شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
مسح دم عن أنف طفلة

مسح دم عن أنف طفلة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والفئات المهمشة

الأربعاء 22 نوفمبر 202312:31 م

ذهبت إلى غزة تلميذاً، وذهبت إليها طبيباً. في المرة الأولى، وكان ذلك قبل الانتفاضة الأولى بسنوات، قال لنا الأستاذ إن الرحلة المدرسية لهذا العام ستكون إلى رامات غان وغزة، وأن علينا أن نُحضر موافقة أهالينا من أجل ذلك.
في البيت، تردّد أبي بالتوقيع على الموافقة، ثم تساءل بتمتمة كمن يحدّث نفسه: "شو فيها غزة؟ ليش ماخذينكم رحلة هناك؟"، ولأنني لم أتخيل أن يذهب الطلاب بينما يُعطّل أبي ذهابي، وقفت وصرخت دون تفكير: "فيها بحر".

ابتسم أبي ووقّع الورقة وهو يقول: "البحر موجود في كل مكان، روح الله لا يردك". ثم أردف بعد اشمئزاز أمي من كلامه: "بس يابا ديروا بالكم، هناك في طخطخة كثير".
كنت أعرف أن البحر موجود في كل مكان، فأيامها كان كل مكان من مدن فلسطين التاريخية مسموحاً للزيارة من قِبلنا، نحن أبناء الضفة. كان بإمكان المدرسة أن تسيّر رحلة إلى شواطئ يافا أو حيفا أو عكا، لكن لسبب لا يعلمه إلا من اقترح الرحلة، والله أيضاً، ذهبنا إلى غزة.
لا أتذكر من تلك الرحلة إلا الأُسود النائمة في حديقة حيوانات رامات غان، والهواء البارد على شاطئ بحر غزة، حيث وصلنا إلى الشاطئ بعد تأخير ومعاناة طويلة على الطرق.
في البيت، تردّد أبي بالتوقيع على الموافقة على الذهاب، ثم تساءل بتمتمة كمن يحدّث نفسه: "شو فيها غزة؟ ليش ماخذينكم رحلة هناك؟"، ولأنني لم أتخيل أن يذهب الطلاب بينما يُعطّل أبي ذهابي، وقفت وصرخت دون تفكير: "فيها بحر"
لم نسبح، ولم نأكل السمك، ولم نر المصطافين أو المتنزهين على الكورنيش. كان الجميع قد التزم بيته بسبب البرد، وبسبب دوريات جنود تعكر صفو البحر وزواره، أما نحن، فقد رأينا البحر مساءً، وقفلنا عائدين إلى الضفة الغربية.
بعد عشرين عاماً من هذه الحادثة، أي في العام 2000، اندلعت الانتفاضة الثانية في الضفة الغربية وقطاع غزة. في تلك الأثناء كنت طبيباً في بدايات انغماسه في العمل النقابي والسياسي، وعضواً في العديد من مؤسسات العمل الأهلي التطوعية، خصوصاً في مجال الطب. فقررت الذهاب للتطوع في قطاع غزة. كنت أعرف أن غزة لا يلزمها أطباء أسنان، وهي مشبعة بالكفاءات الطبية من كافة التخصصات، وكنت أعرف أن مشاركتي في أي عمل هناك لا تعدو كونها نوعاً من الالتزام الأخلاقي تجاه مهنتي أولاً، وتجاه المرضى الذين لا يملكون ما يعينهم على العلاج ثانياً، ونوعاً من الالتزام الرمزي تجاه فكرة الهوية الوطنية الموزعة في جغرافيا الوطن.
رتبنا، أنا وخمسة من الزملاء من تخصصات مختلفة، واستخرجنا التصاريح اللازمة ثم انطلقنا باتجاه غزة. كانت هذه أول مرة أقطع فيها معبر بيت حانون، أو حاجز "إيريز" كما يُطلق عليه بالعبرية. من السذاجة أن أصف للقارئ الفلسطيني، وللغزاوي تحديداً، ما هو حاجز إيريز، لكنني أكتفي أن يعرف القارئ العربي أن هذا الحاجز عبارة عن ثكنة عسكرية للإذلال، وهو لا يشبه لا الحواجز ولا المعابر، حتى الدولية منها، بأي شيء. إنه مجموعة من الأقفاص المتلاصقة والبوابات الدائرية التي تدخلك إلى أقفاص أخرى، مروراً داخل كوريدورات حديدية بمقدار عرض جسدك لا أكثر.
مجندون ومجندات يتفحصونك، ويفحصون أوراقك الثبوتية من خلف زجاج مصفّح وسميك، ثم يصرخون بك أن تتقدّم إلى القفص التالي، وهكذا إلى أن تجد نفسك في ممر طويل يوصلك إلى ساحة السيارات.
ركبنا التاكسي الذي أوصلنا إلى جمعية جباليا للمعاقين، في وسط مخيم جباليا، المخيم الأكبر في قطاع غزة، وفي فلسطين على الإطلاق. هناك استقبلتنا الدكتورة رائدة الحمدني، طبيبة الأسنان، ابنة مخيم جباليا، والتي تعمل في مستشفى الشفاء في مدينة غزة. لم يكن بيني وبين الدكتورة رائدة أية معرفة سابقة، لكنها بادرتني بالسؤال: "هل أنت شيوعي؟". أجبت: "كنت فيما مضى شيوعياً. لكن لماذا تسألين؟"، فقالت: "أنا ابنة مصطفى الحمدني، وهو شيوعي مثلك، وعندما قرأت له أسماء الأطباء القادمين، عرفك".
هذه حادثة عادية، بل وربما تكون ساذجة من وجهة نظر الغير، لكنها بالنسبة لي كانت البداية المفاجئة، التي لن أنساها ولن أنسى أسماء أصحابها ما حييت. فمن أنا لأكون معروفاً لدى أناس لا تربطني بهم لا علاقة عائلية ولا مهنية ولا دراسية؟
أنا شاب مشهور إذن! هكذا وشوشت نفسي بسعادة بالغة، وهكذا ردّدت بغرور أمام زملائي الذين لم يسألهم أحد، لا الدكتورة التي استقبلتنا ولا المرضى الذين فحصناهم وعالجناههم يومها. أنا معروف في مخيم جباليا، فأحدهم يعرفني دون أن أعرفه. وهذه هي الشهرة بالضبط، أن يعرفوك دون أن تعرفهم.
قمنا في ذلك اليوم بفحص المئات من سكان المخيم، وعالجنا كل من يحتاج علاجاً. وفي نهاية اليوم سألتني د. رائدة: "ما الذي تريد أن تراه في غزة؟". قلت: "البحر". فأخذتنا إلى الشاطئ وقت الغروب، وكان هواء البحر البارد يلفحني كما فعل قبل عشرين سنة من ذلك التاريخ.
عدت بعد ذلك إلى غزة مرة واثنتين وثلاث، وصرت أعرف بيت لاهيا وبيت حانون ومخيم الشاطئ وتل الهوى والشجاعية، لكنني لم أتمكن من زيارة البحر إلا مساءً؛ لم أتمكن من السباحة فيه، أو حتى وضع قدمي في مياهه، وظل ذلك حلماً مؤجلاً لا أملّ من انتظار تحقيقه.
انتهت الانتفاضة الثانية وتوقفت عن زيارة غزة، ونسيتها كما نسيها الجميع مدة ما يقرب العشرين عاماً. لا أحد تذكرها ولا أحد حاول إعادتها إلى حضن الوطن (أقصد الوطن لا الدولة ولا السلطة)، لكنها رغم نسياننا صارت مشهورة، وصرنا نعرف فيها أناساً دون أن يعرفونا.
أكتب وأستهجن من الأطباء الذين يهتفون للحديد بينما زملاء لهم يتعثرون بيد طفل مبتورة. أكتب وأفكر بالوطنية؛ ما هي، وما معناها إن لم تضع على رأس أولوياتها تقطيب جرح لساق رجل، أو مسح دم عن أنف طفلة؟
اشتهرت غزة جداً، اشتهرت بأعمدة الدخان المتصاعدة من بيوتها، صار المشهد عادياً، ما إن يراه أي مشاهد حتى يعرف ان هذا المكان غزة. واشتهرت بالصبية الهائمين على وجوههم، وبوجوههم المكسوة بغبار الأرض ودخان بارود القنابل. واشتهرت أخيراً بالحرب على مستشفياتها وأطقمها الطبية. هل حصل في تاريخ الحروب أن كرّس عدو كل آلته العسكرية من أجل مهاجمة مستشفى؟ واشتهرت غزة بأعدائها... ما إن تراهم حتى تعرف أن غزة مستهدفة. واشتهرت ببعض أصدقائها أيضاً، عليك فقط أن تستمع لهتافات عن خيبر حتى تعرف أن غزة تُدك. لو كان أبي حياً لأجبته عن سؤاله بلغة طبيب لا بلغة طفل يريد أن يرى بحراً.
وأنا أكتب هنا كطبيب، لا كشخص يمتهن الكتابة، فنحن الأطباء، أو على الأقل أولئك الذين لا يجيدون الهتاف منا، نتمعّن في كل وجه متألم لا يمكننا تقديم المساعدة له، فنعرفه ونتألم مثله. أكتب من مكان بعيد عن الكارثة، وعن ضحايا الكارثة، وعن الأطباء الذين أُنهكوا وأصابهم اليأس والجوع وهم يقدمون كل ما يستطيعونه، وأشعر بالخزي أنني أعرفهم، لكنني لست معهم ولو كممرض أو مسعف.

أكتب عن شعورهم حين اضطروا للنزوح وترك مستشفياتهم وعياداتهم، أكتب عن كل وجه أو أنين لجريح أو جثة لشهيد مرّت من تحت أياديهم اليائسة. هم يعرفونها أيضاً، فلا طبيب حقيقي يمكنه أن ينسى مريضاً حقيقياً. وجه مريضك الذي يتألم ينطبع في ذاكرتك ولا يُمحى مع الزمن. أكتب وأستهجن من الأطباء الذين يهتفون للحديد بينما زملاء لهم يتعثرون بيد طفل مبتورة. أكتب وأفكر بالوطنية؛ ما هي، وما معناها إن لم تضع على رأس أولوياتها تقطيب جرح لساق رجل، أو مسح دم عن أنف طفلة؟  


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

منبر الشجعان والشجاعات

تكثُر التابوهات التي حُيِّدت جانباً في عالمنا العربي، ومُنعنا طويلاً من تناولها. هذا الواقع هو الذي جعل أصوات كثرٍ منّا، تتهاوى على حافّة اليأس.

هنا تأتي مهمّة رصيف22، التّي نحملها في قلوبنا ونأخذها على عاتقنا، وهي التشكيك في المفاهيم المتهالكة، وإبراز التناقضات التي تكمن في صلبها، ومشاركة تجارب الشجعان والشجاعات، وتخبّطاتهم/ نّ، ورحلة سعيهم/ نّ إلى تغيير النمط السائد والفاسد أحياناً.

علّنا نجعل الملايين يرون عوالمهم/ نّ ونضالاتهم/ نّ وحيواتهم/ نّ، تنبض في صميم أعمالنا، ويشعرون بأنّنا منبرٌ لصوتهم/ نّ المسموع، برغم أنف الذين يحاولون قمعه.

Website by WhiteBeard
Popup Image