شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!

"عاجل" إلى الأبد... غزّة وخطر التخدير الإعلامي

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة نحن وحرية التعبير

الأحد 29 أكتوبر 202304:05 م
Read in English:

Media numbness: Are we desensitized to the war on Gaza?

في دراسة نُشرت منذ أكثر من 30 عاماً عن جامعة أكسفورد، عن علاقة المؤسسات الإعلامية بتشكيل الرأي العام، استنتج الباحثون أن الإعلام هو الذي يفرض أهمية الخبر على المشاهد وليس العكس، وحين سأل الباحثون الناس عن أهم القضايا الحالية، كرّروا ما يتداوله الإعلام من أخبار حصراً، بمعنى أن الإعلام هو الذي يقرّر ما المهم وليس الناس.

النظرية السابقة اسمها "ترتيب الأولويات الخبرية"، وتعني أننا كجمهور نتبنى أهمية الخبر بحسب ترتيبه في النشرة الإخبارية وليس بحسب اعتقادنا الشخصي بأهميته، فعقولنا، وبشكل تلقائي، تستشفّ أن الخبر الثاني أقل أهمية من الأول.

هذه المقدمة ضرورية جداً لفهم ما هو التخدير الإعلامي، وما الذي تعرّضنا له، كشعوب عربية،في الحروب السابقة في سوريا والعراق وليبيا واليمن، وما الذي نتعرّض له حالياً نتيجة "طبيعة" التغطية للحرب على غزة، والأهم، بماذا أثّر التخدير الإعلامي، الذي تعرّضنا له في السابق وما زلنا نتعرّض له، على التحرك الشعبي وقوة الرأي العام؟

عاجل… ما هو التخدير الإعلامي؟

هو التوقف عن الشعور بأهمية الخبر نتيجة تكراره بنفس الوتيرة لفترة طويلة، وبغض النظر عن ضخامته أو أهميته، ويتكون من ثلاث مراحل، هي الإجهاد الإعلامي، الإشباع الإعلامي فالتخدير الإعلامي.

قد يبدو التعريف بعيداً عن التحقق لوهلة، فهل يمكن أن نعتاد على أخبار الموت من غزة؟ 

يحدث التخدير الإعلامي عند المشاهدين في الحروب الطويلة، حيث يفقدون اهتمامهم ودهشتهم مما أمسى خبراً يومياً معتاداً، فهل هذا مصير أخبار غزّة؟ 

الجواب نعم، يمكننا أن نعتاد عليها إذا صارت جزءاً من يومياتنا، لكن الاعتياد لا يعني التقبّل أو الاستسلام أيضاً، فإذا تذكرنا كيف "تعوّدنا" على أخبار الحرب في العراق، ومن بعدها سوريا واليمن، سنكون اقتربنا قليلاً من فهم ما الذي يحدث أو سيحدث إذا ظلت أخبار الحرب في غزة تأتي بهذه الوتيرة الثابتة، وإذا لم تتغيّر طبيعة التغطيات نفسها.

آليات الإشباع فالتخدير معروفة وبسيطة، سيظلّ الخبر على الشاشات لفترات طويلة، وسنقرأ كلمة "عاجل" طوال الوقت على كل الأخبار، بغض النظر عن تفاوت أهميتها، وستغرقنا المحطات الإخبارية بالتحليلات، وسيفتح الهواء أو البثّ المباشر للمراسلين لأوقات طويلة جداً وبنبرة هادئة وثابتة "مونو تون"، باختصار: أول آلية للوصول للإشباع هي إلغاء "الأولويات الخبرية" التي شرحها التقرير في المقدمة، والاكتفاء بخبر واحد، ومن ثم التنويع عليه، كما يحدث اليوم في تغطية أخبار الحرب على غزّة.

خطورة التخدير الإعلامي

تقول خبيرة الإعلام والاتصال يسر حسان: "التأثير الكمّي للمحتوى الإعلامي يؤدي إلى محاصرة المتلقين بكمية كبيرة من الأخبار والرسائل، ما يقللّ من قدرتهم على استيعاب ومعالجة ما يصلهم بالسرعة اللازمة، وبالتالي ينعكس سلباً على قدرتهم على تشكيل آرائهم المستقلة، ويجعلهم يقبلون ويُسلّمون بما يصلهم من دون تفكير فيه".  

الخوف كله من أن تصبح أخبار الحرب على غزّة متوقعة ويومية بما يكفي أن يجعلها الخبر الثاني في نشرة الأخبار

وتضيف في تصريحها لرصيف22: "ما أراه أشد خطورة هو التخدير الإعلامي الناتج عن تكرار المادة الإخبارية، والتي أخشى أن تؤدي إلى عدم المبالاة وفقدان الاهتمام مع التكرار ومرور الوقت، أو الاكتفاء فقط بالاطلاع والمعرفة، فعلى الرغم من الدور المهم والمؤثّر الذي لعبه الإعلام، خاصة في السوشال ميديا، في فضح الانتهاكات الإسرائيلية والإجرام، إلا أن علينا أن ندرك أنه إذا طالت هذه الحرب فإن الضجيج الإعلامي غير المدروس سيخلق حالة من التعوّد عند الناس، من الممكن أن تفقدهم الاهتمام والرغبة في التحرّك، أو على الأقل اليأس منه".

اليوم، هناك تخوّف حقيقي من أن تصبح أخبار الحرب على غزّة متوقعة ويومية بما يكفي لأن يجعلها الخبر الثاني في نشرة الأخبار، فهل هذا ممكن، وكيف نقاوم التخدير الإعلامي الذي قد تتعرّض له غزّة ونتعرض له نحن؟

أولاً... الاقتراب أكثر من القصص

السؤال المهم هنا هو عن دور الإعلام في تغطية الحروب أو الأحداث الطويلة، بدون تعريض المشاهدين للتخدير الإعلامي. عن هذا السؤال يجيب رصيف22 الصحافي المتخصّص في حقوق الإنسان، ومراسل منظمة "مراسلون بلا حدود"، محمد شما. يقول: "تكرار الخبر المتعلق مثلاً بعدد الشهداء، سيشعرنا بالتآلف مع الحدث مع مرور الوقت، فيرى الواحد منا نفسه عدّاداً أو موثّقاً لعدد الضحايا... على الإعلام أن يعطي إضاءة على حياة من فقدوا أحبتهم مثلاً، وكيف تحولت حياتهم، أو الذين فقدوا حياتهم، وتفاصيل يومياتهم، هذه التغطية قادرة أن تحدث فرقاً". 

خبيرة إعلام: "الأحداث الطويلة تؤدي إلى محاصرة المتلقين بكمية كبيرة من الأخبار والرسائل، ما يقللّ من قدرتهم على استيعاب ما يصلهم بسرعة، وعلى قدرتهم على تشكيل آرائهم المستقلة، ويجعلهم يَقبلون ويُسلّمون بما يصلهم دون تفكير فيه" 

ويشير إلى أن التغطية اليوم تركّز على الانفعالات وحالات الهلع والغضب والبكاء، وجمل من نوع "كلنا فداء فلسطين" و"حياتنا مش غالية"، لكننا لا نسمع الناس تتحدّث عن غير ذلك، والكاميرا لا تتوقّف إلا عند حجم الدمار.

ثانياً… إعادة رواية سرديتنا للعالم

إصرار الإعلام الغربي على السردية من وجهة نظر إسرائيل هو أكثر ما قد يسبب التخدير الإعلامي للمشاهد الغربي، فوجود الأجوبة الجاهزة على الطاولة، وتكرارها وفق نمط ثابت لا يطرح أية تساؤلات، قد يؤدي إلى ملل المشاهدين من محاولة فهم المزيد، سيّما إذا كانت وجهة النظر الأخرى، أي العربية، تعاني أصلاً من التنميط والإسلاموفوبيا، الأمر الذي يسهّل على المتلقي الغربي تقبّل وجهة النظر الإسرائيلية.

لأننا نعلم تاريخنا منذ بداية القرن، لا نستطيع أن نفترض بأن المواطن الغربي يعلمه مثلنا، بل علينا أن نفترض العكس، أي أن القصة مجهولة وغامضة وغير مفهومة، وأن دورنا يقتضي تكرار سرديتنا في كل مرّة، ليفهم العالم طبيعة هذه القصة وحقيقة هذا الصراع.

هنا تشير حسان إلى دور وسائل التواصل الاجتماعي كمعطى، أو حتى كسلاح جديد، في الحرب الحالية، وإلى قوتها التي كسرت الصوت الواحد عند الإعلام الغربي للمشاهد الغربي، وساهمت بإطلاعه على السردية الفلسطينية. فتقول بأن "المنتصر اليوم هو من سيقنع العالم بسرديته، وإن واجب الإعلام والمشاهد العربي هو إعادة هذه السردية والتأكيد عليها وتكريسها بأكثر من طريقة، وليس وفق نمط وخبر واحد وثابت قد يؤدي إلى الملل". 

التركيز على القصص الإنسانية، وتنويع أساليب عرض الخبر، والإصرار على رواية سرديتنا للعالم، من أهم طرق مقاومة التخدير الإعلامي اليوم  

يقول شما: "الفكرة متعلقة بالسرد والرواية، من يملك الرواية؟ الذي يملكها هو الإعلام الذي يعمل على الأرض، حيث يصبح الصحافي مثل الآلة، فالمطلوب منه مواكبة الجرائم والأحداث أولاً بأول، وبالتالي مع الوقت يفقد الحسّ، أو ربما لا يملك ترف الوقت لكي يعطينا أبعد من وجوه الضحايا والمتأثرين من الحرب على غزّة".

ثالثاً… "ليسوا أرقاماً"

الخروج من الأرقام إلى الأسماء أيضاً يساهم في كسر الإيقاع الإخباري الذي قد يؤدي إلى الإشباع، فالتخدير الإعلامي. شعار "ليسوا أرقاماً" ساهم بشكل كبير في تحويل الأرقام إلى أشخاص، وإلى الإضاءة على قصص الضحايا وهوياتهم.

مثلاً نشر صور الصحافيين الذين قضوا في الحرب بالأسماء والجهات التي كانوا يعملون لديها، أو تصميم جرافيك فيه أسماء جميع الشهداء والمفقودين وتلوين الاسم بحسب الفئة العمرية.

يقول الكاتب والصحافي المصري سيد محمود، في هذا السياق، لرصيف22: "منذ سنوات، حذّر ابراهيم نصر الله من تحوّل الفلسطيني إلى رقم، ومن قبله حذّر محمود درويش من اعتياد الأخبار، ولكنه تحدّث أيضاً، في مقال مهم نشره في الأهرام في بداية السبعينيات بعنوان (أنا وأنت والحرب الباردة)، عن الخوف المتبادل بين الفلسطيني والإسرائيلي، وركّز على خوف الإسرائيلي الذي تتراجع حجته في القتل ويفقد معاييره الأخلاقية كل مرة، ولذلك يتراجع أمله في المستقبل مهما تمكّن من حسم معاركه، وهنا مصدر الخلل في التناول الإعلامي لأخبار الحرب".

من جهتها، تؤكد مديرة حاضنة مدرج لريادة الإعلام الرقمي، روان الجيوسي، على الفكرة السابقة. تقول: "لا يمكن نسيان الوجوه والقصة الإنسانية، ولكن يمكن نسيان الأرقام المتتالية يومياً لأعداد الضحايا والجرحى، فتصوير مبنى بعد التفجير لا يشبه رواية قصة سكان هذا المنزل ومصيرهم، وعملية تقديم الأرقام بتحليل معمّق يحفّز الذاكرة، ويترك علامة فارقة تجعل تجاهل المعلومات غير دقيق".

وتشير في جديثها مع رصيف22 إلى مساهمة "الاستديو المفتوح" والبث المباشر كطريقة تغطية بتوفير كم من المعلومات المكرّرة، الأمر الذي قد يجعل العاجل وغير العاجل سواء، وبرأيها فقد تساهم كثرة استضافة محلّلين، لا يقدمون تحليلاً بل مجرّد آراء، في تفريغ القضايا من عمقها.

الإجهاد الإعلامي… سوريا والعراق واليمن كأمثلة

سابقاً، تعرّض المشاهد في كل العالم، بما في ذلك المشاهد العربي المرتبط أكثر من غيره بالأحداث، للتخدير الإعلامي في أخبار العراق، ومن بعدها سوريا فاليمن، فالإشباع حدث بسبب تكرار الأخبار أو المعلومات عبر وسائل الإعلام بشكل متكرّر ومتواصل، ومهما كانت مدهشة أو مؤثرة، يمكن الاعتياد عليها.

أسوأ ما يمكن أن يحدث هنا هو تراجع تحرك الرأي العام، ورغبة المجتمعات في التدخّل في صناعة القرار السياسي، سواء من خلال المنشورات على مواقع التواصل، أو المظاهرات، أو حركات المقاطعة.

فالإجهاد العقلي يتسبّب بتقليل تعدّد وجهات النظر والرؤى، ما يقللّ من قوة الرأي العام، وهنا لا بد من طرح تساؤل سريع حول المسؤولية الأخلاقية للمنابر الإعلامية والعاملين فيها، سواء من يرفضون المساهمة في تزييف الأخبار أو في التخدير الإعلامي، الأمر الذي شاهدناه مؤخراً في الاستقالات الجماعية التي قدّمها عدد من الصحافيين من BBC، بسبب رفضهم لسرديتها في تغطية الحرب على غزّة.

يشير سيد محمود إلى أن محرّر الأخبار في الفضائيات والصحف العالمية ينفّذ سياسات جهة العمل، لكنه لا ينتبه لمأزقه الأخلاقي مهما كانت قناعاته المضادة، ولا يفكّر في طرح سؤال أو التفكير في القتيل وسرديته المقاومة.

يضيف: "نتعلّم دوماً التمسّك بالمعايير المهنية وتحرّي الدقة ومراجعة المصادر، لكننا لا نجد من يضع هذه السياسات وكرّاسات الأسلوب ملتزماً بها أبداً، ثم يطلبون منا أن نراجع أفكارنا ونتجاوز التفكير في المؤامرة، وأنا لا أعرف كيف لي أن أفعل ذلك وأمامي قتيل وشهيد يدافع عن الأرض التزاماً بتعريف القانون الإنساني الدولي، بينما القاتل يلقي بالقانون في سهلة المهملات". 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

منبر الشجعان والشجاعات

تكثُر التابوهات التي حُيِّدت جانباً في عالمنا العربي، ومُنعنا طويلاً من تناولها. هذا الواقع هو الذي جعل أصوات كثرٍ منّا، تتهاوى على حافّة اليأس.

هنا تأتي مهمّة رصيف22، التّي نحملها في قلوبنا ونأخذها على عاتقنا، وهي التشكيك في المفاهيم المتهالكة، وإبراز التناقضات التي تكمن في صلبها، ومشاركة تجارب الشجعان والشجاعات، وتخبّطاتهم/ نّ، ورحلة سعيهم/ نّ إلى تغيير النمط السائد والفاسد أحياناً.

علّنا نجعل الملايين يرون عوالمهم/ نّ ونضالاتهم/ نّ وحيواتهم/ نّ، تنبض في صميم أعمالنا، ويشعرون بأنّنا منبرٌ لصوتهم/ نّ المسموع، برغم أنف الذين يحاولون قمعه.

Website by WhiteBeard
Popup Image