شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
خمسون يوماً من الانبهار في القرن التاسع عشر… رحلة محمد الصفار المغربي إلى باريس

خمسون يوماً من الانبهار في القرن التاسع عشر… رحلة محمد الصفار المغربي إلى باريس

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رود تريب نحن والتاريخ

الأحد 10 ديسمبر 202312:38 م

شهدت نهايات النصف الأول من القرن التاسع عشر رحلة اتسمت بالأصالة والتفرد، قام بها رجلٌ مغربي يُدعى محمد الصفار، سافر خلالها من المغرب إلى باريس، وكادت رحلته أن يطويها النسيان، لكن بعد نحو قرنٍ وربع، قُدّر لها أن تقع بين يدي باحثة أمريكية، ومن ثم باتت تلك المخطوطة النادرة بين يدينا الآن، لنتناولها بالبحث والتقصي.

كواليس المخطوطة النادرة

في سبعينيات القرن الماضي، كانت الباحثة الأمريكية سوزان ميلار منشغلة بعالم الرحالة من الشرق إلى الغرب، فتعرفت إلى المؤرخ والفقيه المغربي محمد المنوني (1915ـ1999)، الذي بدوره دلّها على مخطوطة نادرة لمحمد الصفار، وأخبرها بأنها موجودة ضمن محفوظات الخزانة الحسنية بالرباط.

وَجَدت سوزان تلك المخطوطة مُؤلّفة من مئة وتسع وثلاثين صفحة، ويبلغ طول كل صفحة 21.5 سنتيمتر، وعرضها 17 سنتميتراً. ويتضمن نَص كل صفحة 21 سطراً.

كادت رحلة محمد الصفار من المغرب إلى باريس أن يطويها النسيان،  ولكن بعد نحو قرنٍ وربع قُدّر لها أن تقع بين يدي باحثة أمريكية، ومن ثم باتت تلك المخطوطة النادرة بين يدينا الآن

كُتِبَت المخطوطة بخطٍ مغربي متأنٍ، جُلّه واضح المعالم، ولم يكن هذا المخطوط يحمل توقيعاً أو اسماً للمؤلف، غير أن قرائن عديدة، لا تدع مجالاً للشك في أن الرحلة من تأليف الفقيه محمد الصفار.

على إثر تلك المخطوطة نالت سوزان درجة الدكتوراه من شعبة التاريخ بجامعة ميشغن الأمريكية سنة 1976، ونقلها للعربية المترجم المغربي الدكتور خالد الصغير.

من يكون محمد الصفار؟

اسمه محمد بن عبد الله التطواني الصفار. أُطلِق على والده لقب الجاياني، نسبة إلى مدينة جيان الأندلسية، حيث الجذور الأولى لهذه الأسرة.

ولد محمد الصفار بمدينة تطوان "ويُجهَل تاريخ ولادته كما هو شأن المعاصرين له"، بحسب ما أوردته الباحثة آسية واردة، في رسالتها البحثية "فرنسا بعيون الفقيه محمد الصفار: اللقاء مع الآخر واكتشاف الجديد".

وتضيف واردة: "بدأ الصفار رحلته التعليمية في تطوان، فتعلم على يد شيوخ عصره، واتجه إلى فاس لقراءة العلوم بجامع القرويين، ومكث بفاس مدة استغرقت أزيَد من ثماني سنوات، انهمك خلالها في دراسة علوم الفقه والحديث والنحو والأصول على يد العالم الشهير عبد الرحمن الحجرتي".

تردد الصفار في شبابه على الأوساط العلمية، واحتك بالمؤسسات في فاس، فتمكن في وقت وجيز من إيجاد فرصة عمل تتلاءم مع تكوينه العلمي، فاشتغل عدلاً بمدينة تطوان، وبدأ مشواره في خدمة المخزن مع القائد محمد أشعاش، عامل تطوان، وبعد وفاة الأخير لازم ابنه عبد القادر أشعاش.

يقول الدكتور العربي بن رمضان في رسالته "الرحلة السفارية المغربية وسؤال الإصلاح بالمغرب الحديث": "ظل الصفار وفياً لوظيفته التقليدية، التدريس والعدلية (...) هذه الصفة مكّنته من اختياره من طرف أعشاش لمرافقته إلى بلاد الفرنسيس، نزولاً عند الأمر السلطاني القاضي بإلزامية أن يكون موكب الرحلة مُرفقاً بفقيه عالم بأمور الدين والشرع".

السياق التاريخي لرحلة الصفار

تقول سوزان ميلار في كتابها "رحلة الصفار إلى فرنسا 1845ـ1846": "كان أبرز حدث هزّ جيل الصفار هو الاحتلال الفرنسي للجزائر سنة 1830. ولما تمكّن الفرنسيون من توسيع مجال احتلالهم من المناطق الساحلية للجزائر إلى أعماق البلاد ليصبح احتلالهم لها شاملاً، أدى ذلك إلى تحطيم مفاجئ لاستمرارية المجال الذي كان بين البلدان الإسلامية الممتدة من مصر إلى المغرب منذ القرون الأولى للعهود الإسلامية. وقد أصبح التوغل الفرنسي يعني للمغرب أن دولة مسيحية أصبحت تجاوره على طول حدود ممتدة على أرض سهلية وأخرى صحراوية بكل ما تسمح به من فسح للمجال المغربي أمام الفرنسيين".

لم يدوّن الصفار مشاهداته في باريس أولاً بأول، بل انتظر حتى عاد إلى مسقط رأسه تطوان في ربيع عام 1846، فحمل قلمه وشرع في الكتابة، وقال: "هذا ما تيسر للعبد الضعيف جمعُه مع تشويش البال وتزاحم الأشغال".

من هنا اضطر المغربيون، وعلى رأسهم السلطان مولاي عبد الرحمن (1822ـ 1859) للظهور كمساهم في المقاومة الجزائرية ضد المستعمر الفرنسي، ورداً على ذلك عيّنت فرنسا أحد جنرالاتها "المعروف بكرهه للمسلمين، وهو الجنرال بيجو حاكماً عاما للجزائر، والذي صمم العزم على القضاء على المقاومة الجزائرية ولو كلفه الأمر اجتياح التراب المغربي"، وفقاً لما أورده العربي بن رمضان في رسالته.

بالفعل قامت فرنسا بتوجيه ضربتين عسكريتين للمغرب سنة 1844، حينما ألقت قنبلة على طنجة ودمرت مدينة الصويرة، بهدف التأثير على المداخيل المالية للمغرب وترهيب المغاربة من مغبة مواصلة دعم المقاومة الجزائرية، وكانت نتيجة ذلك أن بدأت معاناة المغاربة مع الاستعمار الفرنسي تحديداً في معركة إيسلي من نفس العام، التي انتهت بهزيمة ضارية للمغاربة.

بعد الهزيمة النكراء، بدأت مفاوضات لالة مغنية سنة 1845 لترسيم الحدود بين المغرب والجزائر، واقترح خلالها الفرنسيون على السلطان إرسالَ سفير مغربي إلى فرنسا، ومن وراء هذا هدف فرنسي خفي مفاده "أن يُقدّم للرأي العام الفرنسي مبرراً على أن الحرب ستكون طويلة الأمد"، بحسب ما أورته الباحثة آسية واردة.

واستقر رأي السلطان على إرسال عبد القادر أشعاش، ورافقه وفد من ذوي العلم والخبرة والنباهة، ومن بينهم كاتب رحلتنا محمد الصفار.

الصفار في باريس... خمسون يوماً من الانبهار

لم يدون الصفار مشاهداته في باريس أولاً بأول، بل انتظر حتى عاد إلى مسقط رأسه تطوان في ربيع عام 1846، فحمل قلمه وشرع في الكتابة، وقال: "هذا ما تيسر للعبد الضعيف جمعه مع تشويش البال وتزاحم الأشغال".

حقيقةً، لم تخل مخطوطة الصفار من عجائب وملحوظات هامة دوّنها بعناية وإتقان وربما بكثير من الانبهار أيضاً، كونه لم ينسَ أن الغرض من رحلته سياسياً بالأساس، فنراه منبهراً أشدّ الانبهار بالعتاد العسكري الفرنسي، فيقول: "مضوا وتركوا قلوبنا تشتعل ناراً، لما رأينا من قوتهم وضبطهم وحزمهم وحسن تربيتهم، ووضعهم كل شيء في محله، مع ضعف الإسلام وانحلال قوته، واختلال أمر أهله. فما أحزمهم وما أشد استعداداهم، وما أتقن أمورهم وأضبط قوانينهم. وما أقدرهم على الحروب وما أقواهم على عدوهم، لا بقلوبٍ ولا بشجاعة ولا بغيرة دين، إنما ذلك بنظامهم العجيب وضبطهم الغريب، واتباع قوانينهم التي عندهم لا تنخرم".

ويبالغ الصفار في الانبهار فيقول: "إن صدرت من واحد منهم زلة أجروا عليها شريعتها، سواء كان رفيعاً أو وضيعاً، وإن ظهرت لأحد منهم مزية أرقوه درجة، لا يطمع أحد منهم في غير ما هو له، ولا يخاف على ما في يده أن يُنزَع منه، فعلى ذلك يبدلون مهجهم في المعارك، ويلقون بأنفسهم في المهالك. ولو رأيت سيرتهم وقوانينهم لتعجبت منها غاية العجب، مع كفرهم وانمحاء نور الإيمان من قلوبهم، وما راءٍ كمن سمع. اللهم أعد للإسلام عزته، وجدد الدين ونصرته بجاه النبي صلى الله عليه وسلم".

بدا الصفار كالطفل أمام بعض الاختراعات في باريس التي لم يرَ مثلها في بلده، فيصف العربات التي تجرها الخيول بأنها "بيت من البيوت، لا يخاف راكبه من ريح ولا مطر ولا شمس ولا حر ولا برد"، ويصف القطار بأنه "يساير الطير في الهواء، بحيث قطعنا المسافة في ساعتين ونصف"

وبدا الصفار كالطفل أمام بعض الاختراعات التي لم يرَ مثلها في بلده، فيصف العربات التي تجرها الخيول بأنها "بيت من البيوت، لا يخاف راكبه من ريح ولا مطر ولا شمس ولا حر ولا برد"، ويصف القطار بأنه "يساير الطير في الهواء، بحيث قطعنا المسافة في ساعتين ونصف إلا وكنا ننظر إلى جوانب الطريق فلا نرى ما فيها من الأحجار، إلا أنها كأنها خيوط متصلة ذاهبة معنا، ولا نحقق الحجر ولا غيره"!

عقلية المسلم المسافر حديثاً إلى باريس... بين الإعجاب وزلة اللسان!

حين زار الصفار دار الطباعة (دار الكتب)، وصفها وصفاً دقيقاً، واعتبرها المكان الأقرب إلى قلبه في باريس، ولفت نظره هناك وجود المصحف الشريف بين الكتب، فيقول: "طلبنا منهم الكتب العربية، فأحضروا لنا مصحفاً عظيماً في مجلد كبير يحمله اثنان من الناس بينهما لكبرِه، وهو خطّ شرقي لم يُرَ مثله حسناً وبهجة ورونقاً وكمالاً. ولا يوصف ما فيه من الحلية والذهب مما يستحسن أن يكون في خزانة ملوك الإسلام أظفرهم الله به وأنقذه من أيدي الكفرة"!

بيدَ أن استخدام الصفار للفظة "الكفر" في رحلته أقرب إلى "زلة اللسان"، لأنه لم يستخدمها مرة أخرى في مخطوطته، برغم ما رآه من مشاهد يصعب على مسلم شرقي تخيلها، مثل رؤيته لـ"لتياترو"، الذي يصفه بأنه "محلّ يُلعب فيه بمستغربات اللعب ومضحكاته، وحكاية ما وقع من حرب أو نادرة أو نحو ذلك. فهو جدُّ في صورة هزل (...) فهم يتناشدون ويغنون، فتارة تكون المعشوقة راضية عن عاشقها مقبلة عليه، وتارة تبغضه وتعرض عنه".

حتى النساء الباريسيات، اللاتي كُنّ بالطبع مختلفات عن نساء بلاده العربية، لم يصفهن الصفار بشيء فيه انتقاد، بل بالعكس بدا منبهراً بهن، حتى نظم فيهن الشعر، وقال: "رأيتُكِ في السواد فقلت بدر/بدا في ظلمةِ الليلِ البهيمِ/وألقيت السواد فقلتُ شمسٌ/محَت بشعاعِها ضوءَ النجومِ".

لم يكتفِ بذلك فقط، بل أمعن في وصف ملابسهن، فيقول دون تعقيب أو انتقاد: "وحدُّ الستر عند الباريزيات الثديان فهما مستوران، وما فوقهما من الصدر والظهر والرقبة والعضد مكشوف بادٍ. ويسترن بعض العضد إلى نصف الساعة بأكمام ضيقة، ويحتزمن تحت ذلك الثوب بحزام ضيق لرقة حضورهن، وجعلهن الثوب على الخصر ضيقاً على قدره".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard