شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
جثث الموتى تأكلها النسور، ثم تأتي قصص أخرى… ماذا يجري للزرادشتيين حين يموتون؟

جثث الموتى تأكلها النسور، ثم تأتي قصص أخرى… ماذا يجري للزرادشتيين حين يموتون؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

يقال في الدين الإسلامي إن إكرام الميت دفنه. لكن ماذا عن الأديان والمذاهب والثقافات الأخرى؟ هناك أديان وأمم تحرق موتاها، مثل الهندوس والبوذيين، ومنهم من يلقون بأجساد أحبّتهم الرحّل في المستنقعات، كالأوروبيين قبل انتشار الطاعون في مناطقهم، فطرائق التعامل مع أجساد الموتى تختلف من منطقة إلى أخرى، وحسب كل دين ومعتقد.

الزرداشتية في إيران، ليست بمنأى عن ذلك، فلهم طقوسهم الخاصة بالموتى. طالما كانت طريقة الزرادشتيين في التعامل مع أجساد موتاهم خاصةً بهم، إذ كانوا يضعون جثامين أحبّتهم في قمة أبراج دائرية تُسمّى "دَخمة"، أي السرداب أو القبو، وذلك لتصبح هذه الأجساد طعاماً للنسور والطيور المفترسة الموجودة هناك، فكانت هذه الطيور تأكل لحم الموتى وأحشاءهم، حتى لا يتبقّى من هذه الأجساد سوى العظام التي تُلقى بعد ذلك في حفَر في السراديب.

ما هي "الدخمة"؟

كلمة "دخمة"، أو "دخنة"، مشتقة من "دخ خنه" في اللغة الفارسية، وتعني الحصن أو بيت الشرّ، وقد تغيرت هذه الكلمة بمرور الوقت وتنوعت معانيها، وكانت تُسمّى في كتاب الزرادشتيين "أفستا" أو "أبستاق"، "دخمة"، وفي اللغة الفارسية البَهلَوية القديمة "دخمك"، وتعني مكان الحرق أو المحرقة.

طالما كانت طريقة الزرادشتيين في التعامل مع أجساد موتاهم خاصة بهم، إذ كانوا يضعون جثامين أحبّتهم في قمة أبراج دائرية تُسمّى "دَخمة"، أي السرداب، وذلك لتصبح هذه الأجساد طعاماً للنسور والطيور المفترسة

وإذا أردنا أن نتعرف على كيفية استخدام هذه السراديب في الماضي، فيجب أن نبدأ من تاريخ إيران القديم. وفقاً للأدلة التاريخية، يبدو أن الجثث في العصور القديمة، كانت تُترك في مكان بعيد، ولم يكن هناك مكان يُعرف بهذا الاسم. بدأ استخدام هذه الكلمة منذ زمن الشعوب الآرية، ففي ذلك الوقت وبطقوس مشابهة لطقوس الهندوس، كان يتم حرق الجثث في مكان سُمّي في تلك البرهة بـ"دَخمة".

"دخمة" في مدينة يزد

وخلال العصر الزرادشتي، حُظر حرق الجثث، واستُخدمت طريقة أخرى للتعامل معها. وبما أن الموت في الديانة الزرادشتية يُعدّ وسيلةً لمحاربة الشيطان، فيجب وضع الجسد في مكان توجد فيه شياطين، كما كانوا يعتقدون أن دفن الجسد تحت التراب يلوّث التربة، التي تُعدّ من العناصر المقدسة لديهم، ومن هذا المنطلق أصبحت السراديب (الدّخمات) مكاناً لترك الجثث.

وبحسب الشواهد التاريخية، فقد منع رضا شاه البهلوي، في عهده (1925-1941)، وضع الجثث في القبو، وأمر بتغيير طريقة دفن الموتى. لكن حتى بعد الحظر، كانت الدخمات تُستخدم في بعض المدن مثل كِرمان ويَزد (وسط إيران)، حتى ستينيات القرن الماضي، ولا أحد يعرف حتى الآن التاريخ المحدّد لانتهاء ممارسة هذه الطريقة، حيث أن الزرادشتيين حالياً يدفنون موتاهم بطريقة مشابهة للطريقة الإسلامية.

بناء الدخمات

هذه السراديب كانت إما طبيعيةً أو تُبنى على يد مختصين، وكانت هذه الصروح تُشيّد خارج المدينة ومن دون سقوف، وذلك لتصبح بمتناول الحيوانات آكلة اللحوم، حيث يمكن لها الوصول إلى الجثة وأكلها. ولكن مع مرور الوقت، استُحدثت تغييرات في بنية السراديب هذه، وشيئاً فشيئاً تم بناء الدخمات في أماكن مرتفعة وبجدران عالية، لكيلا تتمكن الحيوانات المفترسة من الوصول إليها، باستثناء الطيور.

وكان هناك لوح حجري في وسط القبو، يتم ربط الجثة به حتى تأكلها النسور والطيور الأخرى، كما كانت تضع تحت أشعة الشمس لتهترئ بعد أن تصبح هيكلاً عظمياً عارياً، وبعد ذلك يتم رمي بقايا العظام في حفرة في مركز الدخمة. وكانت تسمى هذه الحفرة بـ"إسته دان" أو "إستودان"، أي المكان الذي تُلقى فيه العظام.

"إسته دان" أو "إستودان"، أي المكان الذي تُلقى فيه عظام الموتى

هذه الدخمات تُبنى عادةً من الحجر على قمم الجبال، وبشكل أبراج أسطوانية يبلغ محيطها نحو 100 متر، وبارتفاعات مختلفة، وذلك حسب عدد سكان المدينة، وكان من الممنوع استخدام التربة في بنائها، ومعظمها كانت بلا أبواب، فالوصول إلى أعلى هذه الدخمات كان يستوجب الصعود على سلم مرتفع، يصل مباشرةً إلى المكان الذي كانت توضع فيه الجثث، كما ينقسم الجزء الداخلي من القبو إلى أجزاء مختلفة من الجدران حتى الحفرة المركزية، إذ كان الجزء الأول من جانب الجدار مخصصاً لوضع جثامين الرجال، والجزء الثاني لجثامين النساء، والثالث لجثامين الأطفال.

وقبل بناء الدخمات هذه، كانت هناك طقوس خاصة تجب مراعاتها، واحد منها دقُّ 4 مسامير كبيرة و36 مسماراً متوسطاً و260 مسماراً صغيراً على الأرض وبشكل منظم ودائري، ومن ثم يُلفّ حول هذه المسامير خيطٌ قطنيٌ خاص، وفي أثناء هذه العملية كانت تُتلى بعض الصلوات الزرادشتية الخاصة، فور انتهاء حياكة هذه الخيوط بالمسامير. كان الجلوس في وسط هذه الخيوط والمسامير واجباً، بالإضافة إلى قراءة ذِكر معيّن 300 مرة، وكان يُرمى حجر صغير مع كل قراءة، وبعد أداء هذه الطقوس تبدأ عملية بناء الدخمة في المكان.

"نسا سالار"... الحارس والحانوتي في الدخمات

قديماً، وعندما كانت الأمراض المعدية هي سبب معظم الوفيات، ونظراً إلى حقيقة أن أدنى اتصال بالجثة يتسبب في تلوث شديد وشوائب، فقد تطلب الأمر مراسم تطهير خاصة للجثث، قبل أن توضع فوق الدخمة، لذلك كان يتم تعيين أشخاص خاصين لغسل الجثة وحملها إلى القبو، يُطلق عليهم "نسا سالار" وكانوا مسؤولين عن هذه المهمة ولا يقوم أحد غيرهم بها. وبالنظر إلى جوهر القضية، ومنع أي نوع من أنواع الاتصال بالجثة، وخشيةً من تفشّي الأمراض، يمكن أن نفهم أن المدعو "نسا سالار"، كان يعيش معزولاً عن الناس وبالقرب من الدخمة.

كانت "الدّخمات" تُستخدم في بعض المدن مثل كِرمان ويزد، حتى ستينيات القرن الماضي، ولا أحد يعرف حتى الآن التاريخ المحدَّد لانتهاء ممارسة هذه الطريقة، حيث أن الزرادشتيين يدفنون موتاهم بطريقة مشابهة للطريقة الإسلامية

كان الحانوتية (نسا سالار)، يعيشون بالقرب من الدخمة التي كانت تُبنى خارج المدن والقرى، ونظراً إلى طبيعة عملهم لم يقِم الناس أيّ علاقات معهم، كما أنهم حُرموا حتى من الحصول على منزل والعيش في ملاذ آمن، وأُجبروا على العيش في الجبال والحُجَر المجاورة للدخمة. وكان هؤلاء يبقون محرومين من الحياة المريحة والاحترام حتى نهاية حياتهم.

"دخمة" في مدينة يزد

لم يحاول أحد من الزرادشتيين أن يحمل جثةً، فكلما حاول أحد غير الحانوتي أن يحمل ميتاً بمفرده، كان سيرتكب ذنباً من أعظم الذنوب التي لا تُغتفر وفق العقيدة الزرادشتية، ولا سبيل إلى تطهير هذا الذنب أو التوبة منه، فيبقى هذا الشخص "نجساً" إلى الأبد، كما كان على الحانوتية أن يتطهروا بشكل خاص قبل حمل الجسد إلى القبو وبعده.

بعد نقل الجثة إلى القبو وانتهاء مراسم الجنازة، كان أقارب المتوفى يقيمون مراسم حداد يؤدون خلالها صلوات وطقوس خاصة بالزرداشتيين، وفي كثير من الحالات كان الحداد والبكاء على المتوفى محرَّمَين وممنوعَين منعاً باتاً، بل يُعدّان منكراً ومن أعمال "الشرّير" ("أَهريمَن" أو الشيطان في الديانة الزرادشتية).

صحيح أن هذه الدخمات كانت وما زالت موجودةً في مدن إيرانية كثيرة مثل "طهران" و"كِرمان" و"سيرجان" و"أصفهان" و"تَفْت" و"أشْكذر" و"أردَكان" وغيرها من المدن، لكن دخمة "برج الموتى" في مدينة يَزد، تحظى اليوم باهتمام متزايد من قبل الزوار والخبراء، وذلك بسبب وجودها في هذه المدينة التي تُعدّ العاصمة الدينية للزرادشتيين.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

‎من يكتب تاريخنا؟

من يسيطر على ماضيه، هو الذي يقود الحاضر ويشكّل المستقبل. لبرهةٍ زمنيّة تمتد كتثاؤبٍ طويل، لم نكن نكتب تاريخنا بأيدينا، بل تمّت كتابته على يد من تغلّب علينا. تاريخٌ مُشوّه، حيك على قياس الحكّام والسّلطة.

وهنا يأتي دور رصيف22، لعكس الضرر الجسيم الذي أُلحق بثقافاتنا وذاكرتنا الجماعية، واسترجاع حقّنا المشروع في كتابة مستقبلنا ومستقبل منطقتنا العربية جمعاء.

Website by WhiteBeard
Popup Image