شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
كتب نُسبت إلى غير كتّابها... ظاهرة

كتب نُسبت إلى غير كتّابها... ظاهرة "الانتحال" في التراث العربي

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والتاريخ نحن والحقيقة

الثلاثاء 7 نوفمبر 202301:20 م

نلاحظ في عالمنا المعاصر، قيام البعض بالسطو على جهد الآخرين الفكري، ونسبه إلى أنفسهم، وهو ما يقولون له بالإنكليزية plagiarism، وهو ما تُجرّمه القوانين والأعراف الأكاديمية في العالم شرقاً وغرباً. وهناك أيضاً من يؤلِّف كتاباً أو مقالاً ولكنه ينسبه في النهاية إلى آخرين بموافقته، مقابل مبلغ من المال. هاتان ظاهرتان قديمتان في التراث الإنساني منذ أقدم العصور في مصر القديمة، وفي العراق القديم، وكذلك في اليونان وإمبراطورية الرومان، كما يبين شعبان خليفة في كتابه "الكتب والمكتبات في العصور الوسطى: الشرق المسلم، الشرق الأقصى".

أما في التراث العربي، فالظاهرة الأولى تُسمَّى الانتحال، والثانية تُسمَّى النِّحلة. في هذا المقال نتتبع هاتين الظاهرتين في التراث العربي الإسلامي.

"من نحل أو انتحل عليه غضب الله وفوادح بلاياه"

الانتحال هو أن يقوم شخص بالسطو الفكري على كتاب شخص آخر، وينسبه إلى نفسه، وكأنه هو الذي كتبه من بنات أفكاره، وهذا يسمى أيضاً بالسرقة الفكرية أو السرقة الأدبية. وعكْس الانتحال ما يُعرف بالنِّحلة، وهو أن يقوم صاحب الكتاب بتأليفه ونسبته إلى غيره طواعيةً أو مُكرهاً.

نلاحظ في عالمنا المعاصر، قيام البعض بالسطو على جهد الآخرين الفكري، ونسبه إلى أنفسهم، وهناك أيضاً من يؤلِّف كتاباً أو مقالاً ولكنه ينسبه في النهاية إلى آخرين بموافقته، مقابل مبلغ من المال.  في التراث العربي، تسمّى الظاهرة الأولى الانتحال، والثانية تُسمَّى النِّحلة

وكانت هاتان الظاهرتان موجودتين في القرن الرابع الهجري/العاشر الميلادي، مما اضطر أبا الحسن المسعودي (ت. 364 هـ/ 957م)، إلى أن يصبّ لعناته في خاتمة كتابه "مروج الذهب ومعادن الجوهر" على من يفعل ذلك مع كتابه: "قد ذكرنا في ما سلف من هذا الكتاب، أنواعاً من الأخبار، وفنوناً من العلم... فمن حرَّف شيئاً من معنى هذا الكتاب، أو أزال ركناً من مبناه، أو طمس واضحةً من معانيه، أو لبَّسَ شاهرةً من تراجمه، أو غيَّره، أو بدَّله، أو انتحله، أو اختصره، أو نسبه إلى غيرنا، أو أضافه إلى سوانا، أو أسقط منه ذكرنا، فوافاه من غضب الله وسرعة نقمته وفوادح بلاياه ما يعجز عنه صَبْرُه، ويحار له فكره، وجعله الله مُثْلَةً للعالمين، وعِبْرةً للمُعْتَبرين، وآية للمُتَوَسِّمين (أي المُعْتَبِرين)، وسلبه الله ما أعطاه، وحال بينه وبين ما أنعم به عليه من قوة ونعمة مُبْدِعُ السموات والأرض، من أي الملل كان أو الآراء، إنه على كل شيء قدير".

ويبدو من كلام المسعودي أنه عانى مرارة السطو على أعماله. كما يبدو أن سرقة جهد الآخرين، لم تكن وحدها هي الظاهرة التي كانت فاشيةً، بل كذلك تحريف أو تشويه الأعمال كان منتشراً، كما يدل على ذلك كلام المسعودي.

جودة التناول وكثرة الإغارة

ذكر محمد ابن اسحاق النديم، في كتابه "الفهرست" في الفن الثاني من المقالة الثالثة، كاتباً يُدعى "سعيد بن حميد ويكنَّى أبا عثمان"، وكان كاتباً وشاعراً ومترسِّلاً، ووصفه النديم بأنَّه "مُقدَّمٌ في صناعته، جيد التناول للسرقة كثير الإغارة". وعبارة ابن النديم هذه تدل على أن سعيد بن حميد، كان ماهراً في سطوه الكثير على جهود الآخرين، كما هو شأن الكثير من الكتَّاب والأكاديميين في زماننا.

ويضيف ابن النديم: "لو قيل لكلام سعيد وشعره ارجع إلى أهلك لما بقي منه شيء". يؤكد النديم هنا على ضخامة ما سُرق من جهود الآخرين. ويذكر ابن النديم في "الفهرست"، في الفن الثالث من المقالة الثالثة، ترجمةً لأبي بكر محمد بن يحيى الصولي، ويصفه بأنه "من الأدباء الظرفاء والجمَّاعين للكتب". وعندما استعرض ابن النديم مؤلفات الصولي، ذكر أن من كُتبه "أخبار سُدَيْف ومُختار شعره".

ظاهرة سرقة المحتوى الفكري لم تكن فقط في تاريخ التأليف العربي المبكر، بل يمكن تتبع هذه الظاهرة في الفترة العثمانية أيضاً.

ويضيف: "وهذا الكتاب عوَّلَ (أي الصولي) في تأليفه على كتاب المَرْثَدِيّ في 'الشعر والشعراء'، بل نقله نقلاً وانتحله". ونفهم من ابن النديم، أن الأمر ليس مجرد اقتباس جزء من الكتاب، بل سطو على أغلب الكتاب. ويقدّم لنا شهادته على هذه الواقعة: "وقد رأيت دستور الرَّجل (أي مسوَّدة كتاب المَرْثَدِيّ)، خَرَجَ من خزانة الصولي، فافتُضحَ به". أي أن ابن النديم قد رأى مسوَّدة كتاب المَرْثَدِيّ الذي سطا عليه الصولي عند الصولي في مكتبته.

وفي المقالة ذاتها، يُترجم ابن النديم لابن الفقيه الهمذاني، ترجمةً لا نستفيد منها كثيراً عنه: "واسمه أحمد بن محمد، من أهل الأدب لا نعرف من أمره أكثر من هذا". ثم يبيّن ابن النديم أنَّ ابن الفقيه الهمذاني، ألَّف كتاباً اسمه "كتاب البلدان". وقد رأى ابن النديم هذا الكتاب لأنه يصفه بأن عدد كلماته "نحو ألف كلمة".

كما يبدو أن ابن النديم -الذي كان ورَّاقاً يعرف الكتب جيداً- فحص هذا الكتاب جيداً، وتبين له أنه مسروق. يتهم ابن النديم الهمذاني بسرقة "كتاب البلدان"، ويصف ذلك بعبارة شديدة اللهجة بأنه "أخذه من كُتُبِ الناس وسلخ كتاب الجَيْهَاني". كتاب الجَيْهَاني هذا اسمه كتاب "ذكر الشعراء المُحْدَثين والبُلغاء منهم والمُفحمين"، كما أوضح ابن النديم في "الفهرست".

هل سُرق "مفتاح السعادة"؟

والحقيقة أن ظاهرة سرقة المحتوى الفكري لم تكن فقط في تاريخ التأليف العربي المبكر، والتي سردنا حوادث لها من خلال ابن النديم في فهرسه، وهو مصدر مهم في ظواهر التأليف والكتابة في تلك الفترة المبكرة، بل يمكن تتبع هذه الظاهرة في الفترة العثمانية أيضاً.

يقال إن كتاب "مفتاح السعادة ومصباح السيادة"، تأليف طاش كبري زادة، قد سرقه مؤلفه من كتاب آخر. ويبيّن أحمد زكي باشا (ت. 1934) في كتابه موسوعات العلوم العربية، أنَّه رأى كتاباً اسمه "مدينة العلوم"، لمؤلف اسمه الأرنيقي، ولاحظ تشابهاً بينه وبين "مفتاح السعادة"، وعندما بحث في مخطوطات دار الكتب المصرية (كان اسمها الكتبخانة الخديوية عندما قام أحمد زكي ببحثه)، وجد أن الكتابين يتشابهان إلى حد كبير مع وجود اختلافات طفيفة جداً بينهما لا تكاد تُرى.

لذا فإن أحمد زكي باشا، يرى أنه "ربما يكون طاش كبري زاده، قد سطا على كتاب مدينة العلوم للأرنيقي ونسبه لنفسه"، كما جاء في "الكتب والمكتبات في العصور الوسطى" لشعبان خليفة.

نحلوه إياها

في سياق كلامه عن أسباب ظاهرة التأليف للغير في العالم الإسلامي في العصور الوسطى، يوضح شعبان خليفة أنَّ أسبابها متعددة: قد تكون ماديةً ماليةً، كأن يؤلِّفَ مؤلفٌ ما كتاباً ما وينحله لشخص (أي ينسبه له وكأنه هو مؤلفه)، طمعاً في مال يُتَّفَقُ عليه وقد تكون الأسباب دينيةً مذهبيةً كأن يؤلف أعضاء المذهب كتباً وينحلونها زعيم المذهب تبرُّكاً أو سطوة، وقد تكون الأسباب سياسيةً فقد يتقرب بعض المؤلفين إلى الحاكم فينحلونه كتباً يؤلفونها له ليلطع (أي يضع) عليها اسمه.

وقد تكون الأسباب اجتماعيةً كأن يخاف المؤلف المجتمع فينسب كتابه إلى شخص آخر وهو الأمر الذي استعضنا عنه في الوقت الحاضر بالاسم المستعار والعبارة المتخذة. وقد تكون الأسباب نفسيةً كأن يريد شخص مغمور أن يشتهر فيؤلف كتباً وربما قصائد وينسبها إلى مؤلف راسخ أو شاعر ذي مكانة وعندما يتداول الناس عمله على هذا الوضع يشعر بسعادة نفسية غامرة"، وفقاً لما يذكر شعبان خليفة.

كُتُب نُسِبَتْ إلى جابر بن حيان وإسحاق الموصلي ولم يؤلفاها

يذكر ابن النديم في أثناء ترجمته لجابر بن حيان (مج 2، ص 452): "وقال جماعة من أهل العلم وأكابر الورَّاقين: إن هذا الرجل -يعني جابراً- لا أصل له ولا حقيقة، وبعضهم قال إنه ما صنَّف، وإن كان له حقيقة إلا 'كتاب الرحمة'، وإن هذه المصنفات صَنَّفَها الناس ونحلوه إياها" (أي نسبوها إليه).

في سياق كلامه عن أسباب ظاهرة التأليف للغير في العالم الإسلامي في العصور الوسطى، يوضح شعبان خليفة في كتابه "الكتب والمكتبات في العصور الوسطى: الشرق المسلم، الشرق الأقصى" أنَّ أسبابها متعددة: قد تكون ماديةً ماليةً، دينيةً مذهبيةً، سياسيةً، اجتماعيةً، أو نفسيةً

وبغض النظر عن صحة ما قيل عن أن الناس نسبوا كتباً إلى جابر، إلا أن هذا الكلام في حد ذاته يشير إلى وجود هذه الظاهرة، وإن لم تكن حقيقيةً في حالة جابر بن حيان. وقيل أيضاً إن كتاب "الأغاني الكبير"، منحول لإسحاق الموصلي وليس من تأليفه.

يروي ابن النديم عن حمَّاد بن إسحاق الموصلي قوله: "ما ألَّف أبي هذا الكتاب قطَّ -يعني كتاب الأغاني الكبير- ولا رآه... وإنما وضعه ورَّاقٌ كان لأبي بعد وفاته". وذكر ابن النديم أن شخصاً يُدعى "جحْظة"، أخبره عن هذا الورَّاق الذي وضع كتاب "الأغاني الكبير" المنسوب إلى إسحاق الموصلي، وكان يُسمى سِنْديّ بن عليّ، وأن حانوته في طاث الزِّبْل، و"كان يورِّق (أي يكتب ويبيع الكٌتب) لإسحاق الموصلي.

لن أبيع فكري بالمال

وقد رفض ياقوت الحموي (ت. 626هـ/ 1229م)، نسبة كتابه إلى غيره مقابل مال: "واعلم أنني لو أُعطيتُ حُمْرَ النَّعَم وَسُودَها، ومقانب (المقانب جمع مقنب وهو جماعة الخيل) الملوك وبنودها، لما سرَّني أن يُنْسَبَ هذا الكتابُ إلى سواي، وأنْ يفوزَ بقَصَبِ سَبْقِهِ إلاي، لما قاسيت في تحصيله من المشقة وطويت في تكميله من طول الشّقة". رفضُ ياقوت لأن ينُسب كتابه إلى غيره يدلنا على أن الظاهرة كانت موجودةً في زمانه، كما جاء في "معجم الأدباء"، تحقيق إحسان عباس.

في هذا المقال استعرضنا ظاهرة سرقة المحتوى الفكري من الآخرين، ونسبته إلى النفس أو صناعة محتوى فكري ونسبته إلى آخر، وتتبعنا وحللنا بعض الحالات لكل من الظاهرتين في التراث العربي الإسلامي. وغني عن القول أن وجود هذه الظاهرة في التراث العربي الإسلامي لا يُسيء إلى هذا التراث، فهو في النهاية تراث بشري فيه ما عند كل البشر من نقص بشري. 

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ألم يحن الوقت لتأديب الخدائع الكبرى؟

لا مكان للكلل أو الملل في رصيف22، إذ لا نتوانى البتّة في إسقاط القناع عن الأقاويل التّي يروّج لها أهل السّلطة وأنصارهم. معاً، يمكننا دحض الأكاذيب من دون خشية وخلق مجتمعٍ يتطلّع إلى الشفافيّة والوضوح كركيزةٍ لمبادئه وأفكاره. 

Website by WhiteBeard