شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
هل نجحت مواسم الرياض في

هل نجحت مواسم الرياض في "سعودة" الخيال المصري؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي نحن والتنوّع

الثلاثاء 21 نوفمبر 202307:52 ص

في عام 2020 صدر الفيلم السعودي "شمس المعارف" وهو فيلم خفيف، مسلٍّ، عن مجموعة أصدقاء في مدرسة ثانوية يحلمون بإنتاج فيلم رعب دون ميزانية، فيجدون أنفسهم في مواجهة عائلات تريد منهم التركيز في الدراسة فقط، ومدرِّسين لا يفهمون ما الذي يفعله هؤلاء المشاغبون في معمل المدرسة ليلاً. قصة كلاسيكية عن يافعين تخنقهم السلطوية، وتحاول قتل أحلامهم لأنها لا تفهمها.

بدرجةٍ ما، يحكي الفيلم قصّة صُنّاعه، مجموعة سينمائيين قادمين من يوتيوب؛ فالمخرج فارس قدس وشقيقه صهيب، المنتج الفني والذي لعب أيضاً دور البطولة المساعدة، يُعرِّفان نفسيهما باسم "الأخوين قدس"، وهو اسم قناتهما المليونية على يوتيوب، حيث يقدِّمان برنامج "مراتب"، الذي بدآه قبل سنوات في قناة "تلفاز11" واسعة الانتشار بأكثر من ثلاثة ملايين متابع، ويقدِّم فيها عدد من صُنّاع المحتوى برامج ترفيه متنوعة.

وإلى جانب الأخوين، يلعب دور البطولة براء عالم، الذي خصّص قناته "فيلمر"، قبل أن يعلن توقفها العام الماضي، لتقديم محتوىً سينمائي يُظهر ولعه الكبير بهذا الفن، خاصة حلقات سلسلة "جمجمة مخرج" الممتعة.

شمس المعارف واحد من مظاهر الطفرة السينمائية السعودية التي بدأت عام 2018، بعد سنة واحدة من السماح بإنشاء دور السينما. لم يتوقف الأمر فقط على التوسع في البناء واستيراد أفلام مصرية وأمريكية لعرضها؛ سهَّلت السعودية أيضاً إجراءات تأسيس شركات الإنتاج السينمائي، وأنفقت بسخاء على المنح الإنتاجية، مع طموح بتأسيس ستوديوهات سينمائية على مستوى عالمي.

وهذه الطفرة السينمائية بدورها جزء من استراتيجية 2030 "الطموحة" للأمير محمد بن سلمان، الذي تبنَّى مع صعوده إلى الحكم عملياً في 2017، انفتاحاً اجتماعياً شمل تهميش هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة المهرجانات الموسيقية، ومنح النساء حقوقاً بديهية، وجرى تسويق ذلك كله باعتباره توجُّهاً نحو التحرر والحداثة. ولكن هل الأمر حقاً مثلما يبدو عليه؟

لم يتعوّد الفنان المصري على الصمت، خاصة عندما يتعلق الموضوع بقضية جدلية، ولكن مع إسكات الجميع في مصر بعد 2013، بدا محمد سلّام يغرِّد وحيداً وهو يعلن انسحابه من موسم الرياض

لا تتدخّل فيما لا يعنيك

اختار "شمس المعارف" مثلاً أن يجسِّد السلطوية في العائلة والمدرسة، وتدور بقية المشاريع تحت نفس السقف، حيث يفضِّل معظم صانعي السينما السعودية استغلال الإمكانيات المادية الكبيرة في مشاريع طموحة بصرياً وتقنياً، أو ذاتية بسيطة تبحث عن مزيد من التحرّر البريء من سُلطة العائلة التقليدية أو مضايقات المحافظين، دون التعمّق في نقدهم إلى درجة مساءلة بُنيوية النظام الاجتماعي المحافظ، ومدى ارتباطها بسلطة تمسّكت بها لعقود.

وهذا التوجّه مفهوم لصناعة تتلمّس خطواتها الأولى، وتعتمد بشكل شبه كامل على تمويل حكومي من سلطة لا تعطي أيّ انطباع بتسامحها مع النقد. وعلى أيِّ حال، فإنّ مواجهة مضايقات المحافظين ليست معركة سهلة هيّنة الأثمان، ونحن نتحدث عن مجتمع نصف ذكوره دون الـ35 أعضاء في هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أحبطهم نزع صلاحياتهم في مطاردة الناس، ليقتصر دورهم على توجيه النصائح على السوشيال ميديا.

ولكن في الوقت نفسه، لا يمكننا تجاهل مشروعات جرى إنتاجها قبل انفتاح ابن سلمان، وفي ظلِّ ظروف قانونية واجتماعية وإنتاجية أكثر صعوبة، ناقشت موضوعات أكثر حساسية، مثل فيلم "وجدة" الذي حاول قبل عشر سنوات تفكيك ذكورية المجتمع السعودي، وكان جريئاً في تمثيل السلطوية والتمثيل بها.

هذا السقف المنخفض في الاشتباك مع الشأن العام، تجسِّده مفارقة لافتة يمكن رصدها في عالم يوتيوب نفسه الذي أتى منه هؤلاء الفنانون. فبينما تفاعل أغلب صنّاع المحتوى العرب، على اختلاف جنسياتهم ونوعية المحتوى الذي يقدمونه، مع ما يجري في غزّة بطرق مختلفة، أبسطها الدعاء قبل تقديم حلقاتهم العادية، ظلّ أغلب السعوديين بعيدين تماماً عن المشهد.

على سبيل المثال، بعد اندلاع الحرب في غزة، قدّم الأخوان قدس حلقة من برنامج "مراتب" عن أغرب 5 أشياء بيعاً في مزاد، وفيديو تشويقياً عن أسوأ 5 برامج يوتيوب توقفت. أما "تلفاز11" فنشرت فيديوهات دعائية لفيلم جديد اسمه "مندوب الليل"، وكلُّ هذا خلا من أي إشارة تضامنية مع غزّة.

بدرجةٍ ما، يتشابه المشهد المخزي لنجوم مصريين وهم يفشخون أفواههم ضحكاً، سعداء بكرم ضيافة تركي آل الشيخ خلال حفل افتتاح موسم الرياض الشهر الماضي، مع قنوات اليوتيوبرز السعوديين، التي ظلت تقدم محتواها الترفيهي العادي دون أي إشارة لجريمة الإبادة التي تحدث في الجوار.

أهم أسباب سخط المصريين على فنانيهم الذين تكاد تسمع أصوات قهقهتهم في صور الافتتاح، أنّ علاقة الفنان بمجتمعه تختلف تماماً عن الوضع في السعودية.

وهذان المنظران المتشابهان، يشبهان كلّ ما يجري في السعودية، حيث ينفصل المجتمع عن الشأن العام، وخاصة السياسي، انفصالاً تاماً. لا يمكن أن نتجاهل أن السعودية، مثلها مثل الإمارات، لم تشهد أيّ حراك شعبي واجتماعي داعم لغزّة بأي شكل، اللهم إلا بعض التبرعات الخيرية التي تختزل القضية في تعاطف إنساني مع مليوني فقير يعانون مشكلة ما.

أما أسئلة الاحتلال والمقاومة والإرهاب والتطبيع، وبقية الجوانب السياسية للنزاع، حيث تتشابك مصالح السعودية التي كادت توقِّع اتفاقاً مع إسرائيل لولا هجوم 7 أكتوبر، فهي اختصاصات أولي الأمر ولا شأن لـ"السكان" بها. فحتى الآن، لم تُبلوِر النسخة السعودية من الحداثة مفهوم "المواطن" الذي تعترف بحقه في التعبير والمشاركة والمساءلة، ولم تعرف تمثيل المجتمع، ولو شكليّاً، في السلطة.

هنا لا يصمت الفنان

أهم أسباب سخط المصريين على فنانيهم الذين تكاد تسمع أصوات قهقهتهم في صور الافتتاح، أنّ علاقة الفنان بمجتمعه تختلف تماماً عن الوضع في السعودية. يتجذّر الفن هنا في المجتمع إلى درجة جعلت الفنانين تاريخياً منخرطين في قضاياه، منذ زمن الأب المؤسس سيد درويش، وحتى محمد سلّام.

لم يكن الفنانون في مصر يوماً بعيدين عن الشأن العام، سواء الذين استخدمتهم السلطة ليكونوا صوتها، أو الذين واجهوها وقاوموها بفنّهم، وكما أنفقت مصر أموالاً طائلة لصناعة البروباجندا، سبّبت أفلام كثيرة إزعاجاً كبيراً للسلطة.

وفي مرات كثيرة، اجتمع هؤلاء الأضداد المتنافرين معاً في سياقات احتجاجية. في عام 1987، وقف فنان مثل عادل إمام، لا يُعرف بنقده للسلطة، كتفاً بكتف إلى جانب ثوريين، مثل تحية كاريوكا ويوسف شاهين، في اعتصام الفنانين ضد قانون النقابات الفنية.

لم يتعوّد الفنان المصري على الصمت، خاصة عندما يتعلق الموضوع بقضية جدلية تخص فنه وظروف عمله، مثل قانون نقابته المهنية، أو إقامة مهرجان "ترفيهي" على هامش مذبحة. ولكن مع إسكات الجميع في مصر بعد 2013، في محاولة بدت ناجحة لاستنساخ النموذج السعودي بعزل المجتمع عن قضاياه، بدا محمد سلّام يغرِّد وحيداً وهو يعلن انسحابه من موسم الرياض.

من هنا يمكننا أن نفهم لماذا وجد سلّام نفسه في مرمى انتقادات لا ترفض بالضرورة موقفه بعدم المشاركة في مهرجان ترفيهي يجري بالتزامن مع مذبحة، بقدر رفضها ماسمّته "المزايدة" على زملائه، وهي صيغة ملطفة لدعوته للانسحاب في صمت.

طبعاً، غضب بعض المشاركين من سلّام لأنه وضعهم في حرج، ولكنّ الحملة المنظمة التي استعرت في مواجهته، وطالبته بأريحية لا مثيل لها بأن يصمت، لا يمكن تفسيرها بالحرج وحده، ولكنها تنطلق من تماهٍ مصريٍّ تام مع النموذج السعودي، شمل الفنانين بطبيعة الحال، مع فرض ظروف عمل سيئة عليهم، ليأتي طوق الإنقاذ السعودي في 2019، ويقدِّم بديلاً يتضمن نفس الانفصال التام عن الشأن العام، ولكن بمقابل مجزٍ وظروف عمل أفضل.

إن إعلان الكثير من زملاء سلّام تضامنهم معه، يبدو فرصة سانحة لمواجهة أسئلة صعبة لكنها ضرورية، عن مدى اتصال كلِّ فنان بقضايا مجتمعه، وما عليه فعله لمحاولة تحرير فنِّه من هراوة الضابط وذهب الكفيل

هنا بإمكاننا الحديث عن سيطرة النموذج السعودي هذا على الخيال الحاكم في مصر، أو "سعودة" الفن المصري، حقيقةً ومجازاً، بتدجينه وفصله عن قضايا مجتمعه، وتحويله من مجال واسع يتضمّن الترفيه والتسلية بجانب كونه وسيلة حرّة للتعبير والاشتباك الناقد مع أسئلة النفس والمجتمع، إلى ترفيه صرف وتسلية استهلاكية خالصة، وهذه بالضبط الرسالة التي كان مطلوباً إيصالها من صور الفنانين وهم ينعمون بهذه السعادة الفجّة، دون أي اكتراث بما يجري في غزّة.

ما قام به سلّام حقاً أنه كسر التصورات السعودية عن الفن والفنانين وكيفية "استخدامهم"، وانتزع حقه في الكلام، بعد سنوات من محاولات فرض الصمت على الجميع. ولم يجرؤ أيٌّ من الذين كانوا يدعونه للصمت وعدم "أخد اللقطة"، وهم يعلمون جيداً أنه قد يدفع ثمناً ظالماً لإعلان موقفه، على التضامن معه في مواجهة مسؤول غارق حتى أذنيه في تهم الفساد، ويملك قدرة كبيرة على إيقاع الأذى.

ولكن في المقابل، فإن إعلان الكثير من زملاء سلّام تضامنهم معه، يبدو فرصة سانحة لمواجهة أسئلة صعبة لكنها ضرورية، عن مدى اتصال كلِّ فنان بقضايا مجتمعه، وما عليه فعله لمحاولة تحرير فنِّه من هراوة الضابط وذهب الكفيل، لأنّ ما يستحقه جيل الفنانين السعوديين الواعد من زملائهم المصريين، هو تعلم كيفية الاشتباك الجريء الذكي المبدع مع القضايا الشائكة، لا الانسحاب إلى سياق مجتمع مُكمّم، يكتشف دور السينما للمرة الأولى.

إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

فلنتشارك في إثراء مسيرة رصيف22

هل ترغب/ ين في:

  • الدخول إلى غرفة عمليّات محرّرينا ومحرراتنا، والاطلاع على ما يدور خلف الستارة؟
  • الاستمتاع بقراءاتٍ لا تشوبها الإعلانات؟
  • حضور ورشات وجلسات نقاش مقالات رصيف22؟
  • الانخراط في مجتمعٍ يشاركك ناسه قيمك ومبادئك؟

إذا أجبت بنعم، فماذا تنتظر/ ين؟

    Website by WhiteBeard