هناك فيديو للرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر (1918-1970)، الذي حكم مصر في الفترة ما بين 1956 إلى 1970، يظهر فيه وهو يروي محادثته التي أجراها مع زعيم جماعة الإخوان المسلمين المصرية، حيث طلب الأخير منه أن يفرض الحجاب على النساء في مصر. لكن عبد الناصر يشير إلى أن ابنة زعيم الإخوان المسلمين نفسه، لا ترتدي الحجاب وهي تدرس في جامعة الطب، ثم يسأله كيف يمكن أن تطلب منّي فرضَ الحجاب على عشرة ملايين سيدة مصرية، وأنت لا يمكنك إجبار ابنتك على ارتداء الحجاب؟
ويتابع الرئيس المصري كلمته ساخراً، ويؤكد أنه لا يريد أن يكون مثل الحاكم بأمر الله الذي منع خروج الناس نهاراً، ولم يسمح لهم الخروج إلا ليلاً. ولكن من هو الحاكم بأمر الله، وهل كان يمنع حركة الناس في النهار فعلاً؟
الفاطميون في مصر
ربما تعود بداية وجود الشيعة في مصر إلى زمن دخول المسلمين لمصر، إذ كان أتباع الإمام الأول لدى الشيعة علي بن أبي طالب، ومنهم أبو ذر الغفاري وأبو أيوب الأنصاري والمقداد بن أسود، مشاركين في دخول مصر. كما استقر عمار ياسر أيضاً فيها بعد فتحها، وتحديداً في عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان. لكن الشيعة اكتسبوا القوة السياسية في مصر، بعد تأسيس الخلافة الفاطمية.
تأسست الخلافة الفاطمية في تونس شمال إفريقيا، عام 909 م، وسرعان ما امتدت إلى إيطاليا ومصر وفلسطين وسوريا، حيث بلغت ذروة قوتها في عهد الخليفة الفاطمي الثامن المستنصر بالله الفاطمي.
منذ بداية عهد الحاكم بأمر الله، فُرضت إجراءات صارمة على اليهود والنصارى في مصر؛ من بين هذه الأمور يمكن ذكر منعهما من ركوب الخيل، وأمر المسيحيين بتعليق صليب ثقيل حول أعناقهم، كما أجبر اليهود على تعليق أنيار خشبية ثقيلة في أعناقهم
الفاطميون طائفة شيعية، حكموا الأراضي الغربية للعالم الإسلامي، وكانوا يُعرفون أيضاً باسم العُبيديين، وتعود هذه التسمية إلى مؤسس هذه السلالة، عبيد الله المهدي الذي شكل أول حكومة شيعية في تونس بمساعدة أبي عبد الله الشيعي.
كما تُعدّ العاصمة المصرية القاهرة، من أولى الأعمال البنائية للفاطميين في مصر، وبتشييد القاهرة جعل الفاطميون هذه المدينة عاصمةً لهم، وعلى الرغم من أن الفاطميين تركوا وراءهم تاريخاً مضطرباً، إلا أن ما يُذكر عنهم هو اهتمامهم بالفن والثقافة. وإلى جانب هذا الاهتمام، حدثت أيضاً أحداث غريبة في تاريخ الفاطميين.
من هذه الأحداث الغريبة، يمكن ذكر أغربها وهي التي حدثت في فترة حكم سادس الخلفاء الفاطميين الحاكم بأمر الله، وربما هو الخليفة الأكثر إثارةً للجدل في تاريخ الفاطميين. هو أول خليفة فاطمي وُلد في مصر، وكما يقول جمال عبد الناصر، هو الذي أمر جميع المحال التجارية بإغلاق أعمالها نهاراً والعمل ليلاً فقط؛ كما أنه لم يسمح لأهل مصر بالخروج من منازلهم نهاراً.
لكن هذا كان مجرد حكم من أحكامه الغريبة، فإنه قد منع النساء من الاغتسال أيضاً، ومنعهن من الخروج من المنزل، وحظر خياطة الأحذية للنساء، ومنع طبخ وتناول الطعام المحبب لمعاوية ولعائشة، ومنع بيع وشراء النبيذ والخمر، وطرد المغنّين من المدن المصرية، وحظر بيع العنب، وأمر بقتل جميع الكلاب الضالة في القاهرة، وهذه كانت من أكثر قراراته إثارةً للجدل خلال فترة خلافته.
يتحدث المحدث والمؤرخ البغدادي ابن الجوزي، الذي يعود نسبه إلى أبي بكر، أول الخلفاء الراشدين، في كتابه "المنتظم في تاريخ الملوك والأمم"، عن فترة من عهد الحاكم بأمر الله، حيث يروي بعض أوامره كالتالي:
"وفي جمادى الآخر: ورد الخبر بأن الحاكم في مصر، حظر النساء من الخروج من منازلهن والاطلاع من سطوحهن ودخول الحمامات، ومنع الأساكفة من عمل الخفاف لهن، وقتل عدة نسوة خالفن أمره في ذلك، وكان الحاكم قد لهج بالركوب بالليل يطوف الأسواق، ورتب في كل درب أصحاب أخبار يطالعونه بما يعرفونه، ورتبوا لهم عجائز يدخلن الدور ويرفعن إليهم أخبار النساء، وأن فلاناً يحب فلانة وفلانة تحب فلاناً، وأن تلك تجتمع مع صديقها، وهذا مع صاحبته، فكان أصحاب الأخبار يرفعون إليه ذلك، فينفذ من يقبض على المرأة التي سمع عنها مثل ذلك، فإذا اجتمع عنده جماعة منهن أمر بتغريقهن، فافتضح الناس وضجوا من ذلك".
وُلد الحاكم بأمر الله، عام 985م في القاهرة، لأب فاطمي وأم مسيحية. اختاره والده العزيز بالله، ولياً للعهد عام 993، وبعد وفاة والده تولى الخلافة وهو في الثانية عشرة من عمره وحكم أكثر من 25 عاماً، إذ كان عهده مليئاً بالأوامر والأحكام الغريبة والمتناقضة.
ومنذ بداية خلافته، عندما كان لا يزال صغيراً، فوّض صلاحياته إلى أحد كبار قبيلة الكتامة حسن بن عمار، حيث لقبه بأمين الدولة، ولكن استيلاء أمين الدولة على السلطة أدى إلى استياء القبائل العربية الأخرى، واندلعت حرب أهلية في مصر، انتصرت خلالها قبيلة المشارقة على قبيلة الكتامة، ونهبت منازلهم.
كما فر الوزير الحاكم إلى الحاكم بأمر الله، وقُتل أخيراً بعد ثلاث سنوات، بعد ذلك أعطى الحاكم بأمر الله السلطة إلى معلمه برجوان، وجعل برجوان الحكومة الفاطمية قويةً جداً، إلى درجة أنها هزمت جيش قيصر الروم، لكن الناس المحيطين بالحاكم، وتّروا علاقات الحاكم الشاب مع وزيره القوي، حتى أصدر حكماً بقتل برجوان، وبعد ذلك تولى الحاكم بأمر الله زمام أمور الدولة، وبدأ يصدر أوامر غريبةً.
تصرفات الحاكم الغريبة
منذ بداية عهد الحاكم بأمر الله، فُرضت إجراءات صارمة على اليهود والنصارى في مصر؛ ومن بين هذه الأمور يمكن ذكر منعهما من ركوب الخيل، وأمر المسيحيين بتعليق صليب ثقيل حول أعناقهم، كما أجبر اليهود على تعليق أنيار خشبية ثقيلة في أعناقهم.
ودمّر الأديرة والمعابد اليهودية والكنائس في مصر، وصادر جميع ممتلكات غير المسلمين، وأثارت أفعاله ضد المسيحيين المصريين غضب الحاكم الروماني الشرقي، ونتيجةً لذلك مزق الحاكم الروماني معاهدة السلام مع الفاطميين، وقطع كل التجارة بين روما الشرقية والفاطميين.
كانت قرارات الخليفة فوريةً وبعيدةً عن المنطق، حيث هناك الكثير من الأدلة التي تتحدث عن خلل في القوى العقلية لدى الحاكم بأمر الله؛ على سبيل المثال: قام بتدمير دير حين كان في حالة من الغضب، ثم عندما هدأ غضبه ذهب لرؤية المسيحيين واليهود ليطلب السماح منهم.
ومن غرائب أفعاله وأوامره إجبار أهل مصر على سبّ أصحاب نبي الإسلام، ثم كان يرجع عن أمره هذا بعد فترة وجيزة، ويمنع سبّ الصحابة، من ثم يرجع عن قراره ويأمر الناس من جديد بالسب. حول هذا الأمر يكتب عن ذلك القاضي والمؤرخ والفقيه والكاتب والمؤرخ الديني الكردي ابن خلكان، في المجلد الخامس من كتابه "وفيات الأعيان": "سيرته من أعجب السير، يخترع كل وقت أحكاماً يحمل الناس على العمل بها، منها أنه أمر الناس في سنة خمس وتسعين وثلثمائة بكتب سب الصحابة رضوان الله عليهم في حيطان المساجد والقياسر والشوارع، وكتب إلى سائر عمال الديار المصرية يأمرهم بالسب، ثم أمر بقطع ذلك ونهى عنه وعن فعله في سنة سبع وتسعين، ثم تقدم بعد ذلك بمدة يسيرة بضرب من يسب الصحابة وتأديبه ثم يشهره".
يذكر المؤرخ نور الدين السمهودي، في كتابه "وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى" : "أراد نقل أجساد آل البيت إلى مصر، وكلف بذلك أبا الفتوح الحسن بن جعفر، فلم يـُوَفـَّق بعد أن جاءت ريح شديدة تدرحجت من قوتها الإبل والخيل، وهلك معها خلق من الناس، فكانت رادعاً لأبي الفتوح عن نبش القبور وانشرح صدره لذلك، واعتذر للحاكم بأمر الله بالريح، وحاول مرة أخرى وأرسل من ينبش قبر النبي فسكن داراً بجوار المسجد وحفر تحت الأرض فرأى الناس أنواراً وسُمع صائح يقول: أيها الناس إن نبيكم يُنبش ففتش الناس فوجدوهم وقتلوهم".
لكن تصرفات الحاكم الغريبة والمتناقضة لم تقتصر على هذا فحسب، بل كان يتحول إلى حاكم متواضع، عندما كان يمتطي حماراً ويتجول بين الناس وفي الشوارع والأسواق ويمنع الآخرين من تقبيل يده، وأحياناً كان يركب الحمار ويذهب إلى الجبال وحده ليصلي منفرداً، وأحياناً كان يصبح متكبراً جداً ويحسب أنه ليس إنساناً بل خليفة الله على الأرض.
كانت قرارات الخليفة فوريةً وبعيدةً عن المنطق، حيث هناك الكثير من الأدلة التي تتحدث عن خلل في القوى العقلية لدى الحاكم بأمر الله، على سبيل المثال: قام بتدمير دير بسبب الغضب، ثم عندمادأبه ذهب لرؤية المسيحيين واليهود ليطلب السماح منهم
واستمر في هذه الأعمال المتناقضة، حتى ادعى الألوهية وأعلن الحكم بها في مدينة الفسطاط، وخلال هذه الفترة على الأرجح أصبح لقبه الحاكم بأمره. نتيجةً لذلك قام العديد من المسلمين بأعمال شغب ووصفوا الخليفة بالكافر، مما أدى إلى اندلاع حرب كبيرة، وأحرق جنود الحاكم مدينة الفسطاط ونهبوها. وبعد سنوات قليلة، كتب أهل القاهرة، الذين ضاقوا ذرعاً بقسوة الحاكم، رسائل مليئةً بالشتائم موجهةً إلى الخليفة، حيث أمر الحاكم بأمر الله جنوده بإشعال النار في القاهرة وقتل أهلها، فانشغل جنود الحاكم بإحراق المدينة وقتل الناس لمدة ثلاثة أيام كاملة، حتى ثار الناس وأخيراً توقف الحاكم عن حرق المدينة وقمع السكان، خشيةً على نفسه.
وفاة الحاكم بأمر الله... هل غاب بأمر الله؟
فترة خلافة الحاكم بأمر الله لم تقتصر على جنونه فحسب، ففي عهد حكمه أُنشئت العديد من المؤسسات العلمية في القاهرة، مما جعل هذه المدينة تتحول إلى أحد المراكز العلمية الكبرى في العالم، كما أسس دار الحكمة في القاهرة، وبنى فيها مكتبةً كبيرةً سنة 1005، وقام ببناء أحد أفضل المراصد وأكثرها تجهيزاً في ذوران، للمساعدة في تقدّم علم الفلك.
وهناك العديد من الروايات حول وفاته، لكن يبدو أنه قُتل بمؤامرة من أخته الكبرى ست الملك، إذ تآمرت مع ابن دواس الملقب بسيف الدولة، على قتل الحاكم المجنون، فقتله عبدان من البلاط الفاطمي في 19 شباط/فبراير 1021، وأخذا جثته إلى قصر أخته.
وبعد مقتل الحاكم بأمر الله، استدعت ست الملك ولي عهد الحاكم الذي كان في دمشق، وقتلته في مدينة تنيس، وبعد ذلك قتلت ست الملك بيدها ابن دواس نفسه، وتولت بعد ذلك منصب نائب السلطنة لمدة أربع سنوات، وتُعدّ من أشهر وأقوى النساء في تاريخ الإسلام والشيعة.
قبل ثلاث سنوات من وفاة الحاكم بأمر الله، نسب الداعية الإيراني محمد بن إسماعيل الدرزي، الألوهية إلى الحاكم في القاهرة. ويعتقد الدرزيون أن الحاكم بأمر الله لم يُقتل بل اختفى بأمر من الله.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ يومالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يومينوالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت