إنها المرة الأولى التي تختبر فيها مرام (31 عاماً)، اضطراباً في دورتها الشهرية، فقد حاضت غمارها مرّتين خلال شهر واحد، فضلاً عن الآلام غير الاعتيادية التي رافقتها وتعرّضها لما يشبه النزيف في أثناء نزول دم الحيض لكثرة غزارته.
"موت الحياة الزوجية"
تعتقد مرام، التي تسكن في جنوب لبنان، أنّ السبب يعود إلى انعكاس التوترات المندلعة عند الحدود اللبنانية-الفلسطينية على حالتها النفسية، وهو السبب نفسه الذي أرغمها على مغادرة بلدتها الهبارية، وفق ما تقول لرصيف22: "في هذه الحالة، تصبح الحياة معدومةً، ويموت كل شي في الحياة، بما في ذلك الحياة الزوجية، وكل ما يحبّه المرء يغدو سخيفاً".
وترى مرام أن الخوف والرعب في الأزمات يسيطران على الإنسان أكثر من رغباته، متحدثةً عن تدنّي الرغبة الجنسية لديها منذ اندلاع الأحداث، ما شكّل عائقاً أمام ممارسة العلاقة الحميمة مع زوجها: "أحاول السيطرة على الأمر لكنني لا أنجح دائماً".
"في هذه الحالة، تصبح الحياة معدومةً، ويموت كل شي في الحياة، بما في ذلك الحياة الزوجية، وكل ما يحبّه المرء يغدو سخيفاً"
وتُضيف: "صحيح أنها خمس دقائق، إلا أنه يراودني خلالها شعورٌ بأنني أرتكب خطأً ما، وكأنني أخون شيئاً مجهولاً"، مشيرةً إلى أن لا شيء يشغل تفكيرها بقدر رغبتها في العودة وأسرتها إلى المنزل بأمان.
وإن بدت تجربة مرام فرديّةً، إلا أنها تتقاطع مع تجارب عديدة لنساء لبنانيات يعشن حالةً من الخوف والضغط النفسي، لا سيّما اللواتي ينتمين إلى قرى وبلدات محاذية للحدود الجنوبية، وعايشن بطبيعة الحال مشاهد القصف والمعارك.
ارتفاع في طلب فحوصات الصحة الجنسيّة
لاحظت منظمة omgyno، التي تقدّم استشارات وفحوصات مجانيّةً تتعلّق بالصحّة الجنسيّة والإنجابيّة، أنّ هناك ارتفاعاً لافتاً في وتيرة الأسئلة التي تتلقاها مؤخراً عبر منصات التواصل الاجتماعي والبريد الإلكتروني، وكذلك ازدياداً في طلب الفحوصات المنزليّة، مقارنةً بالفترة التي سبقت اندلاع الأحداث الأمنيّة المقلقة جنوب البلاد.
"عدد النساء اللواتي يعرفن أن سبب المشكلات التي يتعرّضن لها قد يكون مرتبطاً بالقلق، قليلٌ جداً، هناك جزء منهنّ يُحاول إنكار الواقع وعدم الاعتراف بتعرّضهنّ للضغط النفسي، فيما تقوم النساء اللواتي يتوقّعن أنّ مشكلاتهنّ المستجدّة مرتبطة بحالات الخوف والقلق بإهمال أنفسهنّ لاعتقادهنّ بأن الأعراض ستختفي بمجرّد زوال التوترات النفسية"، وفق ما تقوله المؤسِسة والمديرة التنفيذية للمنظمة، دورين توتيكيان، لرصيف22.
وتُشير إلى أنّ أكثر أنواع الفحوصات طلباً في الآونة الأخيرة، فحص المسحة المهبلية: "معظم النساء اللواتي تواصلن معنا، عبّرن عن شعورهنّ بانزعاج مستجدّ في المهبل كالإصابة بالالتهابات، الحكة الشديدة أو التهيّج، وبدا لافتاً أنّ غالبية الأسئلة ممزوجة بنوع من الخوف والتوتّر".
آثار الأزمات على الصحة الجنسية للنساء
انطلاقاً من أنّ صحّة النساء الجنسية معرّضة للخطر بشكل أكبر في أوقات الأزمات، تشدّد دورين توتيكيان، على أنّه لا يمكن عدّها ثانويةً، وللوعي دور مهمّ في هذا الإطار: "الكثير من النساء يهملن أنفسهنّ في الأزمات على قاعدة 'هلأ مش وقتها'، ويضعن العائلة والأولاد والأهل والعمل على رأس اهتماماتهنّ قبل التفكير في صحّتهنّ، لذلك يجب تحفيزهنّ على إجراء الفحوصات عند الحاجة".
وتضيف: "صحة النساء الجنسية مهمّة في كل الظروف، والشعور بالذنب حيال الاهتمام بها أمر مرفوض، فالانتكاسات التي تطرأ على جسد المرأة يمكن أن تتفاقم، كما أن بعض المشكلات يمكن أن تتحول إلى أمراض سرطانية كسرطان عنق الرحم، وتضع المرأة أمام وجوب استئصال الرحم في بعض الحالات".
"معظم النساء اللواتي تواصلن معنا، عبّرن عن شعورهنّ بانزعاج مستجدّ في المهبل كالإصابة بالالتهابات، الحكة الشديدة أو التهيّج، وبدا لافتاً أنّ غالبية الأسئلة ممزوجة بنوع من الخوف والتوتّر"
وتختم بالتشديد على ضرورة التمسّك بنظرية "الوقاية خير من العلاج"، لأنّ الالتفات إلى الصحّة الجنسية يمكن أن يجنّب المرأة تجارب صعبةً ومؤلمةً.
تحمل العديد من المشكلات التي يمكن أن تُصيب أجساد النساء في الأزمات بآثار سلبية مباشرة على صحتهنّ الإنجابية والجنسية، نذكر منها اضطرابات الدورة الشهرية، إذ أظهرت إحدى الدراسات أنّ خطر الإصابة بها يرتفع لدى النساء اللواتي يعشن في مناطق معرضة للقصف.
في هذا السياق، تشرح الطبيبة المتخصصة في الأمراض النسائية، غيال أبو غنام، أن الاضطرابات في الدورة الشهرية هي المشكلة الأكثر شيوعاً بين النساء اللواتي يتعرضن للضغط النفسي في حالات الحرب والأزمات، وحالات الوفاة، والصدمة، والقلق الشديد وغيرها، نظراً إلى تأثُّر مستوى هرمون الكورتيزول الذي ينعكس ارتفاعه على الهرمونات التناسلية ويُسبّب تالياً مشكلات في الدورة الشهرية قد تأتي على شكل تأخّر الحيض أو تقدّمه، أو النزف المفرط أو نزول دم بكمية قليلة، وزيادة الآلام والتقلصات.
وتُشير أبو غنام إلى أنّ الخلل في الدورة الشهرية يمكن أن يؤثر بدوره على الخصوبة: "لن يكون جسد المرأة مستعداً لإمكانية حدوث حمل إن كانت ترغب في ذلك".
وتُشير في حديثها إلى أنّ النازحات يصبحن أكثر عرضةً لاضطرابات الحيض: "من الممكن أن يسفر عدم حصولهنّ على ساعات نوم كافية عن عدم انخفاض مستوى هرمون الكورتيزول لديهنّ، وتالياً حدوث مشكلات في الهرمونات التناسلية".
كما كشفت غيال عن مشكلات أخرى يمكن أن تُعاني منها المرأة خلال الأزمات، كالتشنّج المهبلي اللا إرادي، إذ تؤدي حالة التوتر والضغط إلى زيادة التشنجات وعدم القدرة على الاسترخاء والتركيز على اللحظة الراهنة، فضلاً عن الألم خلال ممارسة العلاقة الجنسية مع الشريك، وحصول جفاف في المهبل، أو حريق أو أي نوع من الانزعاج وكذلك تدني الرغبة الجنسية.
وتشرح المتخصّصة أبو غنام، أنّ "سبب حدوث الالتهابات المهبلية يمكن أن يكون مرتبطاً بحدوث خلل في مستويات البكتيريا الطبيعية في المهبل نتيجة التغيرات في مستويات الهرمونات الناتجة عن حالات التوتر والضغط النفسي، أما النساء النازحات اللواتي يعشن ظروفاً صعبةً، فيمكن أن يدفعهنّ نقص المياه إلى استخدام المناديل المبللة، ويصبحن بذلك أكثر استعداداً للإصابة بالالتهابات المهبلية".
متى تُصبح الأعراض مُقلقةً؟
عانت غدير (اسم مستعار)، من تشنّج مهبلي منذ بدء القصف على جنوب لبنان حيث تسكن، واستمرّت المشكلة لأيام متتالية قبل أن تقدم على استئجار منزل في الضاحية الجنوبية لتحتمي به مع زوجها.
في حديثها إلى رصيف22، تحكي عن الخوف الشديد الذي اعتراها عند سماع الأصوات العنيفة في اليوم الأول بينما كانت تستعدّ للخلود إلى النوم، وتوقفت على إثره عن الطعام والشراب بشكل كلّي، عادةً أنّ ما عاشته في تلك الليلة تحديداً كان سبباً كافياً لتعرّض جسدها لتغيرات جديدة: "بالإضافة إلى التشنج المهبلي الذي منعني من ممارسة العلاقة الحميمة لأيام عدة، لاحظتُ تقدماً لفترة الحيض عن موعدها بلغ عشرة أيام، ونصحتني أمي بمغادرة مكان سكني في كفركلا كي لا يتأثر الرحم لديّ ويؤثر على الحمل، فأنا أرغب في الإنجاب".
أما سهى (اسم مستعار)، التي لم تُغادر بلدتها الجنوبية حتى الساعة، فلديها تجربة مختلفة: "في اليوم الأول للقصف الذي تزامن مع اليوم الثلاثين لولادة طفلي، تعرضت لنزيف مفرط استمرّ عشرة أيام، قبل أن أتواصل مع طبيبتي وأتلقى العلاج المناسب".
"الكثير من النساء يهملن أنفسهنّ في الأزمات على قاعدة 'هلأ مش وقتها'، ويضعن العائلة والأولاد والأهل والعمل على رأس اهتماماتهنّ قبل التفكير في صحّتهنّ، لذلك يجب تحفيزهنّ على إجراء الفحوصات عند الحاجة"
وبحسب طبيبتها، يعود سبب النزيف إلى الخوف الشديد الذي عاشته سهى والذي سبّب مشكلات أخرى واجهتها لاحقاً كزيادة الالتهابات المهبلية، إلاّ أنها وبرغم القلق من الأحداث وتبعاتها، لم تجد وأسرتها خياراً آخر سوى البقاء في منزلهم، وفق ما تقوله لرصيف22.
في هذا الصدد، تنصح الطبيبة غيال أبو غنام، النساء بزيارة متخصص في المجال في حال استمرت العوارض لأكثر من أسبوعين في ما يتعلّق بالالتهابات والوجع والتهيّج، أو باستمرار الخلل في الدورة الشهرية: "من الضروري الكشف عن السبب الرئيسي لتلك المشكلات".
وتختم حديثها بالقول: "يجب على النساء تناول الطعام المتنوع، وشرب كميات كافية من المياه، والاستحمام بشكل يومي، كما أن الاهتمام بالصحة النفسية يجب أن يكون على رأس قائمة الأولويات لأنّه المسبب الرئيسي للكثير من الصعوبات".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...