في قصره، وحيداً، بينما قوات الميليشيات القبلية المتمردة تحاصره، وقف الرجل الذي حكم الصومال بقبضة حديدية لمدة 22 عاماً (1969-1991)، تحيط به قلّة من عشيرته، يخططون للفرار. محمد سياد بري، الرجل الذي تسبب في انهيار الدولة الصومالية المركزية التي تأسست بعد نيل الاستقلال عام 1960، وأدخل البلاد في فوضى لم تتعافَ منها حتى اليوم، اضطر إلى الهروب من مقديشو إلى جنوب البلاد، ثم ملاحقاً إلى كينيا، مخلّفاً وراءه بلداً منهكاً بالحروب والفقر. من كينيا انتقل إلى نيجيريا التي توفي فيها عام 1995، ليعود إلى وطنه ويُدفن في منطقة غيدو في جنوب البلاد، حيث موطن عشيرته.
اعتمد محمد سياد بري الاشتراكية القائمة على مزيج من تعاليم الدين الإسلامي ومبادئ الماركسية، وبالرغم من نظامه الشمولي تمتّع في بدايته بشعبية كبيرة، إذ قاد حملات كبرى لمحو الأمية، وكتب الصومالية بالحروف اللاتينية ودشّن عملية تعليمها وجعلها اللغة الرسمية.
الصعود إلى الرئاسة
وُلد سياد بري عام 1919 في مدينة غارباهاري، الواقعة في إقليم غيدو جنوب الصومال، لأسرة بدوية، تنتمي إلى قبيلة "دارود" القوية، وتلقى تعليمه الأساسي في مدينة لوق جنوب الصومال، ثم انتقل إلى العاصمة مقديشو التي كانت تحت سيطرة الاستعمار الإيطالي، وانضم إلى الشرطة الإيطالية، ثم انتقل إلى إيطاليا ودرس لمدة سنتين في كلية شرطة كاربيناري.
وبعد حصول الصومال على الاستقلال في عام 1960، نال سياد بري ترقيات متواليةً بعد إظهاره تفوقاً على أقرانه، وبحسب الكاتبة الصومالية سندس أحمد، فإن تقلّده منصب قائد الجيش الصومالي منتصف ستينيات القرن الماضي، كان تذكرته المباشرة للوصول إلى كرسي الحكم.
استفاد سياد بري من حادث اغتيال الرئيس عبد الرشيد شرماركي، الغامضة في عام 1969، وقاد المجلس الثوري الأعلى (SRC)، للقيام بانقلاب عسكري بعد يوم واحد من دفن شرماركي، بعد أن فشل البرلمان في تنصيب رئيس مؤقت للبلاد. انقلب بري على الديمقراطية الوليدة في البلاد، وأعلن تعليق الدستور وحلّ البرلمان والمحكمة العليا، وحظر الأحزاب السياسية، وقبض على رموز الحياة السياسية في البلاد، وأودعهم السجون بمن فيهم أول رئيس للصومال بعد الاستقلال آدم عبد الله، وتحولت الصومال من دولة ديمقراطية تعددية إلى دولة الحزب الواحد المتمثل في "الحزب الاشتراكي الثوري الصومالي"، تحت قيادة 25 شخصيةً عسكريةً يترأسهم محمد سياد بري.
اعتمد سياد بري الاشتراكية القائمة على مزيج من تعاليم الدين الإسلامي ومبادئ الماركسية، وبالرغم من نظامه الشمولي تمتّع في بدايته بشعبية كبيرة، إذ قاد حملات كبرى لنشر التعليم ومحو الأمية في القرى والمدن، وكتب اللغة الصومالية بالحروف اللاتينية ودشن استعمالها وتعليمها وجعلها اللغة الرسمية في البلاد. وتمتعت سنوات حكمه الأولى بالاستقرار السياسي، كما حظيت الجمهورية في عهده بالاحترام الدولي، فنجح في ضم الصومال إلى جامعة الدول العربية، وتولى رئاسة الاتحاد الإفريقي، وأضحى مرحّباً به في المحافل الدولية، وتعاظمت قدرات الجيش الصومالي، ليصبح في عهده من أقوى جيوش المنطقة.
حرب الأوغادين: إرهاصات الهزيمة
مدفوعاً برغبة أسلافه في توحيد الصوماليين في دولة واحدة، قرر بري غزو إثيوبيا لاستعادة إقليم الأوغادين ذي الأغلبية الصومالية، في تموز/ يوليو 1977، ونجحت قواته في تحقيق مكاسب في الأشهر الأولى من الحرب، إلا أن الهجوم الإثيوبي المضاد والمدعوم بقوات كبيرة من الكتلة الشرقية والعتاد السوفياتي، حوّل النصر إلى هزيمة نكراء. واصطدم بري بحقائق لا يمكن تخطّيها؛ وهي المواقف الإقليمية والدولية المعارضة للسلوك الصومالي في الأوغادين، فاضطر إلى سحب قواته في آذار/ مارس 1978، تحت ضربات التحالف السوفياتي-الإثيوبي-الكوبي.
وبذلك، فشلت حرب تحرير الأوغادين، وترتبت عليها أوضاع خطيرة أدت إلى تحلل الدولة الصومالية؛ ذلك أن النكسة أدت إلى انهيار الروح المعنوية للشعب الصومالي والجيش، بالإضافة إلى تدهور الحالة الاقتصادية والعزلة السياسية للبلاد، وتزامنت مع هذه المآسي كلها إجراءات قمعية اتخذها سياد بري ضد الجيش، مدفوعاً بالخوف من حدوث انقلاب عسكري عليه.
وتُعدّ حادثة إعدام الضباط الـ18، من الحوادث المروعة التي ارتكبها نظام سياد بري، والتي عجلت في قيام الجبهات المسلحة ضده، بعد تسببها في تنامي الانقسامات القبلية، لا بين فئات الشعب وحسب، وإنما داخل المؤسسة العسكرية أيضاً.
بعد شهر واحد، في نيسان/ أبريل 1978، وردّاً على قرارات بري الدموية، نظّم ضباط من الجيش أبرزهم العقيد -حينها- عبد الله يوسف (سيصبح رئيس البلاد بعد تشكيل الحكومة الانتقالية في 2004)، والعقيد محمد شيخ عثمان "عرو"، انقلاباً عسكرياً، يقول عنه يوسف في مذكراته "نضال ومؤامرة": "كنا نعدّ فعلياً للإطاحة بسياد بري وحاشيته، لأنّنا كنا متأكدين بأنه سيقود البلاد إلى حقول من الدم وويلات الحروب والصراعات الداخلية والتقاتل القبلي اللا نهائي. أردنا منع ذلك حيث خططنا لإسقاطه".
قاد العقيد عيرو الانقلاب في التاسع من نيسان/ أبريل، ولكنه فشل بعد الاستنفار الأمني القوي، وصدت القوات الموالية لبري الانقلابيين في ضواحي العاصمة بعد معركة طاحنة.
وفي خبر نشرته "واشنطن بوست"، بعد يوم من المحاولة تلك، ورد: "كان هناك استياء شديد بين وحدات الجيش التي انسحبت من أوغادين بعد تعرضها لهزائم كبيرة على يد القوات الكوبية والإثيوبية". وظّف بري المحاولة الانقلابية كمبرر لتطهير أفراد العشائر المتورطة في الانقلاب من المناصب الحكومية والعسكرية، وأعدم 17 ضابطاً من المشاركين في المحاولة، ونجا العقيد عبد الله يوسف الذي فرّ إلى كينيا، ومنها اتجه إلى إثيوبيا، وشكّل أول جبهة عسكرية لإسقاط سياد بري، باسم جبهة الإنقاذ الديمقراطية الصومالية (SSDF)، في عام 1979. ودُمجت هذه الجبهة مع كيانات سياسية أخرى كانت فاعلةً في مدينة عدن اليمنية، في عام 1982، بدعم من إثيوبيا وليبيا. وفي صيف عام 1982، شاركت جبهة (SSDF) في حرب ضد نظام سياد بري على الحدود الإثيوبية الصومالية. وسيطرت الجبهة التي كانت مدعومةً من إثيوبيا على مدينتين حدوديتين، أعلنت إثيوبيا ضمهما إلى أراضيها، قبل أن تتراجع بسبب رفض الجبهة ذلك.
اندلاع الحرب الأهلية
ولم يختلف الحال كثيراً في إقليم أرض الصومال (صوماليلاند)، فقد فرض عليهم سياد بري في عام 1981، عقوبات اقتصاديةً، دفعت بتجّارهم الموجودين في الشتات إلى تأسيس الحركة الوطنية الصومالية (SNM)، وكانت الجبهة تهدف إلى التخلص من نظام بري، وبسبب تواجد داعمي هذه الجبهة في دول أوروبية، كانت هذه الجبهة أكثر ميلاً نحو الديمقراطية والأفكار السياسية الحداثية.
ومع فشل الحكومة في احتواء تلك الأزمات، بالإضافة إلى استمرار توجهها القمعي، اندلعت المعارضة في وسط البلاد (بونتلاند) وشمالها (صوماليلاند)، وتراوحت بين المظاهرات والتمرد القبلي على النظام. رد سياد بري بحملة ممنهجة تقضي باستئصال قبيلة إسحاق في صوماليلاند التي كان يراها نظامه كـ"السرطان المتجذر في هيكل الدولة الصومالية"، بحسب المراسلات بينه وبين الجنرال محمد حرسي مرجان، واستهدفت طائرات سياد بري مدينتي هرجيسا وبرعو، مخلفةً دماراً كبيراً ومقتل الآلاف ونزوح عشرات الآلاف.
مثّلت هذه الواقعة تحولاً محورياً، وبدأت قوات جبهة (SNM) بالسيطرة على مدن الشمال، الواحدة تلو الأخرى، حتى سيطرت بشكل كامل على الإقليم الذي يُعرف اليوم بأرض الصومال، كما حققت جبهة (SSDF) بدورها انتصارات حاسمةً في العام نفسه، 1990، وبدورها سيطرت جبهة المؤتمر الصومالي الموحد (USC) على العاصمة مقديشو مع حلول عام 1991، بعد حرب عصابات دامية.
وبذلك تحققت أسوأ كوابيس النظام الحاكم؛ تحولت المعارضة السياسية إلى جبهات قبلية مسلحة شكلت ضغوطاً لدفع بري إلى التخلي عن السلطة. ولتدارك الانهيار، شُكّلت لجنة مصالحة وطنية ضمت وجهاء البلاد وسياسيين وشخصيات من الحكومة والجبهات المعارضة، ونقلت هذه اللجنة مطالب جبهة المؤتمر الصومالي الموحد (USC)، التي كانت على بعد أمتار من القصر الرئاسي إلى سياد بري. وتضمنت هذه المطالب ثلاثة شروط رئيسة هي: وقف غير مشروط لإطلاق النار، وأن يقوم بتسليم السلطة، وأخيراً أن يغادر البلاد، على أن يتولى عمر عرته السياسي المخضرم، المسجون منذ نهاية السبعينيات، مقاليد الحكم لفترة مؤقتة.
لكن رفض بري التنحي عن السلطة جعل الحرب الأهلية تتسع، وحاصرته المعارضة المسلحة داخل قصره في مقديشو، لكنه تمكن من الفرار بأعجوبة برفقة قوات تنحدر من عشيرته (مجيرتين)، إلى محافظة جدو جنوب العاصمة، التي سقطت بيد أميرَي الحرب محمد فارح عيديد ورفيقه علي مهدي، في كانون الثاني/ يناير 1991.
الهروب من فيلا صوماليا
حين دخل أميرا الحرب عيديد ومهدي القصر الرئاسي، "فيلا صوماليا"، وجدا القصر فارغاً، بعد هروب سياد بري، الذي استطاع الإفلات من حصارهما. لكن كيف هرب بري من المسلحين الذين سيطروا على مقديشو، وكانوا في اشتباك عنيف مع القوات المدافعة عنه؟
يحكي نائب وزير الداخلية في عهد بري، حسن حرسي، في مقابلة سابقة، ما حدث في الساعات الأخيرة قبل هروب بري، قائلاً إنّه بعد دخول الجبهات المسلحة إلى مقديشو نقل عائلته إلى حي بعيد عن المجمع الذي كان يسكن فيه داخل القصر الرئاسي، وعاد إلى القصر ليرافق الرئيس. يقول عن حالة بري: "كان منشغلاً بأمور عديدة ولم يكن يعي ما يقوله ولا إلى من يتحدث. كان قلقاً على سلامة عائلته وضياع حكمه، ولكن أهم ما كان يشغل باله تاريخه وكيف ستكون نهاية نظامه؟".
دبابة سوفياتية قديمة تقف بالقرب من حديقة القصر، وعشرات الجنود المسلحين حولها. سياد بري يخرج من القصر، وعلى جانبيه زوجتاه تساعدانه على السير، ثم يدخل إلى الدبابة برفقتهما ويهرب من قصر الرئاسة، بعدما عاث في الأرض خراباً
يقول المسؤول السابق: "كانت الأيام تمرّ سريعاً وتقترب أصوات القذائف والرصاص كل يوم، وبات القصر محاصراً، وكان متوقعاً اقتحامه في أي ساعة، وما أثار استغرابه للغاية من بري أنّه لم يحاول مغادرة القصر، برغم أنّ قوة حمايته لم تكن تُقارَن بالمهاجمين"، وظن أنّ بري وعائلته اختاروا الموت على الفرار.
يتابع المسؤول ويقول: "على غير العادة، في الخامسة عصراً، يوم 26 كانون الثاني/ يناير، خفّت أصوات الرصاص، فنظرت من نافذه بيتي إلى القصر، ورأيت دبابةً سوفياتيةً قديمةً تقف بالقرب من حديقة القصر، وعشرات الجنود المسلحين حولها، فتوقعت أنّ القصر سقط. لكن بعد ذلك رأيت سياد بري يخرج من القصر، وعلى جانبيه زوجتاه تساعدانه على السير، ثم دخل إلى الدبابة برفقتهما".
بعد ذلك تحركت الدبابة، ووفّرت له الحماية من وابل ضربات القذائف والرصاص، وبعدها أدركت قوات عيديد ما يحدث. وبرغم تعطّل الدبابة مرات عديدةً وانكشافها أمام نيران جنود عيديد، إلا أنّ قائد الدبابة تمكّن من الخروج من المنطقة المحاصرة، ونُقل سياد بري إلى سيارة رباعية الدفع، نقلته بصحبة حرّاسه إلى مدينة كسمايو في جنوب البلاد.
بعدها انتقل إلى مدينة "غيدو"، واجتمع حوله آلاف المقاتلين، وبعد أشهر قليله شنّ حملةً عسكريةً لاستعادة السلطة كان مصيرها الإخفاق، وحاول ثانيةً بعد 6 أشهر، وقاد جنوده لاستعادة مقديشو، والتقى بقوات عيديد في مدينة هراري، في معركة دامية لمدة أيام. أيضاً هُزم سياد بري، وفرّ إلى الحدود الكينية، وكاد أنّ يقع في الأسر لولا تدخل القوات الكينية بعملية إنزال جوي نقلته إلى خارج بلده المنهار. واضطر سياد بري بعد ذلك إلى ترك كينيا بعد تهديد عيديد لنيروبي بالحرب، وانتقل إلى نيجيريا كلاجئ سياسي، حتى وفاته في عام 1995.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...