لست متأكداً مما إذا كان المخرج السويدي الراحل إنغمار برغمان، الذي كان يرتبط بصداقة كبيرة مع رئيس الوزراء أولف بالمه، قد التزم بخط الحزب الديمقراطي الاجتماعي الذي كان يقوده هذا الأخير حتى اغتياله سنة 1986. لكن المؤكد أن برغمان كان قد أسس "حزب المذعورين"، الذي أبقاه بعيداً عن أي التزام سياسي جدّي، وظلَّ متفرغاً لعمله الإبداعي، بالرغم من العثرات التي تعرَّض لها خلال سنوات عمله، وليست أصعبها بالطبع الاتهامات الحكومية له بالتهرب الضريبي، وهو الأمر الذي دفعه لمغادرة السويد مدة ثماني سنوات عمل فيها أساساً في ألمانيا (بلد النازية الأول على الخريطة)، كما كان يقول، وصوَّر فيها معظم مشاهد فيلمه "العار"، سنة 1968، قبل أن يعود مثخناً بالجراح النفسية التي طالته في منفاه الاختياري.
لم يبتعد برغمان عن سكة المذعورين الذين انتمى إليهم مبكراً، منذ أن عمل في مسرح مدينة غوتنبرغ كمخرج منذ مطلع سنة 1945، وقدَّم في السنة التالية مسرحية "كاليغولا" عن نص ألبير كامو الشهير.
المؤكد أن برغمان كان قد أسس "حزب المذعورين"، الذي أبقاه بعيداً عن أي التزام سياسي جدّي، وظلَّ متفرغاً لعمله الإبداعي، بالرغم من العثرات التي تعرَّض لها خلال سنوات عمله
حظيت المسرحية بنجاح منقطع النظير حينها، لكنه في السنتين التاليتين قدَّم مسرحيتين من كتابته؛ واحدة -للمصادفة- تحكي عن خوفه، وأخفقتا تقريباً، حتى أن صحيفةً محليةً كتبت تقول إن هذين العملين المسرحيين لا يستحقان ما صُرف عليهما من ماكياج، وبعدها دخل صاحب "برسونا" في صراع مع مدير المسرح الذي دفعه لتقديم استقالته سنة 1949، ليجد نفسه عاطلاً عن العمل ولديه عائلة كان مضطراً إلى إعالتها، فعمل في الإعلانات التجارية، مرغماً، لصالح إعلان لصابون شهير في السويد، وقد خرج منه نظيفاً بتعبير ناقدة سينمائية فرنسية.
كانت تسعة إعلانات على مدى عامين، مدة كل إعلان منها نحو دقيقة واحدة، قد استمدت قوتها التعبيرية والجمالية، بعد مرور أكثر من سبعة عقود، من أن واحداً من أسود المشهد السينمائي العالمي قد وقف وراءها، أي أن برغمان هو من أعطاها كل هذه القوة الهائلة، بالرغم من شعوره الدائم بالذعر والخوف اللذين كانا يترصدانه، ويسببان له قلقاً ووساوس، في صراعه مع كائنات غير مرئية، أو بعضها كان مرئياً بالنسبة له بنسب مختلفة، وسببت له إخفاقات حياتيةً مبرحةً، ربما تمكن بشكل أو بآخر من التعالي عليها، والإقامة الحرَّة المفتوحة في جزيرة فارو للعمل والعزلة، حتى اختيارها مكاناً لمرقده النهائي سنة 2007.
لكن أين يمكن ملاحظة خطوط وحظوظ أعضاء وقيادات حزب المذعورين بعد رحيل مؤسسه الأول؟ وهل بقي منه طرف خيط يمكن أن يدل عليهم واحداً واحداً، أو على الأقل يمكن أن يشير إليهم ولو من بعيد دون إدخالهم في متاهة السؤال، والتقصي، وعمليات الكشف عن الحمولات النفسية والمعنوية في داخل كل منهم؟
لو وسّعنا دائرة السؤال قليلاً، فإنه يمكن أن نوسع الخريطة أيضاً، من أجل طرح أسئلة عن كل أولئك المذعورين الذين قصدوا القارة العجوز هرباً من بطش ديكتاتورياتهم تحت مسميات مختلفة، أو حتى من بطش أوضاعهم الاقتصادية السيئة، وجاؤوا للبحث والتمكين والعيش الكريم، حتى نتفادى توجيه الاتهامات إليهم من قبل اليمين العنصري بأنهم مسؤولون عن كل مشكلات هذه البلدان. كيف يمكن أن نتعرف إليهم؟
من المؤكد أنه ليس بالأمر السهل بالطبع، فبعضهم أجاد اللغة، وفهم القوانين، وتماهى معها، وأقنع نفسه بأنه قد أصبح "ابناً باراً"، في البلد الذي يعيش فيه، وصدَّق مشاركته في الانتخابات البلدية والنيابية من باب أنه كان محروماً في البلاد التي قدم منها، من نعمة التصويت للحزب أو الزعيم الذي يريده، وها هو الآن حر ويختار ما يشاء، وصار مهتماً بالاحتفاظ بالمكاسب والامتيازات التي حصل عليها بعد اجتيازه مضائق العنصرية وفخاخ اللغة وكذبة الاندماج الكبرى، وعدم قبول الآخر له بالكذب المريح، وبعضهم انكمش على نفسه، وتسبب اللجوء إليه في مطارح كثيرة بآلام نفسية كثيرة، ورضَّات معنوية ومادية أقسى من أن يتحمَّلها وصار مهتماً بغيبيات أقسى وأشد عليه من واقعه نفسه، وهناك من تلاعب بالواقع الذي وجد نفسه فيه، وانتصر بعقله "الماضوي" لكل شيء مزدهر أنتجه هذا العقل في الألفية الأولى، وأمَّن لنفسه بحبوحةً في العيش وأوضاعاً اقتصاديةً جيدةً أيضاً بوسائل مختلفة، وواصل حياته دون أن يعبأ بالكلفات التي تنتظره على الطريق.
قبل مدة وجيزة، قدّمت مخرجة هنغارية مسرحية "كاليغولا"، على مسرح المدينة نفسه الذي قدّم عليه برغمان المسرحية ذاتها. من الطبيعي أن ثمانين عاماً تقريباً تفصل بين العملين سوف تطرح أسئلةً مختلفةً عن نوع الذعر الذي قد يصيب الإنسان حين يتعطَّل على يد ديكتاتور ومستبد وصاحب مخيلة فانتازية في سن القوانين مثل كائن عَبَر التاريخ بجنونه واستبداده الذي لا يُضارع ويدعى فوق كل ذلك "كاليغولا".
ولكن السؤال المجدي هنا، أين يمكن أن نجد هذا الـ"كاليغولا" في القارة العجوز التي تخضع الآن لأقسى امتحان مصيري ووجودي يهدد مصداقية بلدانها في ضوء الحرب على غزة، وقد بدأت بعض دولها تنحو منحى دول شرق أوسطية و"عالمثالثية" مستبدة في إصدار القوانين المتعلقة بإعادة تنظيم حياة المهاجرين الشرق أوسطيين تحديداً، كأن تربط ولايات ألمانية مثلاً منح الجنسية مقابل الاعتراف بإسرائيل، والتعهد بعدم ممارسة نشاطات معادية للسامية! أو أن تقوم الحكومة البلجيكية بالضغط على بعض البلديات في الجانب الفلمنكي من البلاد بسحب الجنسيات من أطفال فلسطينيين وُلدوا على أراضيها بذريعة ارتفاع أعدادهم بشكل مفاجئ، وكأن هذه الدول لم تسهّل يوماً عمليات تجنيس الفلسطينيين (عديمي الجنسية في قوانينها المرعية).
تتوَّسع دائرة حزب المذعورين يوماً إثر يوم، وليس مهماً، من هم الأعضاء الآن، أو من هم "الكاليغولات" الجدد الذين يقفون وراء سن الكثير من القوانين في هذه البلدان، إذ يكفي المرء أن يستيقظ كل صباح ليقرأ عن فرمانات جديدة متعلقة بوجوده
صحافي تركي اسمه طارق باباي، مقيم في ألمانيا منذ عقود، أصدر كتاباً بعنوان "اللاجئون القدامي الجدد"، قال إن اقتراحات بعض الولايات الألمانية بهذا الخصوص لا تأتي بجديد، إذ إن كثيرين وقّعوا، بصمت مطبق، مثل هذه التعهدات والاعترافات مقابل تسهيلات متعلقة بالجنسية والعمل.
إذاً، تتوَّسع دائرة حزب المذعورين يوماً إثر يوم، وليس مهماً، من هم الأعضاء الآن، أو من هم "الكاليغولات" الجدد الذين يقفون وراء سن الكثير من القوانين في هذه البلدان، إذ يكفي المرء أن يستيقظ كل صباح ليقرأ عن فرمانات جديدة متعلقة بوجوده، أو يمكنه الملاحظة بالعين الحاذقة كيف أن مناضلين شديدي البأس في موضوعات أخرى -غير غزة- صمتوا بخصوصها، وأخفوا رؤوسهم في رمال السوشال ميديا الرجراجة مذعنين للامتيازات المعنوية والمناصب الإدارية التي حققوها في الفترة الماضية، وصاروا يرون في الكثير من الشعارات التحريضية وغير التحريضية، مجرد "أذى".
لقد اكتشف إنغمار برغمان، تلك الطوية الحزينة في النفس البشرية قبل عقود، فأسس حزب المذعورين من هذا الباب، لكن هذا الحزب مع الترهل الفكري والبيروقراطي والمنفعي غيَّر من برنامجه ونهجه تحت ضغط "كاليغولات" عميقين غير مرئيين، وصار يضم في صفوفه أعضاء جدداً، مزوِّرين (بكسر الواو)، لا يفكرون أبداً بطريقة القائد المؤسس، أو في السير على نهجه في أقل تقدير من باب القدرة على التمرد والاحتجاج!
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...