع المتضررين هناك.
بالعودة إلى معركة مقديشو، هل كان الصوماليون بنفس الوحشية التي أظهرتهم بها السينما الأمريكية؟ تناول محمود عبدي علمي الرواية الأمريكية للتدخل في الصومال في كتابه، مبرزاً أنّ البنتاغون خصص تمويلاً كبيراً لنشر العديد من المقالات والكتب التي تدعم رواية الجيش الأمريكي، وتخفي المجازر والفظائع التي قام بها. كتب علمي: "أكبر كذبة صدّروها للعالم هي فيلم "سقوط الصقر الأسود" الذي صوّر الصوماليين كمجموعة من الحيوانات المتوحشة المجرّدة من الإنسانية، وهذا عكس ما حصل وتبين للعالم أن الحيوانات المتوحشة اللاإنسانية هم الأمريكان ولا أحد غيرهم".
وبحسب علمي أيضاً، أحصت لجنة شُكلت لإحصاء ضحايا التدخل الأمريكي في الصومال، حدوث 34 اشتباكاً بين الصوماليين والقوات الأمريكية والأممية، ومقتل نحو 15 ألف معظمهم من المدنيين وإصابة وتضرر عشرات الآلاف من المدنيين. من بين ضحايا معركة مقديشو 30 طفلاً في مدرسة لتحفيظ القرآن استخدمهم الجنود الأمريكيون كدروع بشرية، فضلاً عن مئات القتلى المدنيين الذين حصدتهم رشاشات الطائرات في سوق بكارا المزدحم.
إحدى المعارك وقعت في 16 حزيران/ يونيو 1993 في مقديشو، بين قوات عيديد في مواجهة تحالف القوات الأمريكية والفرنسية والمغربية والإيطالية والباكستانية، كان الهدف منها نزع سلاح الميليشيات الصومالية.
كتب السكرتير السابق للجنرال عيديد: "ارتكبت القوات الأمريكية جميع محظورات الحروب باستعمالها أسلحة ثقيلة ومختلف الذخائر الممنوعة دولياً، ليس في مواجهة القوات الصومالية فحسب، بل في مواجهة المدنيين، الذين مثّلوا غالبية الضحايا. بعد ما يقارب الثلاث عقود من هذه المعركة لا يوجد أي ذكر للمذبحة التي أصبحت منسية تماماً".
ظل تأثير معركة مقديشو التي أدت لانسحاب الولايات المتحدة من الصومال محسوساً في أمريكا لعدة عقود؛ بعد معركة مقديشو أصبحت واشنطن حذرة جداً بشأن نشر قوات برية في أي مكان بالعالم، حتى مطلع الألفية الثالثة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...