فى رواية "عائد إلى حيفا" يسرد الروائي والمقاوم الفلسطيني غسان كنفاني حكاية فلسطين التي تتغرب عن أبنائها، يغيبون عن قراها ومدنها قسراً، ثم يعودون فيجدونها قد تبدلت، إذ يضع الاحتلال عليها بصمته، ويسعى جاهداً لمحو ذاكرة الأرض وأُلفَتِها لأبنائها، عاد ابن الأرض فلم يجد المدينة، لم يجد غزة التي مثلت له عالماً كاملاً تملأه الذكريات والمشاعر والحكايات والبطولات في مواجهة عدو تتوارث غشامته الأجيال، لتذكرنا رواية كنفاني وغيرها من أعمال الكتاب والفنانين الفلسطينيين بدور الفن في حفظ الذاكرة أملاً في يوم ينمحي فيه العدوان وتستعيد أرض فلسطين المحتلة بهاءها.
في كتابه "المدينة والفيلم" يسجل الناقد المصري محمود قاسم كيف يشرّح الفيلم المدينة، وأن السينما هي عبارة عن مدينة لا اتساع لها، والمدينة ليست سوى فيلم لا تنتهي أحداثه، بل هي في حالة خلق وعرض مستمرة لا تعرف التوقف.
وتعد السينما من أهم الفنون التي تلعب دوراً في حفظ ذاكرة المدن والأماكن، إذ تتوغل كاميرا السينما داخل المدن، المتخيلة منها والواقعية، وتحتفظ عبر السرد البصري بجوهر المدينة، ونذكر هنا أنه لا يزال يحسب لأفلام موجة الواقعية الجديدة في مصر (الثمانينيات وبدايات التسعينيات) أنها احتفظت للقاهرة وبخاصة منطقة وسط القاهرة بصورتها التراثية الحية وعلاقة أهل القاهرة الحميمية بشوارعها وبيوتها ومحالها من قبل تغير وجه المدينة، كما يظهر في أفلام يسري نصر الله ومحمد خان وخيري بشارة وعاطف الطيب وغيرهم من أبناء تلك الموجة المهمة في السينما المصرية. لكن هل نجحت السينما المصرية نفسها التي يروق للمصريين أن يتحدثوا عن علاقتها الخاصة بالقضية الفلسطينية، أن تسدي الخدمة نفسها للقضية الفلسطينية؟ هل نجحت في تسجيل وقائع تلك القضية وحفظ ذاكرتها والانتصار لها؟
هل نجحت السينما المصرية التي يروق للمصريين أن يتحدثوا عن علاقتها الخاصة بالقضية الفلسطينية، أن تسدي خدمة التوثيق للقضية الفلسطينية؟ هل نجحت في تسجيل وقائع تلك القضية وحفظ ذاكرتها والانتصار لها؟
من الأربعينات إلى الستينيات… حماس مشتت
رغم أن تلك الفترة مرت خلالها مصر بتحولات داخلية عنيفة فإنها تعد أبرز الفترات التي حضرت فيها القضية الفلسطينية في الشريط السينمائي المصري، إلا أنه حضور تم فيه توظيف القضية الفلسطينية لدعم أحد طرفي الصراع السياسي الدائر في مصر خلال حقبة الخمسينيات تحديداً، لكن قبل أن نصل إلى هذه النقطة؛ نتذكر فيلم "فتاة من فلسطين" الذي أنتج في العام 1948، عام تحقق قرار التقسيم وفشل الجيوش العربية بما فيها الجيش المصري وقتها في حماية الأراضي الفلسطينية.
بدا في فيلم "فتاة من فلسطين" الارتباك الذي سيصنع خلطة السينما المصرية في تناول القضية الفلسطينية في الأعوام التالية، فمركز الفيلم هو ضابط مصري وفتاة فلسطينية (أو مصرية تركها وراءه في مصر وذهب إلى الحرب) وقصة الحب بينهما، وفي الخلفية كل شيء آخر
لعبت بطولة الفيلم سعاد محمد مقابل محمود ذو الفقار الذي أخرج الفيلم أيضاً، وأطلق الفيلم التيار الذي سيسطر لعقدين أو يزيد على تناول السينما المصرية لقضية فلسطين، وهي وضع الجيش المصري في مركز الحدث وجعل القضية الفلسطينية عجلة لدوران الأحداث.
لعب ذو الفقار (ضابط الجيش السابق) دور ضابط في الجيش المصري يقوم بعمليات بطولية في حرب 1948 المعروفة باسم "حرب فلسطين" ويقع في حب فتاة فلسطينية تنقذه من الأسر وتنخرط في المقاومة الفلسطينية في مواجهة العصابات الصهيونية.
بدا في الفيلم الارتباك الذي سيصنع خلطة السينما المصرية في تناول القضية الفلسطينية في الأعوام التالية، فمركز الفيلم هو ضابط مصري وفتاة فلسطينية (أو مصرية تركها وراءه في مصر وذهب إلى الحرب) وقصة الحب بينهما، وفي الخلفية كل شيء آخر. طبعاً لم يتم تصوير الفيلم في فلسطين ولم يستعن الفيلم بأية مشاهد سواء من يوميات الجيش المصري والجيوش العربية في فلسطين التي كانت بعض دقائقها محفوظة في "جريدة مصر السينمائية وقتها" - فقدت الآن أو غيرها من مشاهد أخرى أقدم قبل الاحتلال التقطتها الكاميرات المصرية وغيرها في فلسطين ومدنها وقراها، ليفشل الفيلم ومن بعده السينما المصرية في لعب أي دور في حفظ ذاكرة فلسطين وأماكنها.
أفلام تلك الفترة لم تكن منتبهة إلى فكرة الهوية وتتطرق إليها بسطحية وخطابية، ليس لها قضية واضحة ومحددة سواء على مستوى المضمون أو مستوى الطرح.
في فيلم "الله معنا" الذي أنتج عام 1953 وحقق أرباحاً هائلة، تم اختذال قضية فلسطين كلها في مسألة الأسلحة الفاسدة وخيانات النظام السابق، وهو تحول مهم ستستمر السينما المصرية في تناولها لقضية فلسطين على نهجه لفترة طويلة، حيث فلسطين مجرد خلفية للصراعات السياسية في مصر
تغير هذا في استثناءات قليلة، أبرزها فيلم "أرض السلام" من إنتاج 1957، وهو الفيلم الذي أخرجه كمال الشيخ وقام ببطولته الثنائي الذهبي وقتها فاتن حمامة وعمر الشريف، والذي ركز على جرائم الاحتلال ووصفه كعدو غاشم. وكالعادة لعب الشريف دور فدائي مصري وحمامة دور فتاة فلسطينية منخرطة في المقاومة وتدور الأحداث من خلال قصة الحب بينهما.
في الفترة نفسها، التالية على يوليو/ تموز 1952 واستيلاء الجيش على الحكم في ثورة يوليو، استخدمت القضية الفلسطينية كعنصر في حرب النظام الجديد على "النظام البائد" وتحميله وحده مسؤولية هزيمة الجيش المصري في فلسطين عبر "قضية الأسلحة الفاسدة" التي تكرر ذكرها في السينما المصرية في أفلام كثيرة حتى وإن لم تكن أحداثها مرتكزة بشكل كبير على فلسطين وقضيتها، كما في فيلم "الله معنا" الذي لعبت بطولته حمامة أيضاً وعدد كبير من نجوم تلك الفترة في إطار سعي النجوم لكسب ود النظام الجديد.
في الفترة التالية على يوليو/ تموز 1952 وتسيُّد الجيش الحكم في ثورة يوليو، استخدمت القضية الفلسطينية كعنصر في حرب النظام الجديد على "النظام البائد" وتحميله وحده مسؤولية هزيمة الجيش المصري في فلسطين
أنتج الفيلم عام 1953 واستقبلته قاعات العرض في العام التالي وحقق أرباحاً هائلة، مختزلاً قضية فلسطين كلها في مسألة الأسلحة الفاسدة وخيانات النظام السابق، وهو تحول مهم ستستمر السينما المصرية في تناولها لقضية فلسطين على نهجه لفترة طويلة، حيث فلسطين مجرد خلفية للصراعات السياسية في مصر.
كان أول فيلم يتحدث عن قضية الأسلحة الفاسدة هو فيلم "أرض الأبطال" من إنتاج عام 1953 وإخراج "نيازي مصطفى" وإنتاج وتأليف وبطولة "جمال فارس"، ولا يخرج الفيلم في أحداثه عن الخلطة المعتاد لضابط الجيش المصري والفتاة الفلسطينية وإن كانت قصة حبهما يقاطعها توريد والد البطل لأسلحة فاسدة للجيش.
من الأفلام القليلة الجادة التي ظهرت بعد النكسة، فيلم "أغنية على الممر" للمخرج على بدرخان ويحكي الفيلم قصة جنود مصريين محاصرين ينتظرون أمر الحرب، ولكلّ منهم قصة حزينة مرتبطة بالوضع السياسي العام
الستينيات والنكسة… المركزية المصرية تتعملق
الاختلاف الذي حققته هزيمة (نكسة) يونيو في رؤية القضية الفلسطينية انعكس على المشهد الثقافي والفني بشكل عام في مصر وليس السينما فحسب. وبدأت اسرائيل تأخذ مكانها بشكل أوضح كعدو مباشر لدول عربية أخرى بخلاف فلسطين ومنها مصر - التي لا تزال تداعيات النكسة تشكل وضعها الداخلي-. وبدأ الصراع يأخذ بعده العربي العام أكثر فأكثر.
وعليه، بدأت مسألة فلسطين تتخذ شكلاً جديداً في السينما المصرية لكنها تراجعت إلى الخلفية أكثر فأكثر بعد أن باتت مصر المهزومة هي محور الصراع في رؤية كتابها ومخرجيها وفنانيها، صارت فلسطين مجرد كلمة تُذكر عرضاً أحياناً في الأفلام وغالباً ما تغيب، خاصة وأن السينما المصرية في تلك الفترة اعتمدت الترفيه مبدأً وغاية ولم تنتج سوى أقل القليل من الأفلام الجادة، كما يمكنك أن تقرأ في هذا التقرير. من تلك الأفلام القليلة الجادة التي ظهرت في تلك الفترة فيلمي "أغنية على الممر" للمخرج على بدرخان ويحكي الفيلم قصة جنود مصريين محاصرين ينتظرون أمر الحرب، ولكلّ منهم قصة حزينة مرتبطة بالوضع العام السياسي، و"ثرثرة فوق النيل" سنة 1971، للمخرج حسين كمال عن قصة لنجيب محفوظ ويروي الفيلم حكاية مجموعة من المصريين من مشارب ومهن مختلفة يجتمعون على نهر النيل ليحكوا قصصهم ويومياتهم التي تعكس حياتهم ما بعد النكسة. ولعلّ هذا النموذج كان أكثر حضوراً في سينما نهاية الستينيات ومطلع السبعينيات، لكن فلسطين لم تكن في مركز أحداث أيهما.
انشغلت السينما المصرية بتمجيد المحاربين واستثمار الفوز وتمجيد النصر والإنصراف الكامل إلى وضعها الداخلي، واستمر هذا طوال فترة السبعينيات والثمانينيات في أفلام مصرية خلت من ذكر فلسطين، وتضع مصر باعتبارها العدو الرئيس المستهدف من جانب إسرائيل ولا تلق بالاً لفلسطين وأراضيها التي تستمر إسرائيل في ابتلاعها
بعد 1973... تراجع تدريجي
قلّة أفلام ما بعد النكسة قابلتها وفرة أفلام ما بعد حرب 6 أكتوبر، أفلام انشغلت بتضخيم واستثمار النصر المصري على إسرائيل، لكن فلسطين كانت غائبة تماماً، ويمكننا أن نفهم هذا بمراجعة وضع الخريطة وقتها، فمصر لم تستعد عبر الحرب سوى جزء من أراضي سيناء وفقدت قدراً من أراضيها والأراضي الخاضعة لإدارتها لصالح الاحتلال الإسرائيلي ومنها مناطق بئر السبع وأم الرشراش وقطاع غزة الذي كان أكبر حجماً على الخريطة وخاضع للإدارة المصرية.
انشغلت السينما المصرية إذن بتمجيد المحاربين واستثمار الفوز وتمجيد النصر والإنصراف الكامل إلى وضعها الداخلي، واستمر هذا طوال فترة السبعينيات والثمانينيات في أفلام مصرية خلت من ذكر فلسطين، وتضع مصر باعتبارها العدو الرئيس المستهدف من جانب إسرائيل ولا تلق بالاً لفلسطين وأراضيها التي تستمر إسرائيل في ابتلاعها. وبعد اتفاقية كامب ديفيد خفتت حتى الأفلام التي تدور عن الصراع المصري الإسرائيلي وانصرفت السينما المصرية بالكامل عن حديث الحرب والأرض إلى في استدعاءات قليلة من أفلام الواقعية الجديدة للحديث عن أثر الهزيمة في المجتمع المصري وأحياناً لتمجيد مقاتلي الجيش المصري المنتصرين في 1967.
لم تحضر فلسطين وقضيتها في السينما المصرية كما حضرت في فيلم ناجي العلي الذي أخرجه عاطف الطيب عن الفنان الفلسطيني الراحل صاحب حنظلة الذي تنكر مسؤولية دمه جميع الأطراف.
هوجم مخرج الفيلم وبطله ومنع الفيلم من العرض في كثير من الدول العربية وعلى رأسها مصر، ومنع صناعه من العمل لسنوات وصاروا من المغضوب عليهم لفترة، ولم ير المصريون الفيلم إلا بعد 22 عاماً من إنتاجه.
التسعينيات والألفية… الانتفاضة تشعل شباك التذاكر
رغم كل الأحداث السياسية من معاهدات واتفاقيات، ظلت إسرائيل عدواً يحتقره الجميع، وظلت في المقابل فلسطين حاضرة في القلوب، والحضور كان بسيطاً كطيف سطحي يختفي سريعاً في بعض الأفلام، خاصة التجارية منها. ومن الأمثلة، مشهد حرق طلاب الجامعة لعلم إسرائيل "صعيدي في الجامعة الأمريكية" عام 1998، ورفض العامل المصري في أوروبا العمل مع شخص يهودي في فيلم "همام في أمستردام" عام 1999 (نلاحظ هنا الخلط الجاهل بين اليهودية والصهيونية).
في 2001 وبعد مشهد اغتيال الطفل الفلسطيني محمد الدرة، ظهر فيلم استثمر الغضب المشتعل في الشارع العربي ليقدم تجربة تجارية فريدة، أعطت احتراماً لقضية فلسطين ووضعتها في مركز الأحداث وليس في خلفيتها، وهو فيلم "أصحاب ولا بيزنس"
ومع بداية الألفية وتحديداً في 2001 وأثناء اشتعال الانتفاضة الفلسطينية الثانية (انتفاضة الأقصى، سبتمبر/ أيلول 2000)، ومشهد اغتيال الطفل الفلسطيني محمد الدرة، ظهر فيلم استثمر الغضب المشتعل في الشارع العربي ليقدم تجربة تجارية فريدة، أعطت احتراماً لقضية فلسطين ووضعتها في مركز الأحداث وليس في خلفيتها، وهو فيلم "أصحاب ولا بيزنس" الذي قام ببطولته نجمان شابان وقتها انتزع البطولة منهما شاب فلسطيني (قام بدوره عمرو واكد) يقوم بعملية فدائية على أحد المعابر الإسرائيلية، وتدفع بطولته النجمان المصريان (قام بدورهما هاني سلامة ومصطفى قمر) لمراجعة واقعهما ومساءلته. الفيلم استغل المشاهد التي تنقلها أشرطة الأخبار في صنع نماذج تحاكي الطبوغرافيا الفلسطينية من وديان وبيوت وأشجار زيتون، ويعد أول محاولة جادة في السينما المصرية لمحاكاة وتسجيل الطبيعة الفلسطينية وما يمر به الفلسطينيون تحت الاحتلال.
لكن السينما المصرية سرعان ما عادت لسطحيتها الشديدة في تناول القضية الفلسطينية وجعل مصر مركزاً للصراع من خلال الفيلم الهزلي "السفارة في العمارة" في عام 2005، استعاد الفيلم مشاهد اغتيال محمد الدرة ليوظفها في مسألة تحول البطل عادل إمام، الذي يتحول عن حياته اللاهية بعد اغتيال إسرائيل للطفل ابن صديقه، وفي نفس الوقت جعل الفيلم السلطة العليا للقانون الذي لجأ إليه البطل لإخراج السفارة الإسرائيلية من العمارة التي يقطن فيها.
في 2009 كانت تجربة فيلم "ولاد العم" من بطولة شريف منير وكريم عبد العزيز ومنى زكي من تأليف سمير عاطف وإخراج شريف عرفة، والذي اختُتم بالجملة الشهيرة لضابط المخابرات المصري وهو ينظر إلى الأراضي الفلسطينية قبل رحيله «هنرجع بس مش دلوقتي».
وأخيراً نأتي لفيلم "باب الشمس" الذي ينظر إليه باعتباره أهم فيلم غير فلسطيني قدم عن القضية الفلسطينية، الفيلم ليس إنتاجاً مصرياً ولكن مخرجه مصري، يسري نصر الله، ومأخوذ عن رواية تحمل الاسم نفسه للأديب اللبناني إلياس خوري.
أنتج الفيلم عام 2004 ويحسب له أنه فيلم خالص عن فلسطين، ربما لو كان الإنتاج مصرياً لأعيدت صياغة الرواية لتجعل "خليل" ضابطاً مصرياً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين