قال محمود درويش باسم الفلسطينيين كلهم: "نحب الحياة إذا ما استطعنا إليها سبيلا"، فصار هذا القول عنوانهم تحت الموت والقصف وكلما ارتفع عدّاد الموت، لكن من حق الفلسطينيين أن يسألوا اليوم هل تبادلهم الحياة هذا الحب؟
قبل هذا الشعر بمئات السنين تداول الناس في فلسطين التاريخية أمثالاً تحبذ الموت جماعات عن الموت فرادى في أيام المصائب الكبرى كالتي تعيشها غزة اليوم، من المثل القائل "حط راسك بين هالروس وقول يا قطاع الروس"، إلى المثل "الموت مع الجماعة رحمة".
الموت مع الجماعة ليس رحمة بالتأكيد، هو إبادة، مذبحة، جريمة حرب، لكنه بالتأكيد ليس رحمة، على الأقل ليس لمن ظلوا أحياء ليشهدوا على ضياع أحبتهم.
في غرفة واحدة
لا يمكن القياس لفهم طبيعة غزة على بقية المدن، إذ لا بد أن نفهم علاقة البنية المعمارية بالبنية الاجتماعية، فنظراً لضيق المساحات الممكن البناء فيها، ومحدودية الأماكن التي تصلها الخدمات العامة كالصرف الصحي والمياه وشبكة المياه، فغالباً ما تقوم العائلة الواحدة من إخوة وأخوات ببناء عمارة واحدة وتوزيع الشقق داخلها بينهم.
يقول كريم أبو الروس الذي فقد الكثير من أفراد عائلته في غزة في يوم واحد بأن الناجي من موت عائلته كاملة هو ميت بطريقة أخرى.
لذا من الطبيعي حين تُقصف عمارة واحدة أن يكون أغلب الضحايا من عائلة واحدة، كما حدث مع عائلة الزعانين وأبو قوطة وأبو هلال وعشرات العائلات غيرهم.
لكن هل هذا حقاً طبيعي؟ أن تَخرج عائلات كاملة من السجل المدني؟
هذا ما حدث مع عائلة الكاتب كريم أبو الروس التي كانت تسكن غزة، فهو خسر عائلته في القصف، أخته وابنتيها وطفلها وزوجها والكثير من أفراد أسرته الممتدة في مجزرة واحدة حملت اسم عائلته، سألناه إن كان يعتقد أن الموت مع الجماعة رحمة حقاً، فأجاب رصيف22: "في سياق غزة ما يحصل فعلًا هو موت جماعي. كل عائلة في غزة فقدت إما أفراداً من العائلة أو العائلة بأكملها، اعتاد الناس أن يجتمعوا في مكان واحد كي يعيشوا سوياً أو يموتوا سوياً".
ويختم: "الناجي من موت عائلته كاملة هو ميت بطريقة أخرى، الموت يوجع الأحياء لا الموتى".
البعد النفسي للموت الجماعي
هناك بعد نفسي مهول لهذا الخيار، يتمثل في تجاوز المشاعر البشرية التي نعرفها في حياتنا اليومية ومشاكلنا العادية، إلى خيارات ليس على أي إنسان أن يضطر لها، كأن يتشاجر الأب والأم حول ما إذا كان من الأفضل أن تكون أسرتهما في أماكن مختلفة بحيث إذا مات أحد الأطفال ينجو الآخر، أو أن يجتمعوا سوياً ويموتوا سوياً.
تقول الطبيبة النفسية عصمت حوسو لرصيف22 إن السبب الأساسي في اختيار الموت سوياً هو التضامن والحب وعدم الرغبة بالحسرة على بعض، وتضيف: "هو نوع نادر من أنواع الدعم الذي يحدث في لحظات الموت، سعياً لوحدة المصير وبدافع حقيقي من الحب وعدم الرغبة بالتحسر إن ظل أحد حياً".
طبيبة نفسية: "القتل الجماعي يخلق حالة نفسية مختلفة، لنفهمها علينا أن نتخيل حجم الحب الذي يأتي من احتضان العائلة كاملة بعضها بعضاً مع احتمال الموت في أي لحظة، هذا ليس نوعاً عادياً من الحب، وهي أقصى حالة حماية يمكن أن يؤمنها أهل لأطفالهم"
وهل خيار موت الأولاد يأتي ضد غريزة الأم والأب، تجيب: "بالطبع، غريزة الأم والأب تدفعهما لحماية الأطفال حتى النهاية، لو كان الوضع طبيعياً، حينها يمكننا التحدث أن هذا ضد الغريزة، لكن في ظل الإبادة، سيكون هذا هو الطبيعي، أن نعطيهم جرعة الحب الأخيرة والأكبر، والحضن الأقوى، وأن نحميهم من اليتم".
وتشير حوسو إلى أهمية التنبه إلى دور الإيمان والعقيدة في تخفيف صعوبة خيار الموت مع الجماعة، وإلى أن إيمان أفراد العائلة بأنهم سيتخلصون من الألم والخوف والعذاب وسينتقلون إلى مكان أفضل بعد الموت له دور كبير في تسهيل لحظة الموت الجماعي.
تقول: "لنفهم هذه اللحظة علينا أن نحاول تخيل حجم الحب الذي يأتي من احتضان العائلة كاملة بعضها بعضاً تحت القصف ومع احتمال الموت في أي لحظة، هذا ليس نوعاً عادياً من الحب، هذه ليست لحظة عادية من الارتباط العاطفي، ولعلها أقصى حالة حماية التي يمكن أن يؤمنها أهل لأطفالهم".
وتشرح بأن القتل الجماعي يخلق حالة نفسية مختلفة، لا يمكن القياس على الموت العادي لفهمها، لا سيما حين يصبح الموت هو القاعدة وليس الاستثناء.
لا ليس رحمة... بل مجزرة
تقول الشاعرة فاتنة الغرة المقيمة في غزة لرصيف22: "جملة الموت مع الجماعة رحمة، موجعة جداً، للوهلة الأولى خطر ببالي أنها صحيحة، وقد سمعتها من الناس كثيراً في هذه الأيام في غزة، أي أن لا أبقى وحدي وأضطر أن أعيش مع ألمي إذا ماتت عائلتي، خاصة حين نرى شخصاً من الناجين من التفجيرات والدمار ويكون هو الوحيد الذي ظلّ من كل عائلته".
ثم تعود وتتساءل هل الموت مع الجماعة رحمة فعلاً؟ ولمن؟
تقول: "حين يظل ولو شخص واحد حي من العائلة فهذا معناه أن هذه العائلة ستعيش وسيكون لها اسم في الدنيا، وسيظل هذا الذي نجا من الموت كدليل حي على أن هذه العائلة وهؤلاء الناس وهذه الحيوات كانت موجودة، وكان لهم قصص وذاكرة وأعمار تسرد وتقال".
فاتنة الغرّة: "حين ينجو واحد من عائلة فهذا معناه أن عائلته ستعيش، وسيظل هو الدليل على أن هذه العائلة كانت موجودة، وكانت لهم قصص وذاكرة، وهذه أيضاً رحمة.
وتضيف: "برغم كل الآلام التي تحملها فكرة الفقد وأن تفقد عدداً كبيراً من عائلتك أو كلها. لكن أن يكون هناك شاهد على هذه البشاعة ليروي ما حدث بالنسبة لي أرحم ألف مرة، الناس يجب أن يظل لها صوت برغم كل الوجع والألم، نحن نعيش أهوالاً لا يمكن تخيلها، ونعرف بعدم وجود ملاذ آمن ولا يمكن أن نقول إلا يا رب أنقذ ولو جزءاً من أهالينا".
وتشير إلى أن كثيراً من العائلات تفعل العكس وتكون متوزعة في أماكن متعددة بحيث إذا مات البعض سيعيش البعض الآخر، "الموت مع الجماعة اندثار لقصة الجماعة وتاريخ الجماعة وتاريخ الجماعة، غزة يجب أن يظل لها ناس يتكلمون، يتحملون وجعهم ليكونوا الشهود ويخبروا ما الذي حدث".
وتروي: "قبل يومين سألتني ابنة أخي هل أريد أن أشرب، فقلت لها نعم، فأحضرت لي كأس ماء فاستغرقت بالبكاء لأن الماء كان بارداً وعزّت علي نفسي. من سيروي هذه القصص غيرنا؟ من لغزة سوى الشهود الذين سيظلون ويتحملون الوجع ليقولوا ما الذي حدث فعلاً؟"
طبّعنا حياتنا مع الموت
جيهان مهدي أم لطفل عمره 5 سنوات، وقد غيّرت 3 أماكن سكن منذ بداية الحرب بعد أن تدمر منزلها الجديد، تقول: "أعرف ما الفرق بين الخيارين، حين تكون العائلة جديدة والأبناء صغاراً، يحتضن الأم والأب صغارهما كي يموتوا سوياً، أما العائلات التي عمر أفرادها أكبر ولديهم أطفالهم ومنازلهم المستقلة، فيتوزعون في أكثر من بيت، بحيث إذا مات أخ أو أخت يجد خالة أو عماً ليعتني بالأطفال".
جيهان من غزة: "الفرق أن العائلات التي لديها أطفال تحتضنهم حتى الموت، أما العائلات الأكبر عمراً فيتوزعون في مناطق مختلفة، بحيث إذا ماتت عائلة ونجا أطفالها سيجدون عماً أو خالة لاحتضانهم"
وتشير إلى أن الأطفال الأيتام صاروا مشكلة كبيرة في غزة اليوم، فالصغار الذين ماتت كل عائلاتهم، يواجهون مشكلة إخراجهم من المستشفيات بدون وصاية، "لمن سيرمونهم؟ المستشفيات أيضاً بحاجة للأسرة؟ وأحياناً لا أحد يتعرف على الصغار لا سيما الرضع أو المشوهين، ولا يجدون أقارب من الدرجة الثانية أو الثالثة، أو يكونون قد نزحوا"، تقول.
وتختم: "لقد طبّعنا حياتنا مع الموت والألم، نحن لا نكتب وصايانا، فالجميع يعلم ما المطلوب منه، لكن اليتم في غزة ليس كاليتم في أي مكان في العالم، فاليتم لن يجد في المرة القادمة من يحتضنه ليموت معه، وغالباً سيموت اليتيم وحيداً إن لم يكن في حضن أمه وأبيه، ففي زاوية غرفة في القصف القادم".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين