فارس فارس، ممثل سويدي من أصول لبنانية (1973)، عمل في أفلام مثل "صبي من الجنة" و"خلوص انتقام" و"حادثة النيل هيلتون" و"30 دقيقةً بعد منتصف الليل"، وسواها من إنتاجات سويدية ودنماركية ونرويجية وأمريكية، وها هو يقدّم فيلمه السويدي الأول "يوم ونصف" (2023)، على شاشة نتفليكس منذ أول يوم من أيلول/سبتمبر الجاري، كمخرج هذه المرة، وإن حجز مساحةً مهمةً له كممثل في الفيلم نفسه، وقد كتب السيناريو بالتعاون مع بيتر سميرناكوس، وهو مستلهَم من حادثة حقيقية كما يقول فارس في حوار معه، سبق له أن قرأ عنها في الصحافة المكتوبة.
من الواضح أن فارس فارس، قد أمسك بالعصا من المنتصف، فهو يقدّم دراما فيلم طريق، لا ينقصه التوتر والإثارة النفسية اللازمان في تحريك المشاهد، ويكاد يكون مضبوطاً إلى أقصى حد من جهة تعامله مع ممثليه.
لا يبتعد الفيلم أبداً عن إثارة هذه النقطة بالذات، إذ كيف يمكن لمهاجر متزوج من مواطنة سويدية أن يكمل حياته وسط "عواصف" البيروقراطية المهيمنة على أدق تفاصيل حياته
وهو ينجح إلى حد بعيد في إدارة بطليه الرئيسيين؛ أرتان كيليمندي (لعب دوره ألكسي مانفيلوف)، ولويز (لعبت دورها ألما بويستي)، بعد أن تخلَّى التزاماً منه بحذافير قصته عن بقية ذلك الرهط من الممثلين والممثلات الذين/اللواتي ظهروا/ن كمجاميع لـ"رهائن محتملين" في مركز الرعاية الصحية في إحدى المدن السويدية التي لم تُذكر بالاسم، وبقيت مظللةً دون التعريف بها، كموقع جغرافي يمكن أن يسهم في تقديم فهم مختلف للقصة، أو يساعد على الأقل في معرفة حيثيات أخرى، قد تساعد على تفكيك قصة لها صلة مباشرة بما صاروا يُطلقون عليه هنا في السويد، في وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة: مجتمعات الظل الموازية، والمجتمعات الضعيفة، ويُقصد بها بالطبع أماكن سكن المهاجرين وتجمعاتهم التي تعاني تهميشاً مستمراً.
لا يبتعد الفيلم أبداً عن إثارة هذه النقطة بالذات، إذ كيف يمكن لمهاجر متزوج من مواطنة سويدية أن يكمل حياته وسط "عواصف" البيروقراطية المهيمنة على أدق تفاصيل حياته دون أن يجد نفسه عرضةً لتقلبات القوانين المرعية التي قد تطاله، وتحرمه من أبسط حقوقه في رؤية ابنته مثلاً، لأن زوجته السويدية تمتلك حق حضانتها، وسهت عن تنفيذ حقوقه لسبب أو لآخر. وحتى لا يتم تبسيط الحكاية التي يقترحها فارس فارس بـ"حنكة" في فيلمه الروائي الطويل الأول، فلا بد من الإتيان عليها بشيء من التفصيل.
يذهب أرتان إلى أحد مراكز الرعاية الصحية الحكومية المنتشرة بكثرة في المدن والقرى والضواحي السويدية، إذ لا يكاد يخلو حي أو شارع منها، ويأخذ رقماً في انتظار الدور، معللاً نفسه بأن يرى زوجته الممرضة في المركز، ليسألها عن سبب تخلفها عن موعدها معه من أجل رؤية ابنته كاساندرا، فهما منفصلان عملياً، ولكنه يصطدم بعقلية الموظفة البيروقراطية التي تنهره من وراء طاولتها متذرعةً بانشغال لويز في عملها، بالرغم من أنه قد حجز دوراً لنفسه، ولكن الأوضاع سوف تتعقد بدءاً من هذه اللحظة، إذ سوف يشهر أرتان مسدساً حربياً، ويهددها به، ويطالبها بأن تنادي على زوجته، وعندما يتدخل الطبيب سيمون يعقوب (لعب دوره جوني تادي)، ويزجره ليوقفه عند حدّه، يوجه له لكمةً تدمي أنفه، ولا ينسى أن يتهمه عرضياً بإقامة "علاقة" مع زوجته.
يجيء تدخل الشرطة ليضع الفيلم على خطة الرحلة التي سيختطف فيها أرتان زوجته، ويطلب من رجل البوليس لوكاس مالكي، الذي جاء للتفاوض معه شبه عارٍ (لعب دوره فارس فارس)، أن يؤمّن له سيارةً مدنيةً حتى يبدأ معها رحلة الطريق التي ستستغرق الفيلم بمعظمه بعد أن يخلي سبيل الرهائن في المركز الصحي الذين صادف وجودهم هناك، فهم ليسوا رهائن، وهو لم يكن يحتجزهم، لكنهم هم مستسلمون لأقدارهم برضاهم.
حوار التعارف الذي يدور في البداية بين الشرطي لوكاس وأرتان يمتلك دلالات قويةً، عندما يقدّم أرتان نفسه باسم زلاتان، فتصحح زوجته للشرطي اسمه، الذي يعلّق قائلاً: "سواء أكنت زلاتان أو أرتان، فإن الأمر ليس بهذه الأهمية على الإطلاق". هنا تنكشف هشاشة الزوج وضعفه، بالرغم من محاولات ظهوره قوياً، لكنه سيبدأ بالتلاشي تدريجياً، ما أن تبدأ رحلة الطريق الطويلة إلى بيت والدَي لويز، اللذين يحتفظان بالطفلة كاساندرا، ابنة العام الواحد، عندهما، وهما لا يخفيان إطلاقاً عنصريتهما المقيتة تجاه اللاجئين، بل إن الأب لا يميز بين أرتان المنحدر من أصل ألباني والعرب، وهو لا يبدو مهتماً أصلاً بالتمييز، وليس لديه الوقت لذلك، فلا فروق هنا. كلهم لاجئون، وكلهم إرهابيون. أما الأم، فلا توفر ابنتها، وتقرّعها بسبب ارتباطها بهذا "المهاجر الوضيع" الذي أفقدها جمالها وابتسامتها، بل إن الجيران -كما تقول- يتساءلون على الدوام عن سبب خمولها، واكتئابها إن لم يكن ذلك بسبب زواجها من مهاجر فاشل.
بعد أن يأخذ أرتان ابنته من جدَّيها، يطلب إلى لوكاس، وقد أصبح سائقاً عنده، التوجه إلى مطار أرلاندا في العاصمة ستوكهولم للسفر إلى ألبانيا، لكن شركات الطيران ترفض صعود مسلح إلى أي من الطائرات المسافرة في هذا الاتجاه، ويرفض أرتان مفاوضات مقترحةً مع السفير الألباني، يمكن أن تؤمّن له ممراً آمناً للسفر إلى تيرانا، ويطلب السفر عبر البحر إلى بولندا.
فيلم "يوم ونصف"، رحلة معلومة الوجهة والهدف لثلاثة أشخاص، ولكنها تقتاد معها مخطوفين من نوع آخر. ليس كل مهاجر سوف يشاهده سيشعر بالأسى نفسه والضعف والهشاشة
تستمر الرحلة، ويستمر تداعي الشخصيات الثلاثة، وانكشافها على بعضها: لوكاس، لويز، أرتان. إنهم ضعيفون، وعلى قدر كبير من الهشاشة، وقد فعلت فيهم قسوة الحياة وخياراتهم فعلتها. حتى من يبدو شرطياً قوياً، فهو في الواقع كائن هش مثل ورقة صفراء في الخريف، تهزها ريح خفيفة، وتجعلها تتطاير، كما لو أنها غير مهيأة للصمود في وجه نسمة هواء. هو أيضاً خان زوجته، ويشعر بخذلان طفليه تيو وبيللا، ويريد أن يطلب الصفح منهما، كما هو حال أرتان الذي خان زوجته أيضاً مع فتاة فيليبينية، لم يكن يحبها، ولكنه كان يشعر بالضياع عندما أقدم على فعلته. أما لويز، فإنها مصابة بذهان الهوس الاكتئابي، وهي تضيّع وقتها بين حبَّات المنوّم لتنام، والكافيين لتصحو من نومها، وعندما لم تأتي إلى موعدها معه، فإنها تقسم له أنها نامت في المقهى الذي جلست تستريح فيه قبل أن تذهب لملاقاته.
ما أن ينكشف ثلاثي الرحلة على بعضهم، وهم محاطون بسيارات الشرطة من كل جانب، حتى يشعر أرتان بفداحة فعلته، ويقدّم هاتفه للشرطي لوكاس حتى يتّصل بابنه تيو، ويعايده في يوم عيد ميلاده. أما لويز فلا تغادر إنسانيتها، بل تظهر على المحك باكيةً بحرقة، وهي تؤكد له أنه سيلتقي ابنته على الدوام، بالرغم من أنهما لن يعودا إلى بعضهما.
فيلم "يوم ونصف"، رحلة معلومة الوجهة والهدف لثلاثة أشخاص، ولكنها تقتاد معها مخطوفين من نوع آخر. ليس كل مهاجر سوف يشاهده سيشعر بالأسى نفسه، والضعف، والهشاشة. هذا ليس أمراً مؤكداً، ولكن يمكن لمشاهديه من مختلف الهويات والجنسيات، أن يشعروا بشيء من الفداحة المنهكة للعواطف والعقول والأرواح التي قد يسببها اللجوء أحياناً، ولا يعود هناك معنى لأرتان أو زلاتان.
كلهم مهاجرون، إذ لا يفوت رئيس أكبر حزب يميني عنصري هنا أن يصنّف جوهرة الكرة السويدية زلاتان إبراهيموفيتش في وقت سابق من هذه السنة اليمينية العجفاء، بأنه مرتزق قد لعب للسويد يوماً!
انضم/ي إلى المناقشة
jessika valentine -
منذ 5 أيامSo sad that a mom has no say in her children's lives. Your children aren't your own, they are their father's, regardless of what maltreatment he exposed then to. And this is Algeria that is supposed to be better than most Arab countries!
jessika valentine -
منذ 4 اسابيعحتى قبل إنهاء المقال من الواضح أن خطة تركيا هي إقامة دولة داخل دولة لقضم الاولى. بدأوا في الإرث واللغة والثقافة ثم المؤسسات والقرار. هذا موضوع خطير جدا جدا
Samia Allam -
منذ شهرمن لا يعرف وسام لا يعرف معنى الغرابة والأشياء البسيطة جداً، الصدق، الشجاعة، فيها يكمن كل الصدق، كما كانت تقول لي دائماً: "الصدق هو لبّ الشجاعة، ضلك صادقة مع نفسك أهم شي".
العمر الطويل والحرية والسعادة لوسام الطويل وكل وسام في بلادنا
Abdulrahman Mahmoud -
منذ شهراعتقد ان اغلب الرجال والنساء على حد سواء يقولون بأنهم يبحثون عن رجل او امرة عصرية ولكن مع مرور الوقت تتكشف ما احتفظ به العقل الياطن من رواسب فكرية تمنعه من تطبيق ما كان يعتقد انه يريده, واحيانا قليلة يكون ما يقوله حقيقيا عند الارتباط. عن تجربة لم يناسبني الزواج سابقا من امرأة شرقية الطباع
محمد الراوي -
منذ شهرفلسطين قضية كُل إنسان حقيقي، فمن يمارس حياته اليومية دون ان يحمل فلسطين بداخله وينشر الوعي بقضية شعبها، بينما هنالك طفل يموت كل يوم وعائلة تشرد كل ساعة في طرف من اطراف العالم عامة وفي فلسطين خاصة، هذا ليس إنسان حقيقي..
للاسف بسبب تطبيع حكامنا و أدلجة شبيبتنا، اصبحت فلسطين قضية تستفز ضمائرنا فقط في وقت احداث القصف والاقتحام.. واصبحت للشارع العربي قضية ترف لا ضرورة له بسبب المصائب التي اثقلت بلاد العرب بشكل عام، فيقول غالبيتهم “اللهم نفسي”.. في ضل كل هذه الانتهاكات تُسلخ الشرعية من جميع حكام العرب لسكوتهم عن الدم الفلسطيني المسفوك والحرمه المستباحه للأراضي الفلسطينية، في ضل هذه الانتهاكات تسقط شرعية ميثاق الامم المتحدة، وتصبح معاهدات جنيف ارخص من ورق الحمامات، وتكون محكمة لاهاي للجنايات الدولية ترف لا ضرورة لوجوده، الخزي والعار يلطخ انسانيتنا في كل لحضة يموت فيها طفل فلسطيني..
علينا ان نحمل فلسطين كوسام إنسانية على صدورنا و ككلمة حق اخيرة على ألسنتنا، لعل هذا العالم يستعيد وعيه وإنسانيته شيءٍ فشيء، لعل كلماتنا تستفز وجودهم الإنساني!.
وأخيرا اقول، ان توقف شعب فلسطين المقاوم عن النضال و حاشاهم فتلك ليست من شيمهم، سيكون جيش الاحتلال الصهيوني ثاني يوم في عواصمنا العربية، استكمالًا لمشروعه الخسيس. شعب فلسطين يقف وحيدا في وجه عدونا جميعًا..
محمد الراوي -
منذ شهربعيدًا عن كمال خلاف الذي الذي لا استبعد اعتقاله الى جانب ١١٤ الف سجين سياسي مصري في سجون السيسي ونظامه الشمولي القمعي.. ولكن كيف يمكن ان تاخذ بعين الاعتبار رواية سائق سيارة اجرة، انهكته الحياة في الغربة فلم يبق له سوى بعض فيديوهات اليوتيوب و واقع سياسي بائس في بلده ليبني عليها الخيال، على سبيل المثال يا صديقي اخر مره ركبت مع سائق تاكسي في بلدي العراق قال لي السائق بإنه سكرتير في رئاسة الجمهورية وانه يقضي ايام عطلته متجولًا في سيارة التاكسي وذلك بسبب تعوده منذ صغره على العمل!! كادحون بلادنا سرق منهم واقعهم ولم يبق لهم سوى الحلم والخيال يا صديقي!.. على الرغم من ذلك فالقصة مشوقة، ولكن المذهل بها هو كيف يمكن للاشخاص ان يعالجوا إبداعيًا الواقع السياسي البائس بروايات دينية!! هل وصل بنا اليأس الى الفنتازيا بان نكون مختارين؟!.. على العموم ستمر السنين و سيقلع شعب مصر العظيم بارادته الحرة رئيسًا اخر من كرسي الحكم، وسنعرف ان كان سائق سيارة الاجرة المغترب هو المختار!!.