شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
هذا زمن لا يليق بقلقي، هل وُلدت في نهاية العالم؟

هذا زمن لا يليق بقلقي، هل وُلدت في نهاية العالم؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والنساء

الجمعة 8 ديسمبر 202302:34 م

شعرت بالأسى دوماً على الأجيال السابقة، تلك الأجيال التي مرت بحربين عالميتين، واضطرابات سياسية، أو  عاشت زمن احتلال بلادها أو والأوبئة التي لا علاج لها.

نظرت للخلف بتعاطف، ولكن أيضاً باستعلاء الشباب. كنت أظن أني نجوت، أن العالم الذي تغيّر ونضج سيحمل لي حياة أهنأ، أو على الأقل أهدأ، ولكن ها أنا في نهاية الثلاثينيات، وقد جمعت السنوات الثلاث الأخيرة كل ما ظننت أني محمية منه: وباء ثم حربان، أحدهما تبعد عن وطني أميال قليلة، وأزمة اقتصادية طاحنة، ومسيرة مهنية على كف عفريت بسبب كل ما سبق، لم يعد هذا العالم آمناً لأعيش فيه، ولا ذلك الزمن يتلاءم مع قلقي.

هاتف يحمل ثقل العالم

بالأمس تعالى صوت قلقي، اعتصر الألم خاصرتي، لم أستطع التنفس. شعرت أن الهواء غير المعبأ بالبارود الذي أتنفسه لا يحق لي. قمت من فراشي وذهبت إلى غرفة ابنتي. قبّلتها. بدا وجهها مثل قمر صغير، فعلى الرغم من دخولها مرحلة المراهقة إلا إن ملامحها عند النوم تعود كما كانت وهي في أيامها الأولى، بوجه آمن، وذقن صغير وشفتين مزمومتين.

لم يذهب الخوف، شعرت به حاضراً في الحجرة، فكرت في أن أضع الهاتف المحمول في صندوق ثم في أعلى خزانة الملابس. شعرت أن هذا الجهاز الذي بحجم كفي يحمل كل ثقل العالم، لم يعد الأداة التي توصلني بأصدقاء وأحبائي

 مرّت أمام عيني عشرات الصور المرعبة التي شاهدتها اليوم على المواقع الإخبارية وتضمنت أطفالاً. جفلت واستعذت من شياطين عقلي، وحمدت الله على أمان الصغيرة وغضبت في ذات الوقت أني أنجبتها، لم أظن عندما فعلت أن العالم سيكون على هذه الشاكلة. في النصف الثاني من عشريناتي، كانت  كبرى مخاوفي قدرتي على الوفاء باحتياجات ابنتي الاقتصادية، وتقديم حياة آمنة ومستقرة لها.

لم يذهب الخوف، شعرت به حاضراً في الحجرة، فكرت في أن أضع الهاتف المحمول في صندوق ثم في أعلى خزانة الملابس. شعرت أن هذا الجهاز الذي بحجم كفي يحمل كل ثقل العالم، لم يعد الأداة التي توصلني بأصدقاء وأحبائي. لم أعد أتواصل معهم بالأساس، كل مناقشة لا تحمل في باطنها سوى الأسى، ومزيداً من الأخبار الحزينة.

سخرت بمرارة من سذاجتي، وتذكرت بطل مسلسل تلفزيوني كان يُخفي الروايات في الثلاجة عندما يصل إلى الأجزاء الحزينة منها، ولكن لو أخفيت الهاتف أو أغلقته أو قطعت الإنترنت، ستظل المأساة تحدث بالخارج، لن تنتهي عندما أُغمض عيني، كما لن ينتهي هذا الطنين بداخل رأسي لو أغلقت مواقع الأخبار.

أقرأ على فيسبوك منشور صديقة تقول إنها تشعر بالذنب عندما تحضن أطفالها، وأخرى تقول إن الشعور بالذنب الآن غير صحي، يجب أن نحمد الله ونستمتع بنعمة الأمن والعيش والأحباب. بدا كما لو أن هذه المنشورات نتيجة محادثة سرية بينهما، محادثة لم أحضرها ولكن أسمع صداها في رأسي، كما أسمع العديد غيرها.

دأب زوجي على عدم ذكر الأخبار السيئة أمامي. أذهب لأزور عائلته فأعلم بالصدفة بمن مرض ومن توفاه الله، بينما أخفت والدتي إصابة خالي الوحيد بالسرطان. يخشيان من قدرتي على التقمص العاطفي أو الموجدة Empathy. ما إن عرفت بمرض خالي حتى توحّدت معه وهو الشاب ذو الطفلين، ومع زوجته التي استيقظت على كابوس، مع أمي التي ترى شبحاً مخيفاً يقترب من أخيها، وجدّي وابنه المفضل في هذا الوضع الصعب.

سخر والدي من موجدتي، وأخبرني أني أضيّع مشاعري ووقتي، وأنغمس في كل شيء بشكل زائد. لم أهتم بما قاله، بل اعتبرتها نعمة لا أستطيع الكتابة من دونها، فكيف أفهم قصص الناس، أو أبطال الأفلام السينمائية إن لم أتوحّد معهم؟

أخبرني عقلي لا أستطيع العيش معك

اعتدت منذ سنوات قبل النوم أن أحدّث نفسي قليلاً، بضعة كلمات مشجعة وغير محضرة مسبقاً يقولها عقلي لي، على الأغلب تتضمن: " تصبحين على خير، أنا أحبك، كوني آمنة، الغد سيكون أجمل، لقد أخطأتِ ولكن بالغد ستصلحين هذا الخطأ، ستكونين أمّاً أفضل".

بالأمس همس عقلي برسالة مختلفة: "علياء أنا أحبك، ولكن لا أستطيع العيش معكِ". بدت الرسالة كما لو أنها قادمة من الخارج وليس من داخلي، منذ متى لا أستطيع العيش مع ذاتي؟

لسنوات طويلة هيأت نفسي ليوم ما قد أفقد علاقاتي بالآخرين. تعلمت بالطريقة الصعبة أنه مهما كانت قوة علاقتك بشخص ما فهي تحمل في داخلها الهشاشة وزراً للتفجير الذاتي، فأخبرت نفسي على الدوام: "لو فقدتِ كذا لازال لديكِ نفسك". ضحّيت بالفعل بأشياء كثيرة حتى أصبح راضية عن تلك التي أنا ملتصقة بها وهي ملتصقة بي. اليوم تخبرني أنها لا تستطيع العيش معي.

اليوم أنا على الحافة، خائفة من تقمّصي. أقف أمام إناء الطهي الذي يجب وضعه في الثلاجة عاجزة، ذراعاي ضعيفتان، ثقيلتان، لا تبدوان قادرتين على حمل الوعاء. لم أتحدث مع أمي في اتصالنا المعتاد لأني سأحملها المزيد من همي، وأعلم أن غيابي يسبب لها قلقاً إضافياً. أترك هاتفي المحمول لزوجي حتى ينهي الدرس اليومي على تطبيق تعلم اللغات. أبكي على مصير بطل المسلسل التلفزيوني، وهو غير قادر على الاختيار من بين جانبي الشر أو الخير بداخله، وأبكي على نفسي وأنا لا أستطيع أن أقنع نفسي بالتبلّد، وأشعر في ذات الوقت أن الحزن لن يفيد النسوة الثكالى على أطفالهن.

على مواقع التواصل أرى مقولة ساخرة حول السبب وراء تزامن ربيع أعمارنا مع شتاء العالم. لا أضحك، بل أتساءل لماذا أعيش في زمن يغذي قلقي كأم رؤوم؟

تبدو الأيام كما لو أنها استعادة مستمرة لـ 2020، الصدمة التي تلقاها جيلي ولم يتعاف منها بعد. شلت الحياة بشكل مفاجئ، واختلّ إيقاعها، فكان علي، كأم شابة، أن أحمي عائلتي من فيروس غامض، وأتأقلم مع عشرات التغيرات، الكبيرة منها والصغيرة. في تلك السنة كان نشاطي على مواقع التواصل الاجتماعي هو الأعلى على الإطلاق، طالبت الجميع بالبقاء في المنزل بصوت عال، غضبت من كسر الحجر الصحي، تحدّثت بشكل مستمر عن كل طريقة أجدها حول الوقاية من الفيروس.

ماج في رأسي إعصار صغير ومستمر من القلق والهلع، يخرج في هيئة تعليمات وأوامر وزجاجات من الكلور المخلوط بالماء الذي رششته على كل شيء.

اليوم أواجه الأزمة الجديدة بصورة عكسية، استبدلت الصخب بالسكون الميت. لأكثر من عشر أيام لم أضع أي منشور على مواقع التواصل الاجتماعي. لم أنشر روابط مقالاتي المنشورة. لأول مرة أشعر بهذا الفراغ بداخلي، فراغ ثقيل، كما لو أنهم انتزعوا احشائي ووضعوا بدلاً منها حجارة.

اعتادت الأجيال الأكبر تعيير الشباب بأنهم جيل ضعيف، لم يقابل أي صعوبات أو مآس مشابهة لما واجهوه، فيما اسموه صراع الأجيال، وأنا اسميه جهلاً متبادلاً، ولكن تلك الفرضية لا تنطبق على جيلي. على مواقع التواصل أرى مقولة ساخرة حول السبب وراء تزامن ربيع أعمارنا مع شتاء العالم. لا أضحك، بل أتساءل لماذا أعيش في زمن يغذي قلقي كأم رؤوم؟

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

رصيف22 من أكبر المؤسسات الإعلامية في المنطقة. كتبنا في العقد الماضي، وعلى نطاق واسع، عن قضايا المرأة من مختلف الزوايا، وعن حقوق لم تنلها، وعن قيود فُرضت عليها، وعن مشاعر يُمنَع البوح بها في مجتمعاتنا، وعن عنف نفسي وجسدي تتعرض له، لمجرد قولها "لا" أحياناً. عنفٌ يطالها في الشارع كما داخل المنزل، حيث الأمان المُفترض... ونؤمن بأن بلادنا لا يمكن أن تكون حرّةً إذا كانت النساء فيها مقموعات سياسياً واجتماعياً. ولهذا، فنحن مستمرون في نقل المسكوت عنه، والتذكير يومياً بما هو مكشوف ومتجاهَل، على أملٍ بواقع أكثر عدالةً ورضا! لا تكونوا مجرد زوّار عاديين، وانزلوا عن الرصيف معنا، بل قودوا رحلتنا في إحداث الفرق. اكتبوا قصصكم، وأخبرونا بالذي يفوتنا. غيّروا، ولا تتأقلموا!.

Website by WhiteBeard