العود الأبدي فكرة يكتنفها الغموض، فقد أربك بها نيتشه الكثيرين الفلاسفة. دعونا نتصور أن كل شيء سيتكرّر ذات يوم كما عشناه مسبقاً، وهذا التكرار بالذات سيتكرّر بلا نهاية.
حسناً، السؤال الذي طرحه كونديرا: "ماذا تعني هذه الخرافة المجنونة؟!".
جميعنا يبحث عن ليلة لنسيان شيء ما. ليلة عاشها دوستويفسكي بطولها، وتمنى أن تكون مئة عام من عمره مقابل حوادث متكرّرة، وكما أعلن كونديرا بأن مؤشر الساعة الماضي سيُلازِمُه من الآن فصاعداً كالوسواس.
ولكن كيف يلازِم الماضي امرؤ لا يرى فيه غير صحراء تطارِد فيها الريح نُتَفاً من الذكريات؟ هل يعني ذلك أن تلك النتف ستصبح وسواساً له؟ نعم يمكن أن تصبح حتى النتف وسواساً للمرء.
أما بالنسبة إلى "و"، فقد بدأ هذا التكرار عندما صعدت على متن الحافلة، مسافرةً إلى "ب"، جالسةً بمقعدها تتأمل وجوه المسافرين كلوحات تشكيلية رديئة الرسم، ملوثة بالفرح.
فكرت بخيالها الأسود اللامع: هل بالإمكان اقتلاع رؤوسهم واقتلاع رأسها الملون بالحزن واستبدال كل منهما، وإدانة الفنان الذي لوّن حياتها بالحزن المقيت؟!
تذكرت بأنها سافرت في الماضي هاربةً وخائفةً من الحرب، وتخيلت لوهلة بأنها كانت تسافر في كل مرة من أجل قضاء عطلة مع الرفاق، وأن ألمها سيصبح أكثر خفّة ولن يعود، وتصير حياتها مجرّد مشهد من فيلم مثالي، أو حدث من رواية مثالية... مجاز
راقبت بدقة وجوههم الكاذبة المتلاصقة بالزجاج. بعضهم غير مبال بخرافة العود الأبدي وتكرارها مثل "و)"، فالحياة ستختفي نهائياً ولن ترجع وإنما ستصبح أشبه بظل.
كانت "و" تقرأ رواية "كائن لا تحتمل خفّته"، متظاهرةً بالسعادة أو الانشغال بالسعادة، ناظرةً لوجوه من حولها في كل ثانية. تخيّلت مجدّداً أنها تتجه نحو المسافرين، ممسكةً برقبة كل واحد منهم، محطمة زجاج انعكاسهم الذي يفوق جمال انعكاسها الباهت.
ثم تذكرت بأنها سافرت في الماضي هاربةً وخائفةً من الحرب، وتخيلت لوهلة بأنها كانت تسافر في كل مرة من أجل قضاء عطلة مع الرفاق، وأن ألمها سيصبح أكثر خفّة ولن يعود، وتصير حياتها مجرّد مشهد من فيلم مثالي، أو حدث من رواية مثالية. لنقل إذن إن فكرة العود الأبدي تحدّد أقفالاً لا تبدو فيه الأشياء كما نعرفها، بل تصبح مؤلمة من وجهة نظر كائن بشري مهمل، يعاني باستمرار.
*****
نزلت "و" من الحافلة في الاستراحة لتطلب ركوةً من القهوة، وهي تفكر بكلام كاتبها المفضل كونديرا: "لو قُدّر لكل ثانية من حياتنا أن تتكرّر مرات لا حصر لها، لكنا معلقين على الأبدية مثلما عُلّق يسوع المسيح على صليبه".
تأملت حواف ركوة القهوة المحترقة، وفكرت بأن الركوة كائن بشري مهمل، يعاني مثلها من سوء الفهم والاهتمام، والرمي المستمر على رفٍّ يلمع بالصدأ، فحياتها رفٌّ يتألق بالصدأ.
دخلت إلى الحمام لتغسل يديها متذكرةً عندما سافرت في الماضي، كانت تتوقف لتتأمل وجهها، حابسةً دموعاً مستمرّة بتلويث حياتها، كما تلوّث الآن رغوة الصابون يديها المتسختين.
عاهدت نفسها إذا بقيت ستعيش بهذا التكرار الألمي المقذع، بأن ترضى بتلوّث أقل خفة. ويطرح كونديرا مجدداً السؤال في عقلها: "ولكن هل الثقل هو حقاً فظيع، وجميلة هي الخفة؟".
*****
صعدت "و" إلى الحافلة متأبطةً كتابها، محاولةً نسيان أنها ستكب رصيداً من الدموع الملوثة في الساعات القادمة.
بدأت تقلب كتابها مأسورةً بمشهد خانق بكيت بعده كإنسان أخرس متوسلةً، راضية بالتلوث، لتقرأ: "كنت أتصفح كتاباً عن هتلر، فوجدت نفسي أمام بعض من صوره. ذكرتني بزمن طفولتي التي عشتها خلال الحرب. كثيرون من أفراد عائلتي لقوا حتفهم في معسكرات اعتقال النازية، ولكن ما أهمية موتهم أمام صورة هتلر التي ذكرتني بزمن غابر من حياتي، بزمن لن يعود...".
ناظرةً إلى المقعد الذي يجلس عليه والدها أمامها، متذكرةً تاريخاً حافلاً من الضرب والإهانة، واليوم ولأول مرة سافرت معه طوعاً، متصالحةً مع الضرر النفسي، خانعةً أمام الألم... لأول مرة!
مكملةً مشهدها بدموع طافرة خانتها، قارئةً مجدداً: "إن هذه المصالحة مع هتلر تفضح عمق الشذوذ الأخلاقي الملازم لعالم مبني أساساً على انعدام العود، ذلك أن كل شيء في هذا العالم مغتفر سلفاً وكل شيء مسموح به بوقاحة...".
واليوم غفرت بوقاحة مقذعة كرهاً أعمى في الموقف، فالإنسان كائن أحمق، يعشق غفران اللحظات، لأنه غير قادر على مجابهة غرائزه النفسية. يخاف أن العيش بمشاعر ستأكله كالكره، ويحب أن تمر حياته على أنه بطلُ خير.
مرة ليست في الحسبان، مرة هي أبداً، نعيش حياة واحدة كأننا لم نعشها أبداً. حمقى! نعيش بقطران من الخوف...مجاز
مرة ليست في الحسبان، مرة هي أبدٌ، نعيش حياة واحدة كأننا لم نعشها أبداً. حمقى! نعيش بقطران من الخوف.
تسأل "و" نفسها: أيهما هو المحتمل، الخفة أم الثقل؟ بكاءٌ ملوث أم انهيار عام؟
تطرح "و" السؤال مخاطبةً ذاتها المنعكسة على زجاج الحافلة، وتتذكّر بأنها عاشت فترة من الانهيار الذي أصاب ناحيتها الجسدية والنفسية.
اتصلت بأمها، وظلت تخاطبها، تخاطب الأم التي توحّشت لكثرة آلامها، لأنها كانت تعاني من عدة أعراض صحية مؤلمة.
نطقت الأم إجابات فحواها بأنها لا تعاني أبداً، مجرد أعراض سببها علاقة زواج هزيلة، وبأن ألم هذه الأعراض محتمل وأنه لا شيء مقارنة بالآلام الأخرى. وهنا تطرح "و" سؤالاً: هل للألم مقياس يحتمل؟! درجة أو عتبة أو حد معين؟!
وعلى سيبل المثال، لنقارن شخصاً يتأمّل معصمي يديه، مفكراً بذبحها عازماً على الانتحار، وبين شخص يريد الانتحار بشرب دواء، ثم يئنّ للحظات ويموت بسرعة؟!
مجيبة نفسها مؤيدةً بارميند باختياره: "الخفيف هو الإيجابي والثقيل هو السلبي... هل نحنا على حق أم لا؟". هذا هو السؤال والإجابة الواحدة المؤكدة: النقيضان، الثقيل والخفيف، هما الأكثر غموضاً والتباساً بين كل المتناقضات.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...