فيما يدور رحى العدوان يطحن أجساد أبناء غزة ومعالمها وسبل الحياة فيها، تهدر في عواصم عربية مجاورة مهرجانات صاخبة لا يوقفها حدث قريب ملطخٌ بدماء الأقربين.
قطار ترفيههم الحديث الولادة يتلوَّى راقصاً متعامياً عن دماء لم تستطع الفنانة التشكيلية والخزَّافة المصرية هبة حلمي أن تتعامى عنها وهي تجهز معرضها الشخصي، إذ حجزت مساحة عرض وموعداً بقاعة "الباب" داخل دار الأوبرا المصرية بالقاهرة، قبيل بدء القصف الإسرائيلي على غزة.
ومع اقتراب موعد افتتاح المعرض كانت الحرب تشتد شراسة ويتفاقم عدد الشهداء. فكَّرت حلمي أن تمسك العصا من المنتصف لئلا تتجاهل الحدث الدامي على أرض فلسطين، وشرعت في إضافة بعض أعمال فنية لدعم القضية الفلسطينية. لكن لا حلول وسطى تنفع مع جريان دم الأبرياء، ولا بُدَّ أن تتحول ساحة المعرض بأكملها إلى مأوى يحتضن أطفال غزة، الذين باتوا بلا مأوى من القصف والقتل، معتبرة معرضها غضباً واجباً ومشاركة لازمة.
في معرضها الذي استمر حتى مساء السبت 2 ديسمبر/ كانون الأول الجاري، اختارت حلمي التدوين سلاحاً يقاوم خيانة الذاكرة، فصنعت من معرضها مساحة تفاعلية لتسجيل 2900 اسم لضحايا العدوان من أطفال غزة - وقت الإعداد للمعرض- حسب قائمة نشرتها وزارة الصحة الفلسطينية، بعد مرور شهر على الحرب، رداً على التشكيك الإسرائيلي الأمريكي في صحة عدد ضحايا القصف المُعلَن من قبل وزارة الصحة في قطاع غزّة المُحاصر، وهنا علينا أن نشير إلى أن هذا العدد قد يساوي ثلث حصيلة من ارتقوا حتى اليوم.
هبة حلمي: "كانت الأعمال التي ستُعرض قبل تعديل الخُطة تراوح بين فنون الخط والخزف والرسم، مجموعة أشكال خزفية تحاكي لوح الكتابة الذي استخدمه أطفال الكتاتيب، ولوحات تمزج الخطوط العربية بالمصرية والقبطية، موزاييك متنوع لمصادر ثقافتنا وتكويننا المصري"
"بقاء" هو اسم المعرض، المُعدَّل، للفنانة هبة حلمي، التي تصف اختيارها هذا الاسم بأنه: "بقاء الحياة، بقاء القضية العادلة، بقاء الشعب العنيد، بقاء غزة حرة وبقاء الشهداء أحياء".
تقول هبة حلمي لـرصيف22: "مهتمة في مشروعي الفني بالخط وجمالياته، سواء الخط العربي أو الخط المصري القديم، عملت منذ سنوات على علاقة التشكيل بالكتابة وعلى فكرة الكتابة نفسها، المعرفة، التسجيل، نقل الخبرة عبر الأزمنة، كذلك البُعد السحري للكتابة وعلاقتها بالمقدس والسري. أعتبر هذا مجال بحثي الفني، ووجدت في المخطوطات والخزف الإسلامي القديم وجدران المعابد المصرية والنسيج القبطي مصادر إلهامي".
تضيف حلمي: "كانت الأعمال التي ستُعرض قبل تعديل الخُطة تراوح بين فنون الخط والخزف والرسم، مجموعة أشكال خزفية تحاكي لوح الكتابة الذي استخدمه أطفال الكتاتيب، ولوحات تمزج الخطوط العربية بالمصرية والقبطية، موزاييك متنوع لمصادر ثقافتنا وتكويننا المصري".
لم تكتفِ حلمي بطباعة وتدوين قائمة ضحايا العدوان، بل اختارت أن يشاركها أصدقاء وفنانون، وتركت جزءاً من القماش فارغاً للجمهور وبجواره قائمة مطبوعة وبعض أقلام ليصير المعرض تفاعليّاً بإسهام أكبر عدد من المتأثرين الغاضبين، فقد يحميهم التدوين من النسيان
من هنا جاء معرض "بقاء" في جانبه التشكيلي قريباً من طبيعة مشروع حلمي المهتم بفنَّي الخط والخزف.
تحولت اللوحة إلى سجل طويل من 26 متراً من القماش عليها أسماء الأطفال المغدورين، على أن يُستكمل الباقي بأيادي الزائرين.
أما القطع الخزفية الملوَّنة أو المجلَّزة بتقنية الفن الإسلامي، فتحوَّلت في المعرض إلى أكوام كسر فخار بلون الأرض والطين، محفورة داخلها أيقونة "حنظلة" رمز الطفل الفلسطيني المقاوم، للفنان الفلسطيني ناجي العلي.
لم تكتفِ حلمي بطباعة وتدوين قائمة ضحايا العدوان، بل اختارت أن يشاركها أصدقاء وفنانون، وتركت جزءاً من القماش فارغاً للجمهور وبجواره قائمة مطبوعة وبعض أقلام ليصير المعرض تفاعليّاً بإسهام أكبر عدد من المتأثرين الغاضبين، فقد يحميهم التدوين من النسيان.
في زيارتي إلى المعرض اصطحبت ابنتي ذات العامين، لا أظنها كانت تعي ما رأت أو ما وصفت، لكنني تمنَّيت أن يترك أثراً ما في وجدانها، فقد نعود إلى الصور العام القادم وهي أكثر وعياً لأحكي لها تفاصيل أكثر حينها، وفي العام التالي أكرر القصص نفسها لأذكِّرها بما عاصرنا من دم يسترخصه العالم.
يجب توثيق الملحمة وضحاياها لئلا يصبحوا رقماً مجرداً كما يتمنى المحتل المدعوم بصمت العالم "المتحضِّر"، فإذا كنا لا نستطيع وقف الحرب أو حمل سلاح لنقاوم معهم، فلنتشارك التدوين، الحكي، حفظ أسماء الأبطال، تقديم التحايا لهم، الوقوف ثواني من أيامنا المزدحمة أمام قوائم أسمائهم، تأمَّلْها، تذكَّرْها، قف دقيقة حداداً على أرواحهم قبل عرضك الكوميدي/الفني، زُر المعرض وشارك بكتابة أسمائهم، أو إخلق معرضك الخاص على جزء بحائط بيتك، أو قلبك على أقل تقدير، لا تنس ولا تسامح.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ 4 ساعاتالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يوموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومرائع
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت