قبل مغيب الشمس، وجدت نفسي عالقة بين طريقين، أقدامي، بحذائي الأبيض الرياضي، تقف على خطوط الأبيض والأسود المخصّصة للمشاة، والعربات تمضي مسرعة عن يميني وعن يساري. لا إشارة مرور تضمن توقفاً محتملاً، ولا قدرة تعينني على مخاطرة عبور الشارع الواسع الذي يزيد اتساعه كل عام عن سابقه، ولا صحبة تمسك بيدي لحماية قائمة.
في طريقي العالق بين خطوط الأبيض والأسود، تقف بجانبي سيدة تحمل رضيعها وطفل آخر متشبّث بعباءتها السوداء، ومجموعة من الفتيات في مرحلتهن الإعدادية يحملن بعض الملخصات الدراسية، وولدان أكثر جرأة يحاولان، بمغامرة غير محسوبة، المرور بين السيارات المسرعة، وسط شتائم بعض السائقين لطيشهما الطفولي.
أتابع ببصري خطوات الولدين وسباب السائقين وتدور في عقلي فكرة واحدة، فكرة تتلخّص في التساؤل: كيف أثّر تعلّمي لقيادة السيارة منذ أعوام على قدرتي على عبور الطريق؟
التمويه يأتي حين تنضم طواعية جانب تلك الأسرة، كأنك أحد أفرادها، تنضم لتصنع مع غرباء آخرين سلسلة بشكل عرضي، أن تقبض على فردانيتك بالكامل بالغوص وسط المجموعة. لن تعبر وحيداً. لن تقف عاصفة السيارات المسرعة من أجلك.
فيما سبق لم أخف يوماً من عبور الشارع مهما بلغ اتساعه وسرعة السيارات، كنت أمرّ بين العربات كما لو كنت محصنة ضد الصدمات، وسط ذهول أصدقائي، لكن تطوراً عميقاً حدث في حواسي المرتبطة بتلك القدرة، منذ أن تبدل منظوري للطريق من مجرد عابرة إلى سائقة، منظور أدركت به أن عبور الطريق أكثر خطورة مما هو عليه في الواقع.
إدراك فتح قوس الاحتمالات داخلي: ماذا لو أن السائق شرد في لحظة عبوري الخاطفة؟ ماذا لو لم يكن ماهراً بشكل كاف ليتلافى حادث سير محتمل؟ ماذا لو أن فرامل عربته لم تسعفه ليوقفها في اللحظة المناسبة؟ ذلك الحمل المعرفي من معرفة المخاطر المحتملة زاد من تعثري في عبور الطريق للضفة الأخرى.
وإن مددنا الخط على استقامته، ربما يفسّر لي ذلك الأمر قلة إنتاجي من الكتابة في الوقت الحالي. تبدّل المنظور من مجرّد قارئة إلى كاتبة، إدراك المخاطر: ماذا لو لم يكن الفن الذي أقدمه أصيلاً؟ هل هناك فن أصيل من الأساس أم أن الفن مجرد عمل كوني مكتمل نعيد تكراره بما يتناسب مع منظورنا الشخصي؟ ما مقدار الفجوة بين عظمة الأفكار التي أملكها في مخيلتي كأفكار برّاقة، مثل نجوم ساطعة وسط صحراء قاحلة، بكل ما تحمله الجملة من سحر وغواية، وبين قدرتي المحدودة على إيقاع تلك الأفكار بين يدي بشكل مرئي.
ذلك الحمل المعرفي بسطوة جمال الأوائل من الفنانين وطريق الفن، أو كما أسميه طريق الآلام، طالما زاد من تعثري في العبور بكتاباتي للضفة الأخرى، الضفة التي تجعلها مرئية.
ولمّا كانت مشكلتي "عويصة " بمفهومها المادي والرمزي، وجدت ضالتي في تلك الخطوط، خطوط الأبيض والأسود، حيث تقف قدماي حائرة بينهما، وأرجعتهما بشكل مباشر إلى خطوط الحمار الوحشي.
في الغابة، حيث المساحات الخضراء الشاسعة، يركض قطيع من الحمر الوحشية بخطوطها المميزة بالأبيض والأسود بحثاً عن العشب والماء، تلك الخطوط شديدة التباين، تجعلها مرئية بشكل فريد بين الأخضر الممتد، وفي الوقت ذاته - رغم وضوح القطيع ككتلة واحدة- يستحيل أن تميز حماراً وحشياً بشكل فردي، الحيوان المخطط رغم سهولة تمييزه ككل يصعب تمييزه كفرد.
من ذلك المنطلق، يمكن لنا أن نكوّن ما يشبه المبدأ، أو لنقل "مبدأ عبور الحمار الوحشي" انطلاقاً من تعلم تقنية "التمويه والحماية"، أو بشكل آخر: كيف نستخدم تلك الخطوط كتمويه وكيف نعيد استخدامها كحماية؟
الحمل المعرفي بسطوة جمال الأوائل من الفنانين وطريق الفن، أو كما أسميه طريق الآلام، طالما زاد من تعثري في العبور بكتاباتي للضفة الأخرى، الضفة التي تجعلها مرئية
الحماية تأتي من التشوّش البصري الذي تواجهه الحيوانات المفترسة في الغابة والسائقون على الطريق عند رؤية خطوط الأسود والأبيض، كإشارة انتباه تستدعى البطء دون القدرة على تمييز الفرد بين الجموع، لذا الحماية تأتي في المجموعة دون الفرد، فلو أن مجموعة صغيرة قرّرت أن تعبر الطريق نحو الناحية الأخرى، سيتدعي ذلك توقفاً حتمياً للسيارات من أجل المارة، وهذا ما نراه في الشوارع المزدحمة التي لا يلتزم سائقوها بقواعد عبور المشاة، ولا يلتزم المشاة بقواعد الطريق. رأيت، ولابد أن معظمنا رأى، أسرة كبيرة يمسك أفرادها بأيديهم بتسلسل عرضي، فتذعن السيارات مرغمة على التوقف.
التمويه يأتي حين تنضم طواعية جانب تلك الأسرة، كأنك أحد أفرادها، تنضم لتصنع مع غرباء آخرين سلسلة بشكل عرضي، أن تقبض على فردانيتك بالكامل بالغوص وسط المجموعة. لن تعبر وحيداً. لن تقف عاصفة السيارات المسرعة من أجلك.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع