"إن المتنبي لو أطال الإقامة في فَارْس والاستمتاع بما كان يستمتع به من خفض وأمن ونعيم لتغيّر مذهبه الشعري تغيراً قوياً جداً، ولجاز أن يُحدث في الشعر العربي فناً جديداً لم يُسبَق إليه، ولم يُتح لأحد من العرب بعده أن يحدثه، لأن نبوغه واستعداده لم يُتاحا لشاعر عربي من الذين زاروا البلاد بعده"؛ بهذه الكلمات أدلى الأديب المصري طه حسين في كتابه "مع المتنبي".
زار شاعر العرب أبو الطيب أحمد بن الحسين المتنبي (915 – 965م)، إيران في عهد حكم البويهيين، وهم أسرة ديلمية فارسية شيعية، قيل إنهم زيدية وقيل إنهم إمامية.
كان البويهيون أو آل بويه يحكمون البلاد في نقطتين من إيران، واحدة في مدينة الري القريبة من طهران، وحاكمها ركن الدولة الحسن بن بويه، ويعمل في ديوانه الوزير أبو الفضل بن العميد والوزير الصاحب بن عباد، والآخر كان عضد الدولة في شيراز جنوب البلاد، أما باقي نقاط البلاد فكانت بيد حكام محليين آخرين.
شهدت بلاد فارس في عصر هذه الدويلات بالقرن العاشر الميلادي، الموافق للقرن الرابع الهجري، نهضة علمية في مختلف العلوم تعود أسبابها إلى التنافس بين أصحاب المماليك في عموم البلاد وحتى العالم الإسلامي برمته.
كان عضد الدولة في شيراز يقيم مجالس لعلماء المسلمين ويدعو ويرحب بالعلماء من كل البقاع، واهتم باللغة العربية وآدابها كي يعمق علاقاته مع العالم الإسلامي، فقصده من قصده.
في أرجان
كانت هناك علاقات وطيدة بين الوزير الأديب ابن العميد والمتنبي، فوجه إليه الدعوة بناءً على معرفة سابقة، وكذلك كان الحكام البويهيون قد سمعوا من قبل بمكانة شاعر العرب، فجاء المتنبي ومن معه إلى مدينة "أرجان"، وتسمى اليوم "بِهْبَهان"، جنوب شرق محافظة خوزستان الحالية ومركزها مدينة الأهواز، وكانت المدينة وقتذاك ضمن إقليم شيراز.
اتجه المتنبي إلى شيراز ليبقي 3 أشهر عند عضد الدولة البويهي، أنشد خلالها ست قصائد وأرجوزة ومقطوعة. وفي طريقه إلى شيراز مرّ بوادي بوّان، واحد من أجمل الوديان في إيران، وأخذ يتغنى به لجماله وخضاره وطبيعته المنفردة
وكان ابن العميد الذي يعمل مع ركن الدولة في مدينة ري، قد جاء إلى أرجان لجمع الضرائب، فاستقبل المتنبي، وهو قادم من بغداد، فرحّب به أجمل ترحيب، ومكث عنده ما يقارب ثلاثة أشهر، كان يشترك خلالها في مجالس ابن العميد، وهي مجالس أدبية لغوية.
كتب المتنبي خلال إقامته هذه، ثلاث قصائد في مدح ابن العميد، إضافة إلى مقطوعتين، فنال منه الهدايا النفيسة والجوائز السخية، وجاء في قصيدته الأولى حول مدينة بهبهان:
أَعطى الزَمانُ فَما قَبِلتُ عَطاءهُ
وَأَرادَ لي فَأَرَدتُ أَن أَتَخَيَّرا
أَرَجانَ أَيَّتُها الجِيادُ فَإِنَّهُ
عَزمي الَّذي يَذَرُ الوَشيجَ مُكَسَّرا
ثم في قصيدته الثانية التي بدأها بهذا البيت حول حلول عید النوروز:
جاءَ نَيروزُنا وَأَنتَ مُرادُه
وَوَرَت بِالَّذي أَرادَ زِنادُه
ثم أنشد طبيعة إيران وهو في موسم الربيع، بهذه الأبيات:
نَحنُ في أَرضِ فارِسٍ في سُرورٍ
ذا الصَباحُ الَّذي نَرى ميلادُه
عَظَّمَتهُ مَمالِكُ الفُرسِ حَتّى
كُلُّ أَيّامِ عامِهِ حُسّادُه
ما لَبِسنا فيهِ الأَكاليلَ حَتّى
لَبِسَتها تِلاعُهُ وَوِهادُه
ووصف الوزير البويهي ابن العميد بأنه جامع بين الثقافة العربية والفارسية:
عَرَبِيٌّ لِسانُهُ فَلسَفِيٌّ
رَأيُهُ فارِسِيَّةٌ أَعيادُه
في شيراز
اتجه المتنبي إلى شيراز، ليبقي 3 أشهر عند عضد الدولة البويهي، أنشد خلالها ست قصائد وأرجوزة ومقطوعة. وفي طريقه إلى شيراز مرّ بوادي بوّان، واحد من أجمل الوديان في إيران، وأخذ يتغنى به لجماله وخضرته وطبيعته المنفردة، فقال فيه وفي ناسه في قصيدته النونية:
مَغاني الشَعبِ طيباً في المَغاني
بِمَنزِلَةِ الرَبيعِ مِنَ الزَمانِ
وَلَكِنَّ الفَتى العَرَبِيَّ فيها
غَريبُ الوَجهِ وَاليَدِ وَاللِسانِ
مَلاعِبُ جِنَّةٍ لَو سارَ فيها
سُلَيمانٌ لَسارَ بِتَرجُمانِ
طَبَت فُرسانَنا وَالخَيلَ حَتّى
خَشيتُ وَإِن كَرُمنَ مِنَ الحِرانِ
حتى أن قال:
يَقولُ بِشِعبِ بَوّانٍ حِصاني
أَعَن هَذا يُسارُ إِلى الطِعانِ
أَبوكُم آدَمٌ سَنَّ المَعاصي
وَعَلَّمَكُم مُفارَقَةَ الجِنانِ
فَقُلتُ إِذا رَأَيتُ أَبا شُجاعٍ
سَلَوتُ عَنِ العِبادِ وَذا المَكانِ
فَإِنَّ الناسَ وَالدُنيا طَريقٌ
إِلى مَن ما لَهُ في الناسِ ثانِ
يطلعنا طه حسين على جماليات هذه القصيدة، فيصف: "لم يتقن المتنبي وصف الطبيعة في طور من أطوار حياته كما أتقنه في هذا الطور. فوصفه لشعب بوّان رائع حقاً، ولكنه إلى الغناء أقرب منه إلى الوصف الخالص"، ويعتقد الأديب المصري أن شعر الشاعر العراقي في إيران قد امتاز بالتنوع والاختلاف وقد طرق أكثر فنون الشعر في المدح والوصف والسياسة والرثاء والطرد.
وفي أرجوزته أنشد المتنبي أرفع ما أتيح له من الإجادة الفنية الخالصة، وفي مقطع منها يصف صيد عضد الدولة في سهل أرزَن (أرژن):
إِنَّ النُفوسَ عَدَدُ الآجالِ
سَقياً لِدَشتِ الأَرزَنِ الطُوالِ
بَينَ المُروجِ الفيحِ وَالأَغيالِ
مُجاوِرِ الخِنزيرِ لِلرِئبالِ
داني الخَنانيصِ مِنَ الأَشبالِ
مُشتَرِفِ الدُبِّ عَلى الغَزالِ
مُجتَمِعِ الأَضدادِ وَالأَشكالِ
فشرح طه حسين: "لا ترى طبيعة الشاعر أخذت بحظ من الغزارة والخصب، والسهولة والجزالة، والاندفاع معاً، كما ترى في هذه الأرجوزة. لقد تجاوز ما كان مألوفاً عند القدماء في فن الطرد، واندفع مع الصائد والمصيد، كأنه الريح أو النسيم الذي يضطرب في تلك المروج، فيشهد ما كان يجري فيها من طراد وصراع".
وصف الشاعر عدنان الظاهر، أسباب رحلة المتنبي إلى إيران وقصائده التي كتبها فيها، فأورد: "كان في ظرف نفسي حاد وخيبة أمل غاية في التطرف بعد أن فشلت له تجربتان واحدة في حلب من بلاد الشام والأخرى في أرض الكنانة مصر. معزول في الكوفة مدحور ومأزوم نفسياً بعد أن راهن فخسر كل شيء. وفجأة تأتيه دعوة الوزير الفارسي ابن العميد لزيارة أرجان وشيراز وباقي أنحاء دولة بني بويه. وداعيه رجل معروف أديب ألمعي موهوب ولديه المال والأحجار الكريمة والدر والذهب، فضلاً عن جمال الطبيعة في بلاد فارس. فما عساه يروم أكثر من ذلك؟ ليس من سبيل أمام الشاعر لرد الجميل الا الشعر. وكيف يكون الرد إذا لم يكن مديحاً ومديحاً فوق العادة وغير المسبوق".
نقد الإيرانيين على ديوان المتنبي
أول ما كتب عن ديوان المتنبي كان الوزير الآخر في دولة بني بويه أو البويهيين، الصاحب بن عباد، حيث عنون رسالته: "الكشف عن مساوئ المتنبي"، كان قد ألفها عشر سنوات بعد رحيل المتنبي، حيث يذكر فيها بعض مزايا الشاعر وعيوبه، ويعتقد أن استعاراته في غير محلها وهي "استعارات حِدِاد في عُرس".
وألف باحث آخر في ذلك العهد يدعى "المتيم"، كتاباً تحت عنوان "الانتصار المنبي عن فضل المتنبي"، ولكنه مفقود. وهناك كتاب آخر "الوساطة بين المتنبي وخصومه"، للقاضي في الدولة البويهية علي بن عبد العزيز الجرجاني.
أعلن الباحث الإيراني علي أصغر محمد خاني، في مؤتمر سعدي الشيرازي والمتنبي عام 2015، أن هناك 100 رسالة جامعية و20 كتاب و60 مقالة أدبية أنتجت حول المتنبي ومقارنة شعره بالشعراء الإيرانيين ومدى تأثرهم به
وأما الناقد الإيراني أبو القاسم عبد الله بن عبد الرحمن الأصفهاني، فألف كتاباً تحت عنوان "الواضح في مشكلات شعر المتنبي"، وناقش ابن جنّي في تفسير ديوان المتنبي، وعُني بالرد على تفسيرات ابن جني إيراني آخر هو أبو علي بن فورّجة البروجردي، فألف في ذلك كتابين.
وذكر المستشرق الفرنسي ريجي بلاشير معلومات عن كتب مفقودة عملها الإيرانيون على ديوان المتنبي مثل شرح أبي بكر الخوارزمي لديوان المتنبي، وشرح سعد بن محمد الأزدي للديوان. واختصر عبد الله الأصفهاني شرح ابن جني في كتاب اسمه إيضاح المشكل لشعر المتنبي وأهداه إلى السلطان بهاء الدين البويهي. وثمة شروح أخرى لأبى منصور السمعاني وعبد القاهر الجرجاني وعبد الله الشاماتي، وسلمان الحلواني، وابن دوست.
وأعلن الباحث الإيراني علي أصغر محمد خاني، في مؤتمر سعدي الشيرازي والمتنبي عام 2015 أن هناك 100 رسالة جامعية و20 كتاباً و60 مقالة أدبية أنتجت حول المتنبي ومقارنة شعره بالشعراء الإيرانيين ومدى تأثرهم به.
أثر المتنبي على الشعراء الإيرانيين على مدى العصور، منهم قامات الشعر الفارسي: جلال الدين الرومي، وحافظ الشيرازي، وسعدي الشيرازي، ونجد تأثيره بوضوع في شعر الشاعر الأخير سعدي، وهو الذي عاش ثلاثة قرون بعد المتنبي في نفس مدينة شيراز التي سحرت شاعر العرب.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
HA NA -
منذ 3 أياممع الأسف
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ أسبوعحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ أسبوععظيم