عزيزتي سمانثا،
أكتب لك من بلاد ينتهي فيها كل شيء؛ ينتهي فيها الإنسان وينتهي فيها الشجر. ينتهي الشارع كذلك، حيث تتربّع في نهايته عمارة سكنية على هيئة أنقاض وغبار، بعدما انتهت هي أيضاً على هذا الشكل. بلاد ينتهي فيها الأطفال قبل أن يبدأوا، وتنتهي فيها النساء دون أن يعلمن كيف انتهى أطفالهن. بلاد ينتهي فيها الرجال على خطوط النار أو تحت النار أو في النار. أكتب لك من بلاد ينتهي فيها الأمل، بعدما كان هو الحبل الوحيد الذي يربطها بالمستقبل، وبلاد ينتهي فيها المستقبل.
عزيزتي سمانثا،
أكتب لك من بلاد بدأ فيها كل شيء أيضاً؛ فهي مركز العالم القديم كما يقال، وفيها بدأ الله بمخاطبة البشر، وشرح لهم ما عليهم أن يفعلوا وما عليهم ألا يفعلوا. فيها بدأت النبوة، واستمرت على مدار خمسة وعشرين نبياً؛ واحد أو اثنان لنا، والباقي لهم. وفيها بدأت الرسائل، أو الرسالات، أو الرسل، أو النسخ الثلاث من المرسل ذاته، وعليك أنت، كمخلوق سخيف، أن تختار بأي ماضٍ يمكنك أن تنهي المستقبل.
أكتب من بلاد ينتهي فيها كل شيء، ولكن لا تنتهي فيها صلاحية الجينات ولا صلاحية الرسالات، وكلما ظهر فيها من يشدّ الحبل إلى زاوية مختلفة يتم نبذه وإقصاؤه
أنا يائس يا سمانثا، واليائس لا يستطيع الحكم على الأشياء بعقل منفتح على الخيارات. اليائس لا يرى إلا خياراً واحداً ويشتغل على تغذيته في كل ما يقرأ وكل ما يكتب، واليائس يلملم قصص الأمل القديمة ويقارنها بحاضره، ثم يمزقها. واليائس يشعر بالوحدة، فيبدأ بسرد القصص، وأنا أريد أن أسرد لك قصصاً لا أكثر:
أمس كتبت منشوراً على حسابي على فيسبوك، وذكرت فيما كتبته إدوارد سعيد ومحمود درويش وحنا بطاطو وغيرهم، كأناس أو كمفكرين أنجبتهم فلسطين. تخيلي أن أحد التعليقات كان: "كل من ذكرتهم ما الذي قدموه للقضية الفلسطينية غير الكلام؟ نحن في صراع وجود، وصراع الوجود لا يحتاج مثقفين لا يملكون إلا الكلام".
وتخيلي أيضاً أن من كتب هذا التعليق يبلغ من العمر خمسة وستين عاماً، وليس ابن عشرين. ليس الأمر شخصياً البتة، ولا أبغي هنا التشهير به كما شهّر هو بهم، وليس من عادتي أن أكتب عن أفراد بمعزل عن أفكارهم، لذا فذكر التعليق وصاحبه ليس إلا لإيصال فكرتي عن اليأس لا أكثر. وتخيلي فوق ذلك أن صاحب التعليق ليس مقاتلاً يحمل رشاشه أينما حل وارتحل، لكنه عازف على آلة العود ويعيش في أمريكا، وهذا خياره وحقه الذي يجب أن يتم احترامه في كل حال.
أيمكنك أن تصدقي أن رشيد الخالدي مثلاً لا يلزم القضية الفلسطينية، وهو زائد عن حاجتنا في هذا الصراع؟ هل يدخل عقلك الصغير أن محمود درويش وإدوارد سعيد عبء على القضية الفلسطينية بكلامهما الذي لا يقدّم ولا يؤخر؟ ألا يخطر في بالك عند قراءة هذا التعليق من رجل يعيش في أمريكا، مصير الهنود الحمر؟ أنا تساءلت إن كان هذا المعلق قرأ كتاباً واحداً عن شعب تمّت إبادته وانتهى من التاريخ والجغرافيا، رغم عناد هذا الشعب وقتاله و... قلّة مفكريه.
بلاد ماهرة بالقضاء على مفكريها ومثقفيها، فهم لا يجيدون غير الكلام في نهاية المطاف
عاش الشعب البلغاري، أو ما كان يدعى في ذلك الوقت بالبلغار، حيث لم تكن فكرة الشعوب قد تبلورت كمعطى سياسي بعد، تحت حكم العثمانيين ما يزيد عن قرون خمسة. لقد حكم العثمانيون جزءاً كبيراً من شعوب البلقان في شرق أوروبا بالحديد والنار، وسقطت أراضي المملكة البلغارية الثانية تحت سيطرتهم منذ عام 1369، واستمرت هذه السيطرة وهذا الاحتلال إلى سنة 1878، حيث اجتاح الجيش الروسي الأراضي البلغارية، وأجبر العثمانيين على توقيع اتفاقية سان ستيفانو، والتي بموجبها انسحب الجيش العثماني من مساحات كبيرة، ثم استعادها فيما بعد، لكن ملك بلغاريا في هذه الفترة أعلنها دولة مستقلة عام 1908، إلى أن انسحب منها كامل الجيش العثماني مع بدايات تقهقر الإمبراطورية في أوروبا، والذي توّج بخسارتها للحرب العالمية الثانية.
نحن نحب البلاد يا سمانثا، ونريد أن نظلّ فيها كشعب.
أين القصة يا سمانثا؟ القصة هي أن قائداً من الجيش الروسي الذي اجتاح البلاد كحليف وهزم العثمانيين، انتبه إلى أن ثلث السكان هم من الأتراك، وأن الثلثين من البلغار الفقراء والجهلة، وذلك بسبب طول فترة الاحتلال ونهب المقدرات والحرمان من التعليم التي تعرّضوا لها، فما كان منه إلا أن اجتمع مع بعض "الفهمانين" من الشعب وأمرهم بالتالي:
ضعوا كل مناكفاتكم جانباً، واتركوا لنا شؤون الإدارة السياسية مؤقتاً، وتفرغوا لنحت وصناعة التماثيل. عليكم أن تصنعوا تمثالاً لكل من اكتشف شيئاً، أو كتب مقالاً أو ألّف أغنية أو حتى بيتاً من الشعر. عليكم أن تملأوا الساحات ومداخل الشوارع بتماثيل لكل من قدّم لبلغارياً حرفاً.
لقد ملأ البلغار شوارعهم بالتماثيل يا عزيزتي سمانثا، ملأوها بحيث صار لهم تاريخ من الشعر، وتاريخ من القصة ومن الأغنية ومن المقال، وحتى من الرطانة، بلغة إرنست غيلنر، فصاروا شعباً. وقبل هذا التاريخ لم يكونوا إلا مجموعة من "المؤمنين" إن شاءوا وصف أعدائهم بالكفرة، أو "أمة" إن شئنا النبش في جيناتهم أو توصيف لغة يشحذون بها الطعام من بعضهم البعض.
أنا يائس يا سمانثا، واليائس لا يستطيع الحكم على الأشياء بعقل منفتح على الخيارات. اليائس لا يرى إلا خياراً واحداً ويشتغل على تغذيته في كل ما يقرأ وكل ما يكتب، واليائس يلملم قصص الأمل القديمة ويقارنها بحاضره، ثم يمزقها
"كلما اتضح الطريق إلى السماء
وأسفر المجهول عن هدفٍ نهائيٍ
تفشى النثر في الصلوات
نحن نحب البلاد يا سمانثا، ونريد أن نظلّ فيها كشعب.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 19 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 5 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين