عظيمة تلك الدموع التي تتساقط بغزارة في غير أوانها. وساذجة ومؤلمة تلك الابتسامة التي ابتلعتها الحرب والدماء إلى أكثر أجزائنا خوفاً ورعباً.
عندما تكون في قمة الوحدة، وتعلم أنك لا تستطيع فعل شيء، تستقوي عليك المعاناة، وينبت الليمون مجدداً في داخلك، لكن مرتعباً من أن يزهر، وما أكثر أشجار الليمون اليوم في فلسطين المحتلة والمغتصبة والمتألمة والوحيدة، التي تنبت أزهارها بلونٍ أحمر، وتنذر بولادة طفل جديد بأحلام غسان كنفاني، وآلام محمود درويش.
"شكراً يا إسعاف شكراً، نحنا منحبكو، منحبكو كتير"؛ إنهما صوتا أحمد، وأخيه الأصغر هاشم، يصدحان في أثناء نقلهما في سيارة الإسعاف التابعة لمنظمة الهلال الأحمر الفلسطيني، خلال القصف الدموي والإبادة العرقية والجماعية التي حصلت في الليالي الماضية في قطاع غزة، من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي. لم تكن لهما أي كلمة سوى شكر الإسعاف الذي يحاول إنقاذهما من تحت ركام البيوت، ولم يهتز صوت واحد فقط في دول الديمقراطية والعدالة الاجتماعية أو التي تدَّعي ذلك.
اليوم، أصبحت الـHumanitarian organizations أو المنظمات الإنسانية، محال تجاريةً كبيرةً تبيع المساعدات الإنسانية مجّاناً، فهذا هو أسمى ما قد تصل إليه اليوم بعد كل هذه الدموية والإبادة الإنسانية اللتين تحصلان اليوم. كل يوم في الشرق الأوسط دون صوت، أو كلمة، أو حتى رسالة، فحمام السلام أُطلق عليه النار، وفراشات الحرية اختنقت من رائحة البارود والغاز الخانق أبيض اللون.
ما أصبحت متأكداً منه، هو سقوط ما تُسمّى بفلسفة التنوير التي ادّعاها الكثير من الفلاسفة الأوروبيين، واعتمدتها الدول الكبيرة كفرنسا وألمانيا وبريطانيا، والتي تدعو إلى الحريات والعدالة، وأثبتت فشلها الذريع اليوم في كل ما حصل ويحصل في حديثها عن الإنسان، وكيف هو قادر على التفرد بحريته التي لا تتجزأ
أصبح عمري ثلاثة أجيال، ولم أعلم بعد كيفية الشعور بمشاعر الحرية والعدالة دون دماء وموت وعبودية. ما هي تلك الرفاهية الساذجة التي لم تصلنا بعد أو نتحسس وجودها؟ ولماذا عندما نطالب بأبسط حقوق الحرية والعدالة الاجتماعية نحتاج إلى دفع ثمنها حروباً ودماءً؟ ألم يصبح هناك قانون مدني بعيد تماماً عن القوانين الدينية التي كانت تبني عدالتها على الدماء والقتل المبرر؟ والدول التي تدّعي أبوّتها لهذه القوانين كفرنسا وبريطانيا وتلك الدول التي تعيش الرفاهية فوق دماء الأطفال دون الشعور بالرحمة والإنسانية، ماذا حل بإنسانيتها؟ "أين العالم من كل هذا الآن؟".
عندما كنت طفلاً صغيراً لم أعرف الحرية إلا عند حصولي على بسكويتة مغطسة بالشوكولا، أتناولها بشكل كامل دون أن أعاقَب. أما اليوم، فالطفل لا يعرف الحرية إلّا في نجاته من الموت المحتم. فهو ناجٍ لبضع ساعات فقط ولا يعرف شيئاً. يتفقد ذراعيه وقدميه خائفاً من ألا يستطيع اللعب مرةً أخرى دون إحداهما. يمسك صدره بيده ليتحسس ما إذا كان قادراً على التنفس والكلام والصراخ مرةً أخرى في الحي. يتفقد وجهه خائفاً بشكل هستيري من ألّا يستطيع البكاء أمام أمّه كي تسمح له باللعب والخروج مرةً أخرى...
ما هذا الألم كله؟ وكيف يكون قاسياً وقادراً على بناء نفسه كل يوم على أكتافٍ هشة لا تقوى على الحركة؟
ما أصبحت متأكداً منه، هو سقوط ما تُسمّى بفلسفة التنوير التي ادّعاها الكثير من الفلاسفة الأوروبيين، واعتمدتها الدول الكبيرة كفرنسا وألمانيا وبريطانيا، والتي تدعو إلى الحريات والعدالة، وأثبتت فشلها الذريع اليوم في كل ما حصل ويحصل في حديثها عن الإنسان، وكيف هو قادر على التفرد بحريته التي لا تتجزأ.
اليوم أصبحوا بآذان صمّاء لا يريدون إظهار الحقيقة الدموية التي تحدث أمامهم. قال صحافي بريطاني خلال حديثه عن العرب في أثناء الحرب على أوكرانيا: "هؤلاء ليسوا بيض البشرة، أو ذوي عيون زرقاء". شيء محزن كم هي أرواحنا رخيصة وساذجة ودون أي قيمة حتى لدى دول العالم والمجتمع الدولي.
كل يوم، أتمعن في شوارع غزة. أسير بين حاراتنا، وأحمل سيجارةً بـ"شيكل" ليست من النوع الفاخر، محاولاً أن أصالح نفسي، بعد انهيارها الهش. لم يكن طعمها سيئاً إلى هذا الحد، لكن من صنع الألقاب كان يعرف أن لكل وقت درجةً، وكل زمن يتقرّب أكثر إلى الحقيقة. الحقيقة التي تحتجزها الشوارع الخالية برغم زحمة الموت.
طفلة في السابعة من عمرها تلعب في الشارع مع أخيها الأصغر، بضحكة تحمل دهشةً. تقطف الورد بشكل هستيري وتهدي الموت أزهاراً بيضاء لا رائحة لها. جنازة مهيبة قامت بها طفلة لم تأكلها الهشاشة بعد. أنفث الدخان وأملأ رئتيّ وأعاود النظر بقليل من الدهشة. لم أعد أسأل سؤالي الساذج عن كمية الألم الذي تحمله هذه الأرواح الميتة التي تحلّق متجاوزةً أي شعور بالوجود. هي حقيقية الآن، تنتظر الأطفال كي يغوصوا فيها باكراً.
انتهت السيجارة. رسالتي لم تكتمل. أصبحت رماداً مع القليل من الدخان الفاخر الذي ألفّ بها سيجارتي الثانية وأحترق.
الخوف اليوم أصبح يؤكل مع الرغيف في ساعات الصباح، قبل بدء مسرحية الاحتلال والغارات الإسرائيلية على غزة. يتلطخ الخبز بالدم ونحن مجبرون على تناوله، خائفين من عدم توفره في الصباح التالي. ننهض إلى هواتفنا لنتفقد إلى أين وصل الدمار، ومتى سيكون دورهنا في هذه المسرحية، لنشارك خوفنا أمام العالم ثم ننتهي مجدداً أسفل ركام بيوتنا. أما الأطفال فلهم دور البطولة في ذلك حتى ينتهي بنا هذا الخوف في داخلنا نائمين تماماً، منتصرين على الخوف بالموت المحتّم أسفل الركام.
الخوف اليوم أصبح يؤكل مع الرغيف في ساعات الصباح، قبل بدء مسرحية الاحتلال والغارات الإسرائيلية على غزة. يتلطخ الخبز بالدم ونحن مجبرون على تناوله، خائفين من عدم توفره في الصباح التالي. ننهض إلى هواتفنا لنتفقد إلى أين وصل الدمار، ومتى سيكون دورهنا في هذه المسرحية، لنشارك خوفنا أمام العالم ثم ننتهي مجدداً أسفل ركام بيوتنا. أما الأطفال فلهم دور البطولة
أتساءل كم عدد الأطفال الذين يجب أن يموتوا، وتُقتل أحلامهم، قبل أن تحيا إنسانيتكم من جديد، وتدعو لوقف هذه الإبادة؟ أتساءل أيضاً كم عدد الأمهات اللواتي يجب أن يذرفن دموعهن كل يوم بخوف وغضب، قبل أن تستيقظ ضمائركم وأخلاقكم الإنسانية وتدعو إلى السلام والحب والأمان؟
يقول إبراهيم فينو، في كتابه "مخيم": "ثلاثة لا يخرجون من الجحيم، من لا يؤمن بفيروز، ومن سرق حيفا والقدس، ومسلم يبني بيوت المستوطنات ويدعو: اللهم النصر".
لن تموت الأحلام أبداً في شبابيكنا القديمة، ولن يذبل الزيتون في حقولنا، وستظل أمي خضراء دائماً في دارنا، وستزهر روحها "عناقيد" ليمون. سيبقى أبي منتظراً على الأريكة في شرفة منزلنا، يرى هذا الربيع يتفتح من جديد، وستنجب أختي الكثير من الفراشات لتزكي ما تبقى من أحلامنا.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
عبد الغني المتوكل -
منذ 19 ساعةوالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ 20 ساعةرائع
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت