لم تكن المكتبات الخاصة التي كوّنها الأفراد، والمكتبات التي أنشأتها الدولة كبيت الحكمة في بغداد، والمكتبات العامة التي أوقفها أعيان المسلمين للاستخدام العام، والمكتبات الملحقة بالمدارس، هي فقط أنواع المكتبات التي عرفها العالم الإسلامي في العصور الوسطى؛ بل كانت المكتبات حاضرةً في حياة الناس تقريباً في كل نشاطات حياتهم. فقد كانت هناك مكتبات في بلاطات الحكام، وفي المساجد والجوامع وفي المستشفيات وفي الرُبُط والتكايا وخانقاهات الصوفية، وفي الترب والمقابر. نستعرض في هذا المقال، أنواعاً مختلفةً من مكتبات العالم الإسلامي، وأبرز المكتبات في كل نوع، ونحاول قدر المستطاع أن نقترب من الصورة التي كانت عليها المكتبات غير المألوفة، مثل مكتبات الرُبُط والتكايا والخانقاهات ومكتبات المستشفيات ومكتبات الترب والمقابر.
شغف ملوكي بالمكتبات
أنشأ بعض الخلفاء والأمراء والحكام والخلفاء، مكتبات في قصورهم، وكانت من أنشطة تلك المكتبات إقامة المناظرات والنقاشات وتنظيم المحاضرات العلمية. يؤكد محمد ماهر حمادة، على أنَّ هذا النوع من المكتبات، والذي يسميه "المكتبات الخلافية"، قد ازدهر "حيث ومتى وُجد خليفة أو أمير أو حاكم مُتَنَوِّر محب للعلوم والآداب راغب في الكتب وأهلها مقرّب للعلماء"، وفق ما يذكر في كتابه "المكتبات في الإسلام: نشأتها وتطورها ومصائرها".
مكتبات المساجد والجوامع من أوائل أنواع المكتبات التي ظهرت في العالم الإسلامي. فقد كانت المساجد ساحات للدراسة ابتداءً من القرن الأول الهجري/السابع الميلادي
أما شعبان خليفة، فيرى أن هذه المكتبات، التي يصفها بـ"مكتبات البلاطات"، كان ينشئها الحكام في قصورهم لاستخدامهم الشخصي فقط، وهذا ما جعل لها طابعاً خاصاً متميزاً عن المكتبات الخاصة التي أنشأها بعض خواص الناس أو مكتبات الدولة التي كانت ذات أغراض علمية بحثية بالأساس. ويحدد خليفة بداية انتشار هذا النوع من المكتبات بالقرن الثالث الهجري/ العاشر الميلادي، وتحديداً بعد انقسام الدولة الإسلامية إلى دويلات، والذي أنتج تزايداً في الطوائف والدويلات ومن ثمَّ صار لكل دويلة حاكم أو ملك عنده بلاط مما أدى إلى ازدياد تلك المكتبات البلاطية، كما يذكر في "الكتب والمكتبات في العصور الوسطى".
ومن أمثلة مكتبات البلاطات، مكتبة سلطان بخارى، نوح بن منصور الساماني (ت 428 هـ/ 1038 م). وكانت هذه المكتبة في بلاد خراسان، بعد أن انشق السامانيون وكوّنوا دولتهم الخاصة في بلاد ما وراء النهر. وذات مرة لما مرض السلطان نوح بن منصور، ذكروا له الطبيب الشهير ابن سينا، واقترحوا إحضاره ليطببه، فحضر ابن سينا وفي أثناء زيارته لمعالجة السلطان، رأى هذه المكتبة ووصفها كما ذكر ذلك ابن أبي أصيبعة في كتابه "عيون الأنباء في طبقات الأطباء".
يحكي ابن سينا قصةَ زيارته للسلطان مشتملةً على زيارته للمكتبة: "وكان سلطان بخارى في ذلك الوقت نوح بن منصور، واتفق له مرض اتَّلَجَ الأطباء فيه، وكان اسمي اشتهر بينهم بالتوفر على القراءة. فأجروا ذكري بين يديه، وسألوه إحضاري، فحضرت وشاركتهم في مداواته وتوسمت بخدمته، فسألته يوماً الإذن لي في دخول دار كتبهم ومطالعتها وقراءة ما فيها من كتب الطب. فأذن لي، فدخلت داراً ذات بيوت كثيرة، في كل بيت صناديق ذات كتب منضدة بعضها على بعض، في بيت منها كتب العربية والشعر، وفي آخر كتب الفقه وكذلك في كل بيت علم مفرد".
ويستطرد ابن سينا قصة وقوعه على هذا الكنز المعرفي الثمين، وكيف استغله ليروي عطشه المعرفي: "فطالعت فهرس كتب الأوائل وطلبت ما احتجت إليه منها. ورأيت من الكتب ما لم يقع اسمه إلى كثير من الناس قط، وما كنت رأيته من قبل ولا رأيته أيضاً من بعد. فقرأت تلك الكتب وظفرت بفوائدها، وعرفت مرتبة كل رجل في علمه"، كما ذُكر في "عيون الأنباء في طبقات الأطباء"، تحقيق نزار رضا.
كتب للدين وللدنيا في المساجد
مكتبات المساجد والجوامع من أوائل أنواع المكتبات التي ظهرت في العالم الإسلامي. فقد كانت المساجد ساحات للدراسة ابتداءً من القرن الأول الهجري/السابع الميلادي، وبطبيعة الحال فإن العملية التعليمية تشتمل على الكتب والمكتبات. وبطبيعة الحال فإنَّ المصاحف القرآنية وكتب الحديث وكتب الفقه، تأتي في مقدمة الكتب المقتناة في مكتبات المساجد، إلا أن الأمر لم يقتصر فقط على الكتب الدينية، بل كانت العلوم الدنيوية من الفلسفة والكيمياء والفلك حاضرةً في مقتنيات تلك المكتبات، فكانت كل العلوم تُدرَّس في المساجد ما عدا الطب، كما يذكر ماكس مايرهوف في "العلوم والطب".
ثمة مساجد كثيرة تطورت وأصبحت مراكز فكريةً وتعليميةً اجتذبت إليها الطلاب من كل الجنسيات والديانات، فجامع طليطلة مثلاً كان ذا شهرة واسعة، واجتذب ليس فقط طلاباً مسلمين بل طلاباً مسيحيين من أوروبا، كما جاء في "تاريخ الفلسفة في الإسلام".
ومن مكتبات المساجد المبكرة، مكتبة الجامع الأموي في دمشق، إذ بدأ اقتناء خزائن الكتب فيه تدريجياً ابتداءً من نهاية القرن الأول الهجري/السابع الميلادي، وانتعشت هذه الخزائن بعد أن أقرَّ الفقهاء بجواز وقف الكتب؛ فتبارى الناس في وقف الكتب على المساجد، ابتغاء الأجر والثواب من الله. والجامع الأزهر هو كذلك من أقدم المساجد الإسلامية التي أُلحقت بها مكتبات في العالم الإسلامي، ولا تزال مقتنيات مكتبة الجامع الأزهر موجودةً إلى الآن.
المستشفيات أيضاً فيها مكتبات
اهتم الحكام المسلمون بإنشاء المستشفيات لتقديم الرعاية الطبية اللازمة للمرضى. ويتردد في المصادر أنًّ الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك، أمر بعزل المجذومين في مكان خاص بهم، وتقديم الرعاية اللازمة لهم، وأنه أيضاً عيَّن لكل كفيف شخصاً يصطحبه ويدلّه على الطريق.
ومع اتساع رقعة العمران في العالم الإسلامي، كان إنشاء المستشفيات (التي استعير لها من الفارسية لفظ البيمارستانات والذي يعني بيوت المرضى)، ضرورةً عمرانيةً. وكانت هذه المستشفيات تحتوي على مدارس لتعليم الطب والعكس أيضاً كان واقعاً، فكانت هناك مدارس للطب تُلحق بها مستشفيات.
بلغ اهتمام المسلمين بالكتب، أنهم جعلوها متاحةً للناس حتى في الترب والمقابر. فقد جرت العادة أن يُلحق بقبور وجهاء القوم من أغنياء وملوك وأمراء، مكان لقراءة القرآن وهذا المكان كان يحتوي على مكتبة صغيرة فيها كتب دينية.
فكان بيمارستان أحمد بن طولون، الذي أنشئ في القاهرة في القرن الثالث الهجري/التاسع الميلادي، وتحديداً سنة 259 هـ، يشتمل على مدرسة لتعليم الطب، ولأغراض التعليم الطبي، فقد ألحقت بهذا البيمارستان مكتبة هائلة زاد عدد مقتنياتها عن مئة ألف مجلد. ولم تكن كل هذه المجلدات في مجال الطب فقط، بل كانت في فروعٍ معرفية أخرى أيضاً. وفي القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي، كان المستشفى الذي شيّده عضد الدولة البويهي (تـ 983 م)، في بغداد، والذي عُرف باسم البيمارستان العضدي، وقد ألحقت به مكتبة أيضاً.
وفي القرن السادس الهجري، كان البيمارستان النوري الذي أسسه نور الدين محمود بن زنكي، المعروف بنور الدين الشهيد (تـ569 هـ/ 1174 م)، الذي كان يحكم بعض المناطق في العراق ومصر وسوريا. ولكون هذا المستشفى تعليمياً فقد أُلحقت به مكتبتان كبيرتان حظيتا باهتمام نور الدين زنكي شخصياً، إلى درجة أنه كان يزور المستشفى ويجتمع إلى الأطباء والطلبة، ويشهد التباحث والقراءة في الأمور الطبية بنفسه، كما ذكر في "الدارس في تاريخ المدارس".
وفي القاهرة في القرن السابع الهجري/ الثالث عشر الميلادي، كان البيمارستان المنصوري، نسبةً إلى الملك المنصور قلاوون الصالحي (تـ689 هـ/ 1290 م). حوى هذا المستشفى مكتبةً عظيمةً قيل إنَّ ابن النفيس (تـ687 هـ)، الطبيب الشهير (والذي انتهت إليه رئاسة الطب في زمانه)، قد أوقف كتبه وداره عليه. ولم تكن المكتبة الملحقة تقتني كتب الطب فحسب، بل أيضاً نسخاً من القرآن وكتب التفسير والحديث والفقه (بن شاكر الكتبي، وفقاً لـ "عيون التواريخ".
الكتاب معك حتى في الترب والمقابر
بلغ اهتمام المسلمين بالكتب، أنهم جعلوها متاحةً للناس حتى في الترب والمقابر. فقد جرت العادة أن يُلحق بقبور وجهاء القوم من أغنياء وملوك وأمراء، مكان لقراءة القرآن وهذا المكان كان يحتوي على مكتبة صغيرة فيها كتب دينية، وبعض هذه المكتبات بلغ حداً من الفخامة وفقاً لـ"المكتبات في الإسلام: نشأتها وتطورها ومصائرها".
وتدخل في هذا النوع من المكتبات أيضاً، المكتبات التي تُلحق بالمشاهد (الأضرحة). ولأن بعض الناس كانوا يقضون وقتاً في هذه المشاهد للاتعاظ، فإنها كانت تُزوّد بمكتبات لمن يرغب في القراءة. وبعض هذه المشاهد ملحق بجوامع، وتالياً كانت المكتبة متاحةً للاستخدام من قبل من يؤمّ الجامع أيضاً، كما ذكر في "الكتب والمكتبات في العصور الوسطى".
ومن مكتبات الترب نذكر المكتبة الملحقة بتربة الملك الأشرف موسى بن السلطان الملك العادل (تـ635 هـ/ 1237 م)، وهي التربة التي تقع شمال الكلاسة في دمشق، وتسمى المكتبة الملحقة بهذه التربة الخزانة الأشرفية أو خزانة التربة الأشرفية، وفقاً لكتاب "الدارس في تاريخ المدارس". وما زال فهرس هذه المكتبة موجوداً ومحفوظاً في مكتبة الفاتح في إسطنبول، وقد نشر صديقنا الدكتور سعيد الجوماني، بحثاً مهماً عن هذا الفهرس متناولاً إياه بتحليل عناصره وبنائه.
الرُبُط وخانقاهات الصوفية والتكايا تتيح المعرفة لمرتاديها
كانت الرُبُط (مفردها رباط)، في الدولة الإسلامية، مؤسسات لرعاية الفقراء والغرباء وعابري السبيل، فتعمل على حمايتهم من التشرد وتوفير احتياجاتهم المعيشية، وهي تشبه الخانقاهات التي أنشئت لإيواء المتصوفة. وفي هذه الرُبط أنشئت المكتبات حتى تتاح الفرصة لمرتاديها أن يكونوا على اتصال بالمعرفة. ومن أشهر هذه الربُط الرباط الطاهري في بغداد، والذي أنشأه الخليفة العباسي الناصر لدين الله سنة 589 هـ، في منطقة الحريم الطاهري غرب بغداد.
وذكر الأشرف الغساني في كتابه "العسجد المسبوك"، أن هذا الرباط "كان من أحسن الرُبُط"، وذكر أيضاً في كتاب "المكتبات في الإسلام: نشأتها وتطورها ومصائرها" أنه نُقلت إليه كتب كثيرة. ويعتقد يحيى محمود الساعاتي، أنَّ الخليفة الناصر لدين الله، الذي كان محبّاً للمكتبات ومغرماً بالكتب، هو أول من أشاع ظاهرة مكتبة الرباط، واقتدى به الناس بعده حتى انتشر هذا النوع من المكتبات وأصبحت مقصداً حتى من قِبل العلماء، وفقاً لـ "الوقف وبنية المكتبة العربية".
إتاحة المعرفة كانت تتم على نطاق واسع في بلاد الإسلام في العصور الوسطى، وذلك استجابةً للرغبة في إشباع شغف المعرفة آنذاك إلى درجة أن وصل الأمر لتكون الكتب متاحةً في المقابر
وأُلحقت المكتبات بخانقاهات الصوفية أيضاً، ومن الخانقاهات الشهيرة التي كانت كذلك الخانقاه السميساطية في دمشق، والتي أوقف عليها أبو سعيد البندهي اللغوي والفقيه الشافعي (تـ584 هـ)، كتباً كثيرةً. ويحكي لنا ياقوت الحموي، عن قصة هذا الوقف: وكان أبو سعيد البندهي قد "ورد بغداد ثم الشام وحصل له سوق نافقة (أي رائجة)، وقبول تام عند صلاح الدين بن أيوب، وأقبلت عليه الدنيا فحصَّل كتباً لم تحصَّل لغيره ووقفها بخانقاه السيمساطي، وأكثرها من كتب خزانة حلب التي أباح له السلطان صلاح الدين أن يأخذ منها ما شاء"، كما ذكر في "معجم الأدباء".
وحول الفرق بين الرباط والخانقاه، يقول شعبان خليفة: "إن الرباط كان أقرب ما يكون للتكية منه للخانقاه، فالرباط فيه إقامة كاملة بينما التكية تكون الإقامة فيها محدودةً وربما لعابري السبيل حيث يقدّم لهم المأكل والمشرب والمأوى لفترات محددة بينما الرباط تكون فيه الإقامة مستمرةً". ويضيف خليفة: "وكانت بعض التكايا رغم ذلك توقف عليها الكتب أيضاً وثبت لدينا أنه كانت هناك مكتبات في بعض التكايا رغم محدودية الإقامة فيها. وأحسن نموذج على مكتبات التكايا، مكتبة تكية عبد الغني في حلب". ويوضح خليفة "أن الخانقاوات كانت أحوج إلى مجموعات الكتب أكثر من حاجة الرباطات إليها لأنَّ الصوفية كانت صلتهم بالعلم أكثر من صلة أصحاب الرباطات"، كما جاء في "الكتب والمكتبات في العصور الوسطى".
ونخلص من كل ما سبق إلى أن إتاحة المعرفة كانت تتم على نطاق واسع في بلاد الإسلام في العصور الوسطى، وذلك استجابةً للرغبة في إشباع شغف المعرفة آنذاك إلى درجة أن وصل الأمر لتكون الكتب متاحةً في المقابر. بل وصل الشغف بالكتب أن كانت تُصطحب منها كميات ضخمة عند السفر. فقد "حُكي عن الصاحب بن عباد أنه كان في أسفاره وتنقلاته يصطحب حمل ثلاثين جملاً من كتب الأدب ليطالعها"، كما جاء في "وفيات الأعيان". ويُشبه محمد ماهر حمادة هذه الحالة بالمكتبات المتنقلة في وقتنا الحاضر، كما ذكر في "المكتبات في الإسلام: نشأتها وتطورها ومصائرها".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع