بدأ الأمر بمزحة، كتبت أمريكية على تويتر (إكس حالياً) أن رجلاً استأذنها في الجلوس إلى طاولتها في أحد المقاهي، فاجابته، وبعد قليل طلب منها مغادرة الطاولة لأن لديه اجتماعاً ويحتاج إلى الهدوء، ليرد عليها معلق قائلاً "أهلاً! لقد تعرضتِّ للأسرلة you got Israeled". سرعان ما انتشر التعبير خاصة مع تصاعد العدوان الإسرائيلي على الغزة، وصار وصفاً رائجاً لعمليات الاستيلاء والاحتيال على الحقوق وادعاء أي محتال ملكية شيء لا يملكه، تماماً كما جرى ويجري مع أراضي وثقافة وتراث فلسطين والفلسطينيين، للالتفاف على حقيقة عدم قدرة المجتمع الإسرائيلي على بناء هوية جامعة بخلاف الديانة، ما يلجئه إلى الاستيلاء على هويات الآخرين.
مسألة الهوية المرتبكة تلك، يرصدها - من حيث لا يدري- الوثائقي الإسرائيلي "فيلم عربي"، الذي يعود تاريخ إنتاجه إلى العام 2014، إلا أنه اكتسب رواجاً جديداً مؤخراً بفضل ما يجري على الأراضي الفلسطينية المحتلة.
في ستينيات القرن الماضي، كانت السينما المصرية قد أثبتت جدارة واضحة، وذاع صيت نجومها في العالم العربي فأصبحوا نجومه أيضاً، الجميع يرصد حركاتهم وينتظر جديدهم ويأمل في كل إنتاجهم دون استثناء. بالتزامن مع ذلك كانت إسرائيل تؤسس لدولة موازية بعد انتصارها في 1948.
يروي الفيلم كيف وجد عدد من الإسرائيليين الجدد روتينهم في مشاهدة الفيلم المصري وثبّتوه في جدول المشاهدة التلفزيونية هناك، تحديداً في الساعة الخامسة والنصف مساء يوم الجمعة. واستمر هذا التقليد حتى أصبح يتوافر عدد أكبر من القنوات والمساحات التي يمكن أن يتسلّى بها هؤلاء
سنوات قليلة فصلت من نشأ متعلّقاً بالسينما المصرية واستأصلته من مجتمعه خطط التهجير، فخرج في قلبه وعقله الفن المصري ولم يجد إقليمياً ما يعبّر به عن "هويته" أو ما يمكن أن يمثلها. هذا المجتمع الجديد المهجّن لم يجد أشياء مشتركه تجمعه أو تحكي تجربته، في جميع مساحات الإنتاج الثقافي والإجتماعي، ربما باستثناء متابعته المخلصة للسينما المصرية، بحلوها ومرّها، يتصبر بها أفراده وهم منسلخون في أرض جديدة قد سرقوها للتو.
"فيلم عربي" هو الاسم الذي اختاره المخرجان الإسرائيليان سارة تسفروني وإيال ساجي بيزاوي، وهو الاسم الذي يستخدمه المصريون أنفسهم في عنونة إنتاجهم مقابل أي فيلم ناطق بأية لغة أخرى "أجنبي".
يروي الفيلم كيف وجد عدد من الإسرائيليين الجدد روتينهم في مشاهدة الفيلم المصري وثبّتوه في جدول المشاهدة التلفزيونية هناك، تحديداً في الساعة الخامسة والنصف مساء يوم الجمعة (معادل لسهرة الخميس في مصر أو السبت في لبنان). استمر هذا التقليد حتى أصبح يتوافر عدد أكبر من القنوات والمساحات التي يمكن أن يتسلّى بها هؤلاء، أو على ما يبدو مع السبعينيات وبث إنتاج آخر مختلف، في موازاة الرداءة التي بات يحملها الفيلم المصري في أغلب إنتاجاته منذ حينها.
توثيق هذا الروتين العربي للإسرائيليين في "فيلم عربي" يبدأ من عائلة المخرج إيال بيزاوي، الذي يرصد تفاعل المجتمع الإسرائيلي مع تلك الذكريات التي حملها القادمين إليه من شتى أنحاء العالم على اختلاف مشاربهم وأصولهم.
السينما المصرية اتخذت منذ بدايتها قراراً ربما غير واع، بأن تكون تهويدة حلم في حياة قاسية أعقبت ما حدث في 1952 من حراكات وانقسامات وتحوّل مجتمعي كامل، أما "الآخر" الإسرائيلي فيظنها حقيقة مجتمع صار بعيداً
لجوء فني وتساؤل فلسفي
يبدأ الفيلم بالتعريف بشخصية صاحبه، إيال، الأبعد بين عائلته عن الأصول المصرية لأنه أشقر ببشرة بيضاء تماماً، وسط عائلته التي يغلب على معظمها تشابه شكلي مع العرب ببشرتهم التي تميل للسمرة، يعود الصبي لتاريخ خالته التي لم تكن تتحدث سوى العربية، ليعرف أكثر عن الهوية الأصلية التي شكّلت عائلته، يلتصق بها نهار الجمعة وهي تشاهد الفيلم العربي الأسبوعي الذي تختاره القناة، يتابع معها فيلم عبد الحليم حافظ لتبدأ تترات "فيلم عربي" على انغام "قولوله الحقيقة".
بداية الفيلم ذكية، حالمة ومسالمة، محبة خالصة يحملها صوت عبد الحليم، وقصص متنوعة شديدة البساطة، تحمل التساؤل الأولي الأكثر أصالة: هل كان اللجوء لتلك العوالم التي تطرحها السينما المصرية ممتعاً وملهماً أم كان يشاهدها هؤلاء للتزوّد بالبساطة والسذاجة النوعية التي تحملها تلك القصص في سياقات بسيطة على أنغام طرب عظيم؟ هل كانت تلك الأفلام فعلاً "زيارة إلى الوطن" كما تقول الخالة، أم أنها حملت بشكل لا واع سخرية مبطنة من سذاجات الطرح السينمائي العربي الذي تسخر منه الدولة المنتصرة في الحرب؟
من المشاهد الأولى للفيلم تبدأ التساؤلات تتغوّل أمامنا حول النقد الفني الذي يصاحب عروض أفلام الستينيات وما بعدها، وادعاءات البيت المصري المقيم في إسرائيل. هل يمكن أن يحمل هذا البيت مصريته فنياً بينما يؤدي وجوده المكاني لتأييد إسرائيل في النهاية؟ سنجد أن أغلب المشاهد تتصدّر التأكيد على مصرية الصنّاع وتقاربهم "العرقي" قبل الفني من المصريين.
الاستعطاف الذي يحمّله المخرج ليؤكد على قرب الأفلام من "المجتمع الإسرائيلي" يمثّل تساؤلاً آخر بالنسبة للمشاهد المصري، نفكر سوياً في جيل لم ير أية ردود أفعال عسكرية أو حتى خطابية قوية تجاه إسرائيل، بل تكرر عليه الشاشات على ألسنة قادته خطابات مداهنة وينقل الواقع له قرارات وافعال يراها "متواطئة" على أقل تقدير، خاصة فيما يتصل بالعدوان الإسرائيلي المستمر الآن على قطاع غزة.
ربما يعلم على الأقل من نشأ في المجتمع المصري الذي حافظ على مشاهدة سينماه أن أغلب إنتاجها كان بعيداً عن الواقع تماماً، حملت حيوات خيالية موازية للحياة التي كان يعيشها أغلب المصريون في هذه اللحظة التاريخية أو تلك.
بعد مرور ما يقرب من نصف الفيلم، وفي الوقت الهادىء الذي نتلصص فيه على الأسرة الإسرائيلية التي تستعد كل جمعة لمشاهد فيلم مصري، ندرك فوراً من جملة عابرة أن جلستهم تلك هي مجرد استراحة قصيرة في نشاط القتل المستمر الذي تمارسه الأسرة ذاتها بالدعم والمشاركة باستمرار في قتل الفلسطينيين
السينما المصرية اتخذت منذ بدايتها قراراً ربما غير واع، بأن تكون تهويدة حلم في حياة قاسية أعقبت ما حدث في 1952 من حراكات وانقسامات وتحوّل مجتمعي كامل، أما "الآخر" الإسرائيلي فيظنها حقيقة مجتمع صار بعيداً. يقول مدير برامج التلفزيون الإسرائيلي في أحد المشاهد: "إذا شاهدنا ممثلة تنتحر في الفيلم كنا نفهم أنها انتحرت في الحقيقة"، فهل حققت الافلام المصرية ذلك التقارب الفكري الذي يدعيه الفيلم الإسرائيلي؟
يحاول الفيلم على امتداد زمنه اصطناع حالة من التقارب الفكري والهوياتي بين المجتمعات العربية وبخاصة المجتمعين المصري والفلسطيني، والمجتمع الاستيطاني الإسرائيلي، على اعتبار الجميع لديه نفس الجذور القريبة، إلا أن فرط الاصطناع يجعل من التقارب المزعوم في الفيلم مجرد سخرية واعية أو غير واعية، تدلل على فشل محاولات الترسيخ الناعم للتقارب الإسرائيلي العربي.
بعد مرور ما يقرب من نصف الفيلم، وفي الوقت الهادىء الذي نتلصص فيه على الأسرة الإسرائيلية التي تستعد كل جمعة لمشاهد فيلم مصري، ندرك فوراً من جملة عابرة أن جلستهم تلك هي مجرد استراحة قصيرة في نشاط القتل المستمر الذي تمارسه الأسرة ذاتها بالدعم والمشاركة باستمرار في قتل الفلسطينيين، لذلك يبدو خطاب التقارب المجتمعي في تضاد مفاهيمي مع نفسه، مجرد تثاقف خطابي لا يترجم على أرض الواقع.
أغلب التعليقات التي صاحبت الفيلم على مواقع التواصل الاجتماعي في مصر إثر انتشاره في نهايات العام الماضي، اتجهت ليس فقط نحو الإعجاب بالفيلم كمنتج فني؛ بل تجاوزت ذلك للتعاطف مع شخصياته، تحديداً مع السيدة التي تبكي ابنها وهي تساوي بينه وبين الآخر -هنا- الفسطيني لتضعهما في منطقة واحدة من الدوافع والمصير. هذه الرؤية معدومة البوصلة التي تساوي بين القاتل والمقتول؛ لتؤسس لصناعة التعاطف مع القاتل أمام الشاشة.
وكما يبدأ الفيلم بمغازلة حليمية هادئة ينتهي بأخرى شبيهة على أنغام أغنية "أنا لك علطول خليك ليا"، التي تحكي مجازاً قصة حب جميلة لكنها ركيكة الحبكة نسبياً، يحاول المخرج إقناع الجميع بها، ظاهرياً على الأقل، تؤطر خطابه بين الأنا (إسرائيل) والآخر (العرب) إذ بات علينا تناسي ماضينا عموماً، وعمليات القتل والانتهاك اليومية في حق الفلسطينيين أمام الفن الذي تأسسنا عليه معاً. كل ذلك يعيد التساؤل حول مدى فهمنا لموقعنا الذي كان وما علينا أن نتفاعل خلاله في لحظة مختلفة فقدنا فيها قوتنا الناعمة وربما ما هو أبعد من ذلك، فما هو الحل هنا والآن لو كنّا لا نملك ما يعبّر عن غضبنا الفني والعسكري؟
يريد منّا الفيلم والساسة أن نسلِّم ضمنياً بالتسامح مع عصابات لا تزال حتى كتابة هذه السطور - وربما للأبد- تدفع وتؤيد وتقف لتقتل شعباً كاملاً بشكل علني وإجرامي تحت راية ادعاءات خرافية اخترعتها وصدقتها، في ظل حماية الرجل الأبيض في أمريكا وغرب سقط عنه قناع ادعاء الإيمان بالإنسانية الجامعة والمساواة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...