شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
قصص

قصص "الطفل الناجي في غزة"… الموت يملأ المستقبل

ليس فيلماً أمريكياً لبيتر غوتيرغ، إنما هي قصص حقيقية أبطالها أطفال ورضّع فلسطينيون في غزة، قتلت صواريخ الطائرات الإسرائيلية عائلاتهم، بينما كانوا آمنين نائمين، ليتحولوا إلى ناجٍ وحيد شاهد على فصول الجريمة، كفرع شجر يترعرع وحيداً على جانب الطريق، هشاً قلقاً أمام الغارات.

ففي أولى الصور، يظهر رضيع نجا من قصف الاحتلال في قطاع غزة ملفوفاً برداء ملطخ بالدم ورأسه الصغير مصاب بخدوش، بينما لُفّت يده بضمادة، ولم يُعرف الاسم الذي منحه إياه ذووه عند ولادته. قُدّر لهذا الطفل أن ينجو وحده من العدوان الإسرائيلي، الذي استهدف مبنى تقطنه عائلته في قطاع غزة. تقول العاملة في القطاع الطبي إنه نُقل إلى مركز عملها من مستشفى كمال عدوان، وإنه لا معلومات حول هويته.

كان أنس صابر (عامان)، محظوظاً برغم ما حلّ به من مأساة، فهو على الأقل يحتفظ باسمه ولقبه، منذ انقض الموت على عائلته فنجا هذا الصغير وحيداً.

على الجانب الآخر، وبرغم أن أهالي القطاع ومنهم عائلة الطفلة تالا أبو دقة، مجمعون على فكرة واحدة، وهي أن يناموا مع أبنائهم جميعاً في الغرفة نفسها حتى إذا نزلت قذيفة على البيت، يموت كل أفراد العائلة معاً كي لا يبقى أحد حياً، ويتحسّر على الأموات، إلا أن القدر سبقهم، إذ فقدت الطفلة والديها وأشقاءها، فيما تمكنت طواقم الدفاع المدني من انتشالها من بين الأنقاض، ليحتضنها عمها الذي فقد هو الآخر بقية أفراد عائلته.

أعداد هؤلاء الأطفال، ممن فقدوا عوائلهم، وصُنّف قسم منهم مجهولي الهوية، بالعشرات، خاصةً لعدم تمكّن الطواقم من رفع أنقاض الكثير من المباني والشقق السكنية التي قُصفت على رؤوس ساكنيها، وبعضهم يقطن وحيداً في زوايا مشافي القطاع، وآخرون تولّى أمر رعايتهم بعض المواطنين النازحين بشكل مؤقت.

أطفال غزة لا يصنعون العبوات في أوقات فراغهم، بل هم كسائر أطفال هذا العالم، يحبون الألعاب والحلويات ويخططون لرحلة المدرسة ويتحمسون لأي مغامراتٍ جديدة (سِوى الحرب). كان من المفترض أن "يصبحوا على خير". وعلى الرغم من هذا كله، قتلت إسرائيل ومنذ بداية الحرب التي تشنها على غزة، ما يزيد عن 3240 طفلاً، فيما لا يزال 1020 آخرون تحت الأنقاض، وتشكل نسبة الأطفال والنساء من حصيلة الشهداء 70%، ووفقاً لمعلومات وزارة الصحة الفلسطينية، فإن هناك على الأقل 55 عائلةً بأكملها تضررت من الهجمات وتركت أطفالها من دون ذويهم.

اتفقت العائلة أن تنام في الغرفة نفسها حتى إذا نزلت قذيفة على البيت، يموت كل أفرادها معاً كي لا يبقى أحد حياً، ويتحسّر على الأموات، لكن هذا ما لم يحصل، القذيفة نزلت، ماتت العائلة وبقي منها الطفلة الصغيرة

مدير مستشفى الشفاء الدكتور محمد أبو سلمية، قال إن بعض الأطفال سُجّلوا كمجهولي الهوية، "لعدم القدرة على التعرف عليهم، أو لأن أهلهم قُتلوا تحت القصف، مؤكداً أن عددهم يفوق الـ70 أو 80 طفلاً، وبحسب من يصلون إلى المستشفى فإن 50 إلى 60% من المصابين هم من الأطفال والنساء.

وقالت منظمة إنقاذ الطفولة، إن أكثر من مليون طفل "محاصرون" في غزة، دون مكان آمن يذهبون إليه، وحذرت من الآثار المدمرة لنقص الأدوية والكهرباء لتشغيل البنية التحتية الصحية الحيوية في القطاع.

ودعت المنظمة جميع الأطراف إلى اتخاذ خطوات فورية لحماية حياة الأطفال، وطالبت المجتمع الدولي بدعم هذه الجهود، مضيفةً أن الغارات الجوية الإسرائيلية "تقتل وتجرح الأطفال بشكل عشوائي".

المصير المجهول

تقول الناشطة في مجال حماية الطفل إلهام أبو مصبح، إن "أطفال قطاع غزة يعانون الكثير من المآسي، ويعيشون تحت ظروف قاسية، وحرمان لأبسط حقوقهم، وتتفاقم هذه الظروف بشكل كبير بعد كل حرب، فيُقتل الكثير منهم ويصاب آخرون بإعاقات متعددة، ومشكلات نفسية صعبة، ويفقد البعض منهم عائلاتهم بشكل كامل، ويواجهون في ما بعد مصيراً مجهولاً ومعقداً. ولعدم توافر بيئة آمنة وحاضنة لهم، يتشتت عدد منهم، بينما يضطر آخرون إلى البقاء مع أقاربهم، سواء من العائلة الممتدة أو البيولوجية".

وتضيف في حديثها لرصيف22، أن "الأطفال في غزة يفتقرون إلى حاضنة لرعايتهم، بالأخص الأطفال الذين تأثروا بالحروب وفقدوا أهاليهم، فهؤلاء حيث هم يعانون من اضطهاد وحرمان، فالقطاع يفتقر إلى مركز إيواء لهذه الفئة ولا تتوفر الإمكانات المادية والمعنوية لإنشاء مركز إيواء خاص بالأطفال المتضررين من الحروب".

وتضاءلت خلال السنوات الماضية مشاريع الدعم النفسي للأطفال الفلسطينيين في القطاع، لضعف التمويل الدولي واتجاه الدعم العالمي إلى المتضررين في الحرب الأوكرانية، باستثناء وجود ملجأ أيتام واحد، وهو معهد الأمل للأيتام، والقبول فيه ضمن معايير محدودة وفئة عمرية معينة، كما توجد قرية للأطفال sos وهي تعمل وفق المعايير نفسها غالباً، ولا يُشترط أن يكون الطفل فاقداً الأبوين أو أحدهما. وهي تعمل على إخراج الأطفال في عمر 18 عاماً، وتفصلهم في أثناء فتره تواجدهم فيها عن المجتمع.

وتشير أبو مصبح، إلى أنه "ولعدم توفر الإمكانات والخبرات الخاصة في تقديم الرعاية الكاملة لفئة الأطفال المتضررين من الحروب وغير المصحوبين، فإن بعض الأطفال لا يوجد لهم ملجأ، وتالياً يتعرضون للعنف، وهم الفئة الأقل حظاً والأكثر تهميشاً في المجتمع، وهذا يجعل واقعهم هشاً فهم معرضون للإساءة بجميع أشكالها وأنواعها، والاستغلال وأحياناً يتم حرمانهم من فرص التعليم".

لعدم توفر الإمكانات والخبرات الخاصة في تقديم الرعاية الكاملة لفئة الأطفال المتضررين من الحروب وغير المصحوبين، فإن بعض الأطفال لا يوجد لهم ملجأ، وتالياً يتعرضون للعنف

دائماً ما يدفع الأطفال ثمن الحروب النظامية والأهلية والنزاعات والاعتداءات المسلحة أضعافاً مضاعفةً، ليس فقط لأنهم عرضة للقتل والإصابات البالغة التي تؤدي إلى العجز الجسدي على اختلاف أنواعه ودرجاته، ولكن أيضاً للآثار والرواسب النفسية المؤذية التي قد تلازم الفرد بقية حياته ولا يستطيع منها فكاكاً.

فعندما نتحدث عن مصطلح "الطفل الناجي أو الإنسان الناجي"، خاصةً في السياق الاستعماري الذي نعيشه كفلسطينيين، وتحديداً الحروب الأخيرة على غزة، وآخرها ما زالت قائمةً، فإننا نشير إلى عبء الدور النفسي الكبير الذي يعيشه الطفل، وهو يشعر بأنه بلا حضن دافئ يعانق فيه من كان يرعاه ويعتني به، وبيت آمن يأوي إليه.

محاولات النجاة

تشرح الباحثة في العلوم النفسية والاجتماعية، دعاء عبد الحميد، الآثار النفسية التي تلازم هؤلاء ما بعد الصدمة، قائلةً: "لسوء الحظ ومع الأسف الشديد، في كل صراع أو نزاع حرب، أول من يتلقى تأثيرات الحرب وممارساتها اللا شرعية واللا أخلاقية، هم الأطفال، إذ يُجبرون على مشاهدة ومعايشة مواقف كثيرة من القتل والدماء والقصف والنزوح، والانتقال من مكان إلى مكان بهدف الحصول على الأمن والأمان، وتوقف عملية التعليم والحياة الاقتصادية والاجتماعية، عدا عن مشاهد الموت لأفراد أسرهم والفقدان في أثناء الحرب وما تحمله من ممارسات فظيعة ومدمرة كالمجازر والأشلاء، وغيرها الكثير مما لا يخطر على عقل بشر".

مع ذلك، تبقى صدمة الانفصال الجسدي والعاطفي عن العائلة أو الوالدين أو أحدهما، من أكثر صدمات الحروب التي يعاني منها الأطفال، ويظهر تأثيرها بشكل مباشر على جوانب شخصيتهم النفسية والسلوكية والعاطفية والمعرفية؛ لأن الحرب بالنسبة للطفل لا يمكن إدراكها، فهي كالوحش الذي يأكل ولا يرحم، يهدم الأحلام ويحطم المعنويات، وهذا ينعكس سلباً على الطفل لأن في اعتقاده أن البيت والعائلة هما الملاذ الآمن، فلما قُصف البيت، ورحلت عنه عائلته، لم يعد هنالك أمن وأمان. ببساطة فإن إدراك الطفل لمفهوم الأمان، هو بيت وعائلة، فلماذا يُحرم منهما؟

يبدأ التكوين النفسي لشخصية الطفل، بحسب الباحثة عبد الحميد، "بممارسة آليات نفسية شعورية ودفاعية ليحمي الأنا ويحاول استيعاب ما يحدث. ومع الأخذ بعين الاعتبار شدة الموقف الصادم الذي تعرض له الطفل، ومدته الزمنية، عدا عن شخصية الطفل وخصائصها كالتقبل والتكيف والمرونة النفسية بالإضافة إلى خبرات عنف سابقة كمعايشة حروب وأحداث سياسية صعبة متكررة، تتفاوت الاستجابات النفسية والسلوكية للطفل مثل التعلّق الزائد بأقرب شخص موجود معه، الصمت/ الخرس الانتقائي، القلق، مشكلات سلوكية، اضطرابات النوم، اضطراب ما بعد الصدمة، الاكتئاب، اضطرابات المزاج المشوش/ أو التخريبي، التبول اللا إرادي، اضطرابات الطعام وغيرها من المشكلات والصعوبات التي سيعاني منها الطفل".

الطفل الناجي يعاني من أعراض صدمة نفسية يحاول فيها تفعيل آليتيّ إنكار حقيقة الوضع الذي هو عليه، ومحاولة اختبار الواقع وتفحصه وذلك يكون بعزل أنفسهم

وفي سؤالنا عن أبرز احتياجات هؤلاء الناجين الوحيدين من الأطفال، تقول لرصيف22، إن "أبرز احتياجات الطفل خلال الحرب وبعدها، تتركز جُلّها في البقاء على قيد الحياة، أي محاولة النجاة بأقصى قدر ممكن، وذلك يكون من خلال البحث عن الأمان كحاجة إنسانية وبشرية، أي الشعور بالأمان العائلي على الأقل في فترة الحرب، بأني مع عائلتي، مع أناس أعرفهم ويعرفوني. إلا أنه عند الحديث عن احتياجات الطفل الناجي ما بعد الحرب، في ظل حقيقة أنه لم يعد هنالك شخص قريب منه يلجأ إليه ويعيش معه ويحتويه؛ فهذا يعني أن الطفل الناجي يعاني من أعراض صدمة نفسية يحاول فيها تفعيل آليتيّ إنكار حقيقة الوضع الذي هو عليه، ومحاولة اختبار الواقع وتفحصه وذلك يكون بعزل أنفسهم عن الانخراط في الحياة الاجتماعية والدراسية وأي مجالات من شأنها أن تبني أساليب تكيّف عند الطفل الناجي".

خلاصة القول، يجب أن يكون هنالك دور فاعل لمساعدة الطفل الناجي في التعافي مما مرّ به، بهدف تلبية احتياجات النفسية والاجتماعية، وذلك يكون بتجنيبه العجز المكتسب؛ لأن هذا يمكن أن يفاقم من الشعور باليأس والمعاناة (تقلبات مزاجية وشعورية سلبية بين غضب وإحباط وحزن)، وزيادة الإجهاد والتوتر، وتطوير الاستعداد للإصابة بالأزمات والاضطرابات النفسية، وتدهور الصحة العامة، وانخفاض جودة الحياة، وفقدان الأمل في إجراء تحسن في حياتهم، وفقاً لرأي المختصة دعاء عبد الحميد.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

نفكر بالأطفال من أجل اليوم والغد

"هيك متعودين. هيك كانوا يعاملونا أهلنا"، وغيرها من الإجابات الجاهزة، تؤدي إلى تفادي التغيير.

المستقبل المشرق، هو أن يعيشوا في أيامنا هذه حياةً سليمةً.

كيف؟

عبر تسليط الضوء على قصصهم، وما يؤثر في حيواتهم، والمطالبة بحقوقهم وحسن تربيتهم.

من خلال التقارير والمقالات والحوارات، يمكن للإعلام أن يدفع نحو تغييرات في السياسات التربوية، وأن يعزز الحوار الاجتماعي حول قضايا الأطفال.

معاً نطرح القضايا الحساسة المتعلقة بسلامتهم النفسية والجسدية والبيئية والمجتمعية.

حين نرفع أطفالنا على أكتافنا، نرى الغد بعيونهم كما لو يكون الآن.

Website by WhiteBeard
Popup Image