شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
اختفاء إبراهيم تاريخياً... تهديد للهوية الدينية أم ضرب لمشاريع سياسية في المنطقة؟

اختفاء إبراهيم تاريخياً... تهديد للهوية الدينية أم ضرب لمشاريع سياسية في المنطقة؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة نحن والتاريخ

الأحد 12 نوفمبر 202301:00 م

استثماراً لفكرة الانتماء الديني للأديان الثلاثة اليهودية والمسيحية والإسلام، إلى النبي إبراهيم، أطلقت إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، على معاهدة السلام بين إسرائيل والإمارات والبحرين، "اتفاقية إبراهيم"، في أيلول/ سبتمبر 2020، بوصفه الجدّ المشترك الأكبر، والمظلة الدينية المناسبة لتجميع الخصوم. لذا من الضروري أن تحافظ الدولة العبرية، ذات التوجه الديني، على تعزيز وجود إبراهيم تاريخياً، وأن يكون المرجع المشترك بينها وبين العرب، أولاد ابنه إسماعيل.

ويبدو أن غياب شخصية إبراهيم عن علم التاريخ، يشكل تهديداً خطيراً للهوية الدينية لليهود، فتاريخهم مرتبط به ارتباطاً وجودياً وثيقاً، فهو الأب الأكبر لآباء سفر التكوين، وعليه تتشكل طموحاتهم السياسية حديثاً مع جيرانهم من الدول العربية.

على الجانب الآخر، قدّمت الرواية الإسلامية السيرة الإبراهيمية وفق منظورها، واستمدت الكثير من خيوطها من الرواية التوراتية، وكلاهما (التوراة والقرآن) تعامل مع قصة النبي إبراهيم بوصفها حقيقةً تاريخيةً لا تقبل الشك، جرى الاختلاف حول كثير من تفاصيلها. لكنها في النهاية حقيقة تاريخية من وجهة النظر الدينية، وعلى هذا الأساس جاءت كتابات المؤرخين المسلمين. إلا أن الأمر اختلف كثيراً عندما ناقش المفكرون العرب حديثاً قصص النبي إبراهيم محاولين الإجابة عن السؤال الأبرز: هل وجود شخصية الجد والبطريرك الأكبر إبراهيم حقيقة تاريخية؟ أم أنها حيلة للتقريب بين العرب واليهود، جرى الانتباه إليها منذ وقت مبكر، وقبل البعثة النبوية أصلاً؟

التوسع في ذكر تفاصيل حياته

لم تشكك المصادر التاريخية الإسلامية في قصة إبراهيم، وتوسعت في سرد تفاصيل حياته، استناداً إلى القرآن الكريم وقصص الإسرائيليات والحكايات العربية المتداولة شفهياً قبل البعثة عن بناء الكعبة، واختلفت في التفاصيل والجزئيات.

يؤكد محمد بن جرير الطبري (ت- 310 هـ)، في كتابه "تاريخ الأمم والملوك، ج1"، أن المؤرخين "اختلفوا في الموضع الذي كان منه (إبراهيم)، والموضع الذي وُلد فيه"، ومع هذا لم يحرّك الجهل بتحديد مكانه أي شكوك لديه، بل تمادى، ويذكر أن أم إبراهيم أخفته في مغارة زمناً طويلاً خوفاً عليه من بطش النمرود، وأنه طلب من أمه في شبابه: "أخرجيني أنظر، فأخرجته عشاء فنظر وتفكر في خلق السموات والأرض". ثم عرض لقصته مع أصنام قومه وتكسيره لها.

بعد ارتحاله وزواجه من سارة، اشتهر إبراهيم بخيمته، وبات كريماً ومضيافاً، وبحسب الطبري، "كان إبراهيم يضيف من نزل به، وكان الله عز وجل قد أوسع عليه وبسط له في الرزق والمال والخدم". وإلى هذه المعاني جرى مؤخراً استلهام خيمة إبراهيم كرمز للمظلة الإبراهيمية، بهدف تجميع أبنائه من العرب واليهود، ودياناته الثلاثة، تحت مظلة واحدة لإدارة حوار أو نقاش بشأن السلام.

أنجب إبراهيم من جاريته هاجر ابنه إسماعيل، وعادت سارة فأنجبت له إسحاق، وعلى الرغم من شيوع وصف إسماعيل بالذبيح في الثقافة الإسلامية، فإن الطبري انحاز إلى عدّ إسحاق هو الذبيح

فكرة إكرام الضيف رددتها المصادر التاريخية، ومن المتأخرين مثلاً ابن إياس الحنفي (ت- 930 هـ)، الذي ذكر في كتابه "بدائع الزهور في وقائع الدهور"، أن "إبراهيم عليه السلام أول من قرى الأضياف، وأول من شاب، فلما رأى الشيب في لحيته فأنكره، فقال: يا رب ما هذا؟ فأوحى الله إليه هذا الوقار. فقال: يا رب زدني وقاراً. فأصبحت لحيته بيضاء".

أنجب إبراهيم من جاريته هاجر ابنه إسماعيل، وعادت سارة فأنجبت له إسحاق، وعلى الرغم من شيوع وصف إسماعيل بالذبيح في الثقافة الإسلامية، فإن الطبري انحاز إلى عدّ إسحاق هو الذبيح، مشيراً إلى أن القرآن يدعم "صحة الرواية التي رويت عنه (النبي) صلى الله عليه وسلم، أنه قال هو إسحاق، أوضح وأبين منه على صحة الأخرى".

وانسحبت مكانته الدينية على ذريته، وبحسب الطبري فإنه نظراً إلى طاعته وصبره على الابتلاء "اتخذه (الله) خليلاً، وجعله لمن بعده من خلقه إماماً، واصطفاه إلى خلقه رسولاً، وجعل في ذريته النبوة والكتاب والرسالة، وخصَّهم بالكتب المنزلة، والحكم البالغة، وجعل منهم الأعلام والقادة والرؤساء والسادة". وهكذا فإن الرؤية التي عرضها الطبري، وهي رؤية تمثلها الثقافة الإسلامية، تدعم فكرة المستقبل الواعد لذرية إبراهيم، لأنها مصطفاة ومميزة بالرسل والكتب والحكمة، وموعودة بالسيادة أيضاً.

جدل الحقيقة التاريخية

حديثاً، اقترب أدباء ومفكرون من مناقشة بعض جوانب السيرة الإبراهيمية، وعلّقوا عليها سلباً وإيجاباً، ومنهم من تعرض لها بصورة غير مباشرة مثل طه حسين، فكانت في سياق دراسته لمسألة الشك والانتحال في الشعر الجاهلي، أو بصورة مباشرة كما فعل عباس العقاد في تصديه لمثيري الشكوك حول تاريخية النبي إبراهيم.

في كتابه "حياة محمد"، تمسك محمد حسين هيكل بإمكانية الوجود التاريخي للقصة الدينية للنبي إبراهيم، مُعطياً المساحة لعرض رأي المستشرق الإنكليزي وليم موير، الذي ارتاب في هجرة إبراهيم وإسماعيل إلى الحجاز، عادّاً أن القصة "ابتدعها اليهود قبل الإسلام بأجيال ليربطوا بها بينهم وبين العرب بالاشتراك في أبوة إبراهيم لهم أجمعين"؛ بهدف ضمان حسن معاملة العرب لليهود وتيسير تجارتهم، وسبب ارتيابه، وفقاً لهيكل، أن "أوضاع العبادة في بلاد العرب لا صلة بينها وبين دين إبراهيم لأنها وثنية مغرقة في الوثنية"، وعلّق هيكل مبرزاً اختلافه: "لسنا نرى مثل هذا التعليل كافياً لنفي واقعة تاريخية".

اختلاق قصة إبراهيم، حيلة رآها طه حسين، من أجل تحسين العلاقة بين اليهود والعرب، لذا طالب بضرورة فك الارتباط بين دراسة ظواهر اللغة والأدب والشعر في شبه الجزيرة العربية وبين القصص المختلقة والأساطير التي سادت قبل البعثة المحمدية، ورأى أن وجود إبراهيم وإسماعيل في التوراة والقرآن "لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي"، وأنه مضطر إلى أن يرى في قصتهما "نوعاً من الحِيلة، في إثبات الصلة بين اليهود والعرب من جهة، وبين الإسلام واليهودية، والقرآن والتوراة من جهة أخرى"؛ بحسب النسخة الأقدم لكتابه "في الشعر الجاهلي"، الذي أثار عليه هجوماً عنيفاً خاصةً بشأن هذه المقولة تحديداً.

اختلاق قصة إبراهيم، حيلة رآها طه حسين، من أجل تحسين العلاقة بين اليهود والعرب، لذا طالب بضرورة فك الارتباط بين دراسة ظواهر اللغة والأدب والشعر في شبه الجزيرة العربية وبين القصص المختلقة والأساطير التي سادت قبل البعثة المحمدية

هذا الشك الصريح في قصة إبراهيم، أقلق عباس العقاد، ودفعه إلى اتخاذ موقف انفعالي، إذ صعَّد من حدة هجومه على المشككين، فبدأ كتابه "إبراهيم أبو الأنبياء"، مُندهشاً من شك البعض، واصفاً الذي ينفي وجود إبراهيم بأنه "لا يستند إلى حجة واحدة من حجج العلم". وفي نهاية الكتاب، قرر أن "قرائن الثبوت في سيرة الخليل أقوى من كل قرينة للشك ينتحلها من يتحدث باسم العلم، والعلم من حديثه براء"؛ ولا يكتفي بهذا، بل أكد أن "سيرة الخليل ليست من السير التي يشكّ فيها العالم، بل هي سيرة يبحث عنها العالم إن لم يجدها"، وطبقاً للعقاد فإنه تشدد في رفض الشكوك حول إبراهيم، مطالباً بالبحث عنها وإثباتها إن كانت غير موجودة، وهو موقف غريب منه لكونه ارتكز على الانفعال أكثر من المضي في طريق العلم.

أما دراسة سيد القمني، لشخصية الخليل في كتابه "النبي إبراهيم والتاريخ المجهول"، فقد كشفت نوعاً من التذبذب، وبرغم أنه مضطر إلى "الاعترافِ بعدم وجود الأدلة المباشرة"، فإنه حاول "تجميع ما يلزم من قرائن، يمكن إذا تجمعت أن تكتسبَ ثقل الأدلة التي يمكن أن تدلنا إلى الطريق القويم"، والتطلع إلى مثل هذا الطريق يشير إلى بعض الحيرة والارتباك.

وبرغم الاضطراب الذي أبداه القمني، فقد ذكر أن قصص الأديان الثلاثة اليهودية والمسيحية والإسلام في جانب، وعلم التاريخ في جانب آخر، وأن "عدم معرفة علم التاريخ بهذا النبي رغم حضوره الكثيف في الديانات الثلاث، قد أدَّى ببعض الباحثين إلى حسبانه شخصيةً أسطوريةً، لا تمتُّ إلى علم التاريخ بصلة، حتى أنَّ هذا البعض قد احتسب جميع قصص البطاركة القدامى مجرد قصصٍ خرافية لا ظل لها من حقيقة".

تهديد الهوية الدينية

اختفاء إبراهيم تاريخياً، شكّل تهديداً للهوية الدينية للأديان الثلاثة، وتحديداً اليهودية التي تحرص على مناقشة المستجدات التاريخية والأركيولوجية، ووفقاً للكاتب السوري فراس السوّاح في كتابه "تاريخ أورشليم والبحث عن مملكة اليهود"، فقد "انعقدت في شهر تشرين الأول/ أكتوبر 1999، في مدينة شيكاغو الأمريكية، ندوة دولية للبحث في أصول الشعب اليهودي".

أبحاث هذه الندوة علقت بتركيز على نظرية الأمريكي أولبرايت القديمة، التي تفترض أن القرن الـ18 ق. م، وبقية العصر البرونزي الوسيط، كانا مسرحاً لقصص آباء سفر التكوين إبراهيم وإسحاق ويعقوب، "اعتماداً على الربط بين بعض العادات والتقاليد التي نجدها في سفر التكوين والعادات والتقاليد التي نستشفها من الوثائق الأكادية لتلك الفترة وخصوصاً وثائق مدينة نوزي الحورية".

"عدم معرفة علم التاريخ بهذا النبي رغم حضوره الكثيف في الديانات الثلاث، قد أدَّى ببعض الباحثين إلى حسبانه شخصيةً أسطوريةً، لا تمتُّ إلى علم التاريخ بصلة، حتى أنَّ هذا البعض قد احتسب جميع قصص البطاركة القدامى مجرد قصصٍ خرافية"

مجادلاً هذه النظرية وهذه الوثائق، شرح السواح أن "ما ورد في وثائق نوزي (مدينة عراقية)، من قواعد وأعراف اجتماعية، لم يكن وقفاً على عصر البرونز الوسيط، ولا على منطقة بعينها"، مشيراً إلى أنها شاعت في عصور مختلفة، وأيضاً شيوع أسماء آباء سفر التكوين في أزمنة ومناطق مختلفة، وبذلك "تم تعليق عصر الآباء في فضاء تاريخي غير محدد".

تحويل التاريخ الشعبي إلى مقدس

في لحظة ما، ولأسباب متعلقة ببقاء بعض المجتمعات وظروفها، عملت الشعوب على تحويل حكاياتها الشعبية المحلية إلى تاريخ مقدس، خاصةً أنها افتقدته في المدونة التاريخية الرسمية.

داخل هذا الإطار، رأى المصري أشرف منصور في كتابه "الرمز والوعي الجمعي.. دراسات في سوسيولوجيا الأديان"، أنه على أطراف حضارات مصر القديمة وبابل وآشور وفارس كانت "تحوم مجموعة من القبائل الجوالة من العرب واليهود، الذين يعودون إلى أصل مشترك كانوا هم أنفسهم على وعي به، وفهموه على أنه يتمثل في أب واحد لهما هو إبراهيم".

هذا الأصل المشترك للعرب واليهود، يعود إلى العائلة المقدسة (إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط). واللافت للانتباه وفقاً لمنصور "أنها لم ترد في أي من المدونات التاريخية لشعوب الشرق الأوسط القديم"؛ أي أن حالة التهميش الواقعية التي يعيشونها على أطراف الحضارات انسحبت إلى وجودهم على مستوى الوثائق التاريخية، لذا أصبحت أسفار العهد القديم "تاريخاً هامشياً لمهمشين، تاريخاً رفعه أصحابه المهمشون إلى مستوى التاريخ المقدس".

التهميش والنبذ أوجدا في مدوناتهم التاريخية فكرةً أساسيةً تُعدّ نوعاً من التعويض أو رد الفعل، وهي فكرة "الاستيلاء على الأراضي نفسها التي طُردوا منها، وهاموا حولها طويلاً، فكرة الوعد الإلهي بالأرض، أرض الميعاد"، وفقاً لمنصور.

هذه الشعوب الجوالة آمنت في نصوصها المقدسة بأنها سوف تستحوذ على أراضي الحضارات التي حاموا حولها، وفي الوقت الذي لم ينجز فيه اليهود، سُلّان إسحاق، الاستيلاء على أرض الميعاد من النيل إلى الفرات، فإن العرب سُلّان إسماعيل، تهيأت لهم الظروف فـ"استطاعوا فتحها"، وكلمة "فتح" تُضفي عليه مشروعية الوعد الإلهي بالأرض، وبهذا فإن اليهودية والإسلام استجابتا لطموحات القبائل الرعوية المنبوذة، منحتاهم الوعد بالأرض، و"ليس صدفةً أن تبنّت القبائل التتارية والتركية الإسلام، إذ رأته مناسباً لها"؛ بحسب ما ذكر منصور، وذلك لأنه يحقق لهم طموحات الاستيلاء على الأرض.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها…

لكن رصيف22، هو صوت الشعوب المضطهدة، وصوت الشجعان والمغامرين. لا نخاف من كشف الحقيقة، مهما كانت قبيحةً، أو قاسيةً، أو غير مريحة. ليست لدينا أي أجندات سياسية أو اقتصادية. نحن هنا لنكون صوتكم الحرّ.

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها، ولكنك بضمّك صوتك إلينا، ستكون جزءاً من التغيير الذي ترغب في رؤيته في العالم.

في "ناس رصيف"، لن تستمتع بموقعنا من دون إعلانات فحسب، بل سيكون لصوتك ورأيك الأولوية في فعالياتنا، وفي ورش العمل التي ننظمها، وفي النقاشات مع فريق التحرير، وستتمكن من المساهمة في تشكيل رؤيتنا للتغيير ومهمتنا لتحدّي الوضع الحالي.

شاركنا رحلتنا من خلال انضمامك إلى "ناسنا"، لنواجه الرقابة والترهيب السياسي والديني والمجتمعي، ونخوض في القضايا التي لا يجرؤ أحد على الخوض فيها.

Website by WhiteBeard
Popup Image