"حسناً، الأمرُ جلل فعلاً وأكبرُ مما نتصوّر جميعاً، لقد توسّعت الأعمال الثورية والفدائية بشكل سريع وممنهج، وبدت قوات الاحتلال أمامها مُنكسرة ومرتبكة، ومع تتابع العمليات الحاسمة للمقاومة، لم يعد أمام الاحتلال إلا أن يستبدل وضع خطة عسكرية مدروسة تُبيّض الوجه، وتمنع الهزيمة والنكسة، بالقصف العشوائي للمدنيين والمستشفيات والمدارس والملاجئ، وهذا لا يحسم المعارك، قتلُ الجنود هو ما يحسمُ المعارك وليس قصف النساء وقتل الأطفال".
كانت تلك هي الأخبار المنتشرة في الصُحف الهندية صبيحة يوم الأحد 10 أيار/ مايو عام 1857، بعدما شنّت بعض الفصائل التابعة للقوات المسلحة الهندية حركة تمرّد واسعة المدى، بعد صدور الحكم بالسجن لمدة عشر سنوات على 58 جندياً يتبعون الكتيبة المحلية لمحطة "ميروت"، وذلك إثر رفضهم استخدام الطلقات المدهونة بخليط من شحوم الأبقار المحرّم أكلها في العقيدة الهندوسية، وشحوم الخنزير المُحرّم أكله في العقيدة الإسلامية، ليتوسّع التمرّد والرفض في الفصائل المتعاطفة مع القضية شمال العاصمة دلهي، وتتحوّل الخلافات العسكرية البحتة، إلى ثورة شعبية انتشر لهيبها كالنار في الهشيم، واشرأبت لها الأعناق بشعار واحدٍ: تحريرُ شبه الجزيرة الهندية كاملة، وربما من الماء إلى الماء.
صدم هذا الهجوم عدداً من الطوائف، أهمها السُلطة الحاكمة، ومن ثم المخابرات البريطانية الأكثر كفاءة في العالم -بحسب الرواية الرسمية- وبعدها المؤسسات العسكرية التابعة لشركة الهند الشرقية؛ إلا أنه لم يفاجئ كارل ماركس، منظّر الشيوعية الأول، على الإطلاق، بل اعتبره النتيجة المباشرة لسياسات القمع العنيف والمتصاعدة ضد الفلسطينيين، نقصد الهنود، بمباركة الحكومة الأكثر يمينية ورجعية في تاريخ بريطانيا، نقصد... توقعوا أنتم من المقصود.
عند قراءة هذا المقال، أو هذه المقتطفات بهدوء وتأن، نشعر تلقائياً بالحضور القوي للمدرسة الاستعمارية القديمة، وربما يشقّ صدورنا إيمان بأن إسرائيل تقوم بما تقوم به الآن من جرائم حرب وإبادة الجماعية لأنها مشروع بريطاني بالأساس، وهذا، رغم أنه معلوم للجميع بالضرورة، إلا أننا في حاجة دائمة لذكره
عودة في الزمن
لطالما شُغل كارل ماركس وزميله فردريك أنجلز بالمسألة الهندية والشرق المُستعمر بالكامل -لأسباب ليس هناك مجال لذكرها- كما كانت له صولات وجولات في هذا الصدد، نورد منها مقالته حول "قوانين البريطانية لتعذيب الهنود"، لكن ما يشغلنا فعلاً هو تفسيره لأسباب الثورة الهندية، عبر سلسلة من المقالات التحليلية المنشورة في صحيفة "نيويورك ديلي تريبيون" بتاريخ 15 تموز/ يوليو 1857، بعنوان "The Indian Revolt" أو "الثورة الهندية"، إليكم بعض المقتطفات منها قبل أي شيء:
"حتى في ظل تلك الظروف العصيبة والاستثنائية، سيكون من الخطأ الافتراض بأن القسوة تأتي من الجانب الثوري بلا سياق، وأن حليب اللطف الإنساني يتدفّق فقط من نهر الإنكليز، خاصةً بعدما رأينا مراسلات الضباط البريطانيين في الهند، وشاهدنا كيف تفوح منها رائحة الحقد والعنصرية".
"سلوك المتمردين مهما بدا سيئاً للبعض، فهو ليس إلا انعكاساً واضحاً لسلوك إنجلترا الوحشي في الهند منذ سنوات بعيدة خلال فترة التأسيس، وازدادت وتيرته خلال العشر سنوات الأخيرة. هناك شيء في التاريخ البشري يُشبه القصاص: ومن قواعد القصاص التاريخي؛ أن أداة القصاص لا يتم تزويرها من قبل المعتدي، بل من قبل الجاني نفسه".
"لا زالت النظرة الرسمية لبعض الأفعال الوحشية الإنكليزية ضد السكان الأصليين، محصورة في كونها أعمالاً عسكرية فقط، ودون الخوض في تفاصيل أكثر إثارة للاشمئزاز، في حين أن ردود فعل السكان الأصليين على هذه الأفعال، عادةً ما يتم التعامل معها بمبالغة شديدة من قبل الجميع، فقطع الأنوف والأثداء وما إلى ذلك من المبالغات، هي بالطبع أكثر إثارة لاشمئزاز المشاعر الأوروبية من رمي قذيفة ساخنة على مساكن (كانتون)، أو تحميص العرب المكبوتين في كهف من قبل مارشال فرنسي".
"يبدو أن التخطيط لحصار العاصمة دلهي كان بمثابة خطأ فادح غير مفهوم، تم فيه انتهاك بعض القواعد البدائية في الحرب، حيث أن السلطات في إنكلترا كانت تعلم يقيناً أن الحكومة الهندية قامت بإصلاح تحصينات دلهي مؤخراً، بحيث يصعب الاستيلاء عليها إلا عن طريق حصار طويل ومنتظم، الأمر الذي يتطلّب وجود قوة مُحاصِرة لا يقل عددها عن 20.000 رجل، كما أدركوا أيضاً أن الحصار الطويل، ونتيجة لضعفهم العددي، من شأنه أن يعرّض قواتهم في تلك المنطقة، وفي ذلك المناخ، وفي ذلك الموسم، لهجمات عدو غير مرئي، سيعمل على نشر بذور الرعب والفرقة بين صفوفهم، ورغم ذلك أصرت بريطانيا على إقامة الحصار، وخوض المعركة في ظروف تتنبأ بهزيمة منكرة".
"هذا ليس إلا فصلاً موجزاً ومخفّفاً من التاريخ الحقيقي للحكم البريطاني في الهند، وفي ضوء تلك الحقائق؛ ألا يخلص الرجل العاقل والمجرّد من الانحياز العاطفي إلى أنه من العدل أن يقاوم الشعب لطرد محتليه الأجانب وهم يمعنون في إذلاله، حيث كان السبب المزعوم والمنتشر منذ أربعة أشهر في جيش البنغال هو خوف السكان الأصليين من تدخّل الحكومة في دينهم؟".
يا كاتب التاريخ
عند قراءة هذا المقال، أو هذه المقتطفات بهدوء وتأن، نشعر تلقائياً بالحضور القوي للمدرسة الاستعمارية القديمة، وربما يشقّ صدورنا إيمان بأن إسرائيل تقوم بما تقوم به الآن من جرائم حرب وإبادة الجماعية لأنها مشروع بريطاني بالأساس، وهذا، رغم أنه معلوم للجميع بالضرورة، إلا أننا في حاجة دائمة لذكره.
تماما مثلما ردّ ماركس أسباب الثورة الهندية إلى سياق تاريخي يبدأ مع الغزو البريطاني للهند وتأسيس شركة الهند الشرقية؛ تلك التي وصفها بأنها أداة الغزو المثالية في العالم الرأسمالي، لأنها تدمج عدة أشياء يعتمد عليها المستعمر الإمبريالي في كيان واحد: رأس المال وما يرتبط به من تحكّم كامل في التجارة والصناعة والزراعة من جانب، والقوة العسكرية الغاشمة من جانب آخر.
وبناء عليه أوضح أن النَهب الاستعماري المُتعمّد للهند -وهو أحد المصادر الرئيسية لإثراء الأوليغارشية الحاكمة في بريطانيا- تسبب مباشرةً في إفقار الشعب الهندي الكبير والمتشعّب والضارب عمقاً في جذور التاريخ، على حد تعبيره، بل وسيكون سبباً رئيسياً من أسباب المجاعة الكبرى بعد ذلك عام 1876، كما أشار إلى أن الحكومة البريطانية قررت متعمّدة إهمال المشاغل العامة، لتحكم على الملايين من الهنود بالبطالة والفقر المدقع، خاصة بعد تفكيك الصناعات المحلية، واستبدالها بأخرى انجليزية أكثر جودة وأرخص سعراً، لأنها منهوبة من مستعمرة أخرى.
تلك الأفعال ستكون سبباً رئيسياً في تدهور أحوال الفلاحين بشكل غريب ومشابه قليلاً لما يحدث في غزّة الفلسطينية، حيث كان وضع الفلاحين في المناطق الغربية -وليس الضفة الغربية- من الهند مختلفاً عن وضعه في المناطق الشرقية والشمالية، ذلك لأن الأخيرة لم تتكيّف بسهولة مع السياسة البريطانية، ولم ترض بالإهانة والطرد والتشريد مقابل الفُتات أو مقابل شبه دولة تحكم نفسها ذاتياً على الورق فقط، مثلما فعل الإقطاع والمنتفعون غربي البلاد، ما أدى إلى تطوير حصار خانق حول المناطق المارقة، وكلما ازداد التدهور والفقر، كلما نمت روح الثورة في صدور هؤلاء المُحاصَرين، ليصبحوا سريعاً التهديد الأول والمباشر للسيادة البريطانية في المنطقة.
مع الوضع في الاعتبار أن الاختلاف بين الحالتين يتمحور في أن غزّة تم تحريرها بالفعل عام 2005 بُعيد الانتفاضة الثانية، بعدما قام جيش الاحتلال بالانسحاب من طرف واحد وإخلاء المستوطنات قسراً، وبالتالي فقد كان القطاع جزءاً من أراضي السلطة الفلسطينية في رام الله منذ توقيع معاهدة "أوسلو" عام 1993، وحتى الانقسام الفلسطيني وسيطرة حماس على حُكم القطاع، وطرد قوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية.
وهنا يمكن الخروج من عباءة ماركس قليلاً، بالنظر إلى أن الثورة الهندية بدأت كتمرّد نخبوي بسيط على عدد من القوانين، وعندما تحوّل إلى ثورة شعبية، لم تكن إلا ثورة بروليتارية في ظاهرها فقط، أما في باطنها فكانت مدعومة بشدة من الطبقة الأرستقراطية وملاك الأراضي، وهذا هو الغريب فعلاً، حيث أن الثورات عادة تنشأ لمواجهة تلك الطبقة، التي تدعم القوى الإمبريالية في الغالب الأعمّ، طبقاً لتفسير ماركس نفسه، وتجد في التعاون معها فرصةً لا تعوّض لكسب المال والنفوذ.
لكن في هذه الحالة فقد سأمت كريمة المجتمع تلك، باعتبارهم هنوداً ينتمون لهذه الأرض قبل أي شيء، من التصرفات المهينة والعنصرية التي تمارسها عليهم السلطات البريطانية بانتظام، وتحديداً بعد إقرار اللورد دلهاوزي، الحاكم العام البريطاني في الهند منذ عام 1848، سياسة ضم أراضي الإقطاعيين لصالح قرار التوسّع في بناء المستوطنات -البريطانية- ما أدى إلى فقدانهم أراضيهم ومناطق نفوذهم لصالح المستوطنين الجُدد.
هو اتحاد غريب فعلاً، أن يقف الفلاح والعامل الكادح في نفس الصف مع جلَّاديه التاريخيين من أصحاب الأموال، خاصةً وأن ماركس نفسه قد أكّد أيضاً، في سياق آخر، أن البريطانيين استولوا على الأراضي الهندية بسهولة عن طريق الاستفادة من الصراع الإقطاعي القائم بين الأمراء المحليين، وتأجيج العداءات العرقية والدينية والقبلية بين الفصائل الدينية والفصائل العلمانية.
لكنه ارتد بعد ذلك عن هذا النهج عندما شرع في تفكيك هذه الثورة، ليؤكد أن نظام الفصل والتمييز العنصري الذي استخدمه البريطانيين بعد ذلك، كان هو السبب الرئيسي في هذا التناغم العجيب بين البروليتاريا والإقطاع.
مأساة ومهزلة
"التاريخ يعيد نفسه مرتين، مرة على شكل مأساة، ومرة على شكل مهزلة، وما نراهُ الآن هو المهزلة". كارل ماركس
نفس السياسات والتضليل الإعلامي والقرارات والفصل العنصري والمستوطنات والثورات، وما عليك فقط إلا أن تستبدل لفظ "الهند" أو "العراق" أو "مصر" أو "البرازيل" أو "الجزائر"، أو أي دولة وقعت تحت وطأة الاحتلال لفترة من الزمن، طالت أم قصرت، لتضع مكانها اسم فلسطين، فتجد أن الأحداث تعيد نفسها بالفعل، وأن الاحتلال لا يجد بُدّاً من إعادة إحياء نفسه كل مرة بشكل متنوّع واسم مختلف.
عليك فقط أن تستبدل لفظ "الهند" أو "العراق" أو "مصر"، أو أي دولة وقعت تحت وطأة الاحتلال لفترة من الزمن، لتضع مكانها اسم فلسطين، فتجد أن الأحداث تعيد نفسها بالفعل، وأن الاحتلال لا يجد بُدّاً من إعادة إحياء نفسه كل مرّة بشكل متنوّع واسم مختلف
لقد أثار ماركس في هذا التحليل شيئاً لم يكن عادياً في زمنه، بعدما أباح رفع البنادق في وجه الاحتلال العنصري، وأقرّ بمشروعية المقاومة المسلحة تحت أي ظرف، وأياً ما كانت تفعله، وفي زماننا هذا، فالأمر أشد سوءاً من أي حقبة مضت، فإسرائيل ليست مجرّد دولة استعمارية لها وجود حدودي معروف ومتفق عليه في بقعة أخرى من بقاع الأرض، وأتت إلى فلسطين التاريخية من أجل التوسّع ونهب الثروات فقط، أي أنها واقعياً لا تشبه بريطانيا أو البرتغال أو فرنسا أو أي دولة استعمارية تاريخية تعاملت مع مصالحها الاقتصادية والسياسية فقط، ومن ثم تعاملت مع السكان الأصليين كشعب له وجود معترف به، وهوية واضحة وأسماء ولغة ودولة وعلم وحدود، وهم فقط أتوا لنهب ثرواتها بالقوة العسكرية أو للحفاظ على مصالحهم.
في الواقع، إسرائيل ليست إلا دولة فصل عنصري يقوم بنيانها على أساس الدين الموروث، والدين الموروث لا يعتدّ به كقومية جامعة للطوائف، أي أننا نعيش جميعاً في مصر، على سبيل المثال، كمسلمين ومسيحيين وبهائيين وملحدين، وغيرهم من ذوي العقائد المختلفة؛ تجمعنا أرض واحدة، وهوية واحدة، وعادات اجتماعية مشتركة، ومطبخ واحد، وفرق رياضية نشجّعها ونهتف باسمها خلف علم واحد، وهكذا تكون الدولة المنضبطة والممتدة تاريخياً، أما في إسرائيل فهنالك أناس من أماكن متفرقة ومختلفة، لا تجمعهم أي صلات أو عادات، إلا الدين المشترك، وهذا لا يقيم دولة وحده، لذلك اعتمدت إسرائيل على سياسة التطهير العرقي والتهجير، وإن لم تنجح سياسة التهجير المباشر، فلا حل إلا القمع -خاصةً مع فلسطينيي الداخل- لضبط الحياة السياسية في هذه الجغرافيا.
ومثلما اعترف ماركس قديماً بحق الهنود في مقاومة غُزاتهم، ولم ينعتهم بالإرهابيين مرةً واحدة، فمن الأفضل لمن يتحدّث عن أي إرهاب فلسطيني، أو أية حقوق لإسرائيل في الدفاع عن نفسها، أن يتذكّر كيف واجه جيش الدفاع مسيرة العودة الكبرى عام 2018، عندما أطلق الفلسطينيون مسيرة للمقاومة السلمية في ذكرى النكبة، لتردّ عليهم اسرائيل بإطلاق الذخيرة الحية، ما أسفر عن مقتل 111 من المتظاهرين العزّل.
كذلك خلال "عملية الرصاص المصبوب" بين عامي 2008 و2009، عندما قتلت إسرائيل 1391 فلسطينياً، من بينهم 318 طفلاً، ودمّرت أكثر من 3500 منزل، وتركت عشرات الآلاف دون مأوى، وعملية "الجرف الصامد" عام 2014، حيث قتلت فيها 2203 فلسطينيين، 1372 منهم لم يشاركوا في أي أعمال عدائية، كذلك دمرت 18000 منزل، ما أدى إلى تشريد أكثر من 100000 فلسطيني، ومن الأجدى به أن يتذكر مجزرة "الطنطورة" عام 1948.
ببساطة هذا صراع وجود بين دولة إمبريالية عدوانية وعنصرية، وشعب ضعيف ومضطهد يقاتل من أجل الدفاع عن نفسه، ولا شيء غير ذلك، وحتى ينحل نظام الفصل العنصري هذا تماماً، فلابد من المقاومة لأنها الحل الوحيد.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
HA NA -
منذ 3 أياممع الأسف
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ أسبوعحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ أسبوععظيم