شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
رغم طمس القضية الفلسطينية في مناهج التعليم المصرية... فلسطين حية في قلوب الأجيال الجديدة

رغم طمس القضية الفلسطينية في مناهج التعليم المصرية... فلسطين حية في قلوب الأجيال الجديدة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة نحن والتاريخ

الأربعاء 1 نوفمبر 202310:20 ص

بقراءة الكتاب الهام "التطهير العرقي فلسطين" للمؤرخ الإسرائيلي إيلان بابيه، والذي رشّحه أكثر من صديق للقراءة بعد السابع من أكتوبر، هالني كمّ التفاصيل التي أغفلتها في معرفة ما حدث فعلاً على الأرض في نكبة 1948، واستأت من جهلي الطويل الذي اختزلت ذاكرته ما حدث فعلاً في حرب خائبة من الجيش الصهيوني ضد الجيوش العربية الضعيفة المسلحة بأسلحة ضعيفة، ربما ذاكرتي قد أضافت مجزرة أو اثنتين لنكبة 48، أبرزها دير ياسين.

أعترف بجهلي وأقرّ به، ولم أكن محقاً حين ظننت أن ما شهده عمري، من مذابح حية ومعاصرة، كان كافياً للفهم، فبجانب التفاصيل المذهلة والشجاعة من جانب بابيه في كتابه، فقد كانت كلها متوفّرة في مصادر أخرى، فقد ساهم الكثير من المؤرخين الفلسطينيين، كوليد الخالدي، في توثيق الجرائم المروعة التي ارتكبها جيش الاحتلال في عام 1948، قبل دخول جيش الإنقاذ العربي، من تهجير ومجازر وتطهير عرقي واستخدام أسلحة محرّمة دولياً وإعدامات ممنهجة وتدمير بيوت من شاركوا في المقاومة وعائلاتهم، من خلال امتلاك السجلات المدنية للقرى وأسماء العائلات، التجويع، الحصار، قطع المياه، تلويثها بجراثيم التيفود.

قرار امتلاك فلسطين بأكملها وإقامة دولة يهودية خالية من العرب هو القرار المتخذ من قبل هجرة اليهود إلى فلسطين في أوائل القرن العشرين، أي قبل النكبة نفسها بنصف قرن على الأقل، تهويد الأماكن العربية بالكامل، محاصرة القرى العربية القليلة المتبقية بمستوطنات وطرق تقطع الطريق بينها وبين باقي القرى العربية، وكلها بلا استثناء، سياسات واصلت إسرائيل ارتكابها بخبرات أكثر، منذ 48 وحتى يومنا هذا.

بالتأكيد أن تأتي ذكر تلك التفاصيل من جانب مؤرخ إسرائيلي في الأساس، غلب ضميره على انتمائه القومي؛ ما دفعه للتقصّي العلمي الجاد، يضفي على القراءة معنى آخر، فهو يشرح لك أيضاً نفسية الإسرائيليين القائمة على الإنكار، ومن خلال وثائقهم، يثبت أن ما حدث في عام 48 وما استمر إلى الآن هو تطهير عرقي

بالتأكيد أن تأتي ذكر تلك التفاصيل من جانب مؤرخ إسرائيلي في الأساس، غلب ضميره على انتمائه القومي؛ ما دفعه للتقصّي العلمي الجاد، يضفي على القراءة معنى آخر، فهو يشرح لك أيضاً نفسية الإسرائيليين القائمة على الإنكار، ومن خلال وثائقهم، يثبت أن ما حدث في عام 48 وما استمر إلى الآن هو سياسة تطهير عرقي، بلا مواربة أو إنكار أو تزويق اعتدناها الآن من جانب متصهينين عرب، وقد قارنه بابيه بوضوح مع جرائم التطهير العرقي والإبادة التي أقرّها الغرب، كما حدثت على سبيل المثال في البوسنة والهرسك على يد الصرب.

حاولت أن أتذكر كيف ترسّخت في ذهني فكرة اختزال ما حدث في حرب بين جيش منظم وجيوش مفكّكة، فتذكرت أن دراستي في الأساس، في مراحل التعليم الإعدادية والفلسطينية، ركّزت في أغلبها على أفكار، كالأسلحة الفاسدة والدور المصري مع ذكر سطحي للمذابح.

رغم ذلك ظلت فلسطين قضية حية في القلب، فهناك مصادر أخرى غير المدارس، كالإعلام المستقل، بل والرسمي والسينما والكتب، كانت تجعل من القضية الفلسطينية في ذلك الحين طازجة وفي القلب، وتخبرنا بشكل واضح عن ماهية الصراع مع إسرائيل.

وإن كان ذلك لم يمنع أن تنتشر الخرافة السائدة بين العرب- والتي لم أتبناها بالطبع في أي مرحلة- أن الفلسطينيين باعوا أراضيهم لليهود، وأنهم هم من تركوا منازلهم، وهو ما يخبرنا إياه بابيه بوضوح، أن الأراضي التي اشتراها اليهود قبل انتفاضة 1936، التي قام بها الفلسطينيون ضدّ الوجود الصهيوني وسلطة الانتداب البريطاني، لم تتخط 5% من الأراضي الفلسطينية، وتمت كلها في إطار تعايش كوزموبوليتاني اشتهرت به الدول العربية في تلك الفترة، قبل أن يتضح الهدف من الشراء الممنهج للأراضي، فصدر قرار بعد الانتفاضة بمنع بيع الأراضي إلى اليهود، أما باقي الأراضي، فلم يتخل عنها أهلها إلا بالترويع وارتكاب المجازر، وليس كما تروّج خرافات إسرائيل أن الفلسطينيين هم من تركوا الأرض ليفسحوا المجال لجيش الإنقاذ.

خرافات يسهل انتشارها مع تقليص القضية الفلسطينية في مناهج التعليم المصري إلى أسطر قليلة جافة.

*****

وفق دراسة قام بها الباحث عبد الفتاح ماضي، حول الموضوع الفلسطيني في كتب التاريخ المدرسية، نجد أن حضور الموضوع الفلسطيني في التعليم العام في مصر، بدأ في نهاية الأربعينيات من القرن العشرين، وتكثّف حضوره في منتصف الخمسينيات بعد ثورة 23 يوليو 1952، ليصل الأمر إلى ذروته في السبعينيات، إذ يتضمن كتاب "تاريخ العالم العربي في العصر الحديث"، الصادر عام 1974، نحو 42 صفحة عن الموضوع الفلسطيني.

أما بعد معاهدة السلام في اتفاقية كامب ديفيد في 17 سبتمبر 1978، وإنشاء مركز تطوير المناهج، يوضح ماضي أن كتاب "تاريخ مصر والعرب الحديث" لم يستخدم مصطلحات مثل "الاستعمار الصهيوني" أو "الإرهاب الصهيوني" أو الإرهاب اليهودي"، لكن وردت كلمة "إرهابيين وعبارة "الإرهابيين الصهيونيين" عند الحديث عن نسف فندق الملك داود في القدس عام 1946 على يد يهود لإرهاب الانتداب البريطاني على فلسطين، وبدلاً من استخدام كلمة "العصابات اليهودية المسلحة"، ظهرت عبارة "العناصر العسكرية اليهودية" عند الحديث عن حرب 1948.

أما اليوم، وفق دراسة ماضي، ومنذ كتاب "التاريخ" للثانوية العام في عام 2002، وحتى آخر كتاب صادر في عام 2017- 2018، فإن حجم تناول حضور فلسطين والقضية الفلسطينية تقلّص وتبدّلت المفاهيم والمناهج في المقرّرات الدراسية في التعليم العام، مع التوسع في ذكر الحروب العربية الإسرائيلية، والتركيز على الدور المصري تحديداً.

*****

بحسب محمد المنشاوي، الكاتب الصحفي المتخصّص في الشؤون الأمريكية، في مقال نشره بصحيفة الشروق المصرية عام 2016، احتفت الدوائر اليهودية ذلك العام بوزارة التعليم المصرية والتعديلات التي أدخلتها على مناهج التدريس في المرحلة الإعدادية، حيث زعمت تلك الدوائر أن هناك عهداً جديداً بدأت بشائره في العلاقات المصرية الإسرائيلية،

ويعود مصدر هذا الاحتفاء إلى نشر دراسة وافية عنوانها "السلام مع إسرائيل في الكتب الدراسية المصرية: ما الذي تغير بين عهدي مبارك والسيسي؟"، ونُشرت في دورية "تقديرات استراتيجية" عدد أبريل/ مايو 2016، الصادر عن معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي بجامعة تل أبيب.

وأشارت الدراسة إلى أن الصحف والمسؤولين المصريين اختاروا تجاهل ما أشار إليه وردّده الإعلام الإسرائيلي من حدوث تغيرات جوهرية في مناهج التعليم المصرية الخاصة بالمرحلة الإعدادية، فيما يتعلق بإسرائيل ومعاهدة السلام والقضية الفلسطينية وثقافة الصراع مع إسرائيل، وأرجعت الدراسة موقف الحكومة المصرية وموقف الإعلام إلى نقطتين، أولاهما حساسية الموضوع للنظام المصري، وهو ما أدى إلى عدم الحديث عنه داخل مصر، وثانيهما أن حجم التغيير في صورة إسرائيل خلال سنوات حكم السيسي مقارنة بمثيلتها في أثناء حكم مبارك تعد "محدودة في تفاصيلها، وإن كانت عظيمة الأثر في محتواها".

ولا تعتقد الدراسة أن ما تشهده مصر من تغيرات في مناهج التعليم المدرسي حتى الآن يمثل ثورة تعليمية تجاه صورة إسرائيل والصراع معها، وإن كان يمثل خطوات واضحة في الاتجاه الصحيح.

وتتحدث الدراسة تحديداً عن مناهج الصف الثالث الإعدادي، من خلال استعراضها لكتاب "جغرافية العالم، وتاريخ مصر الحديث"، والذي طبعته وزارة التعليم للعام الدراسي 2015‑2016 وتركّز الدراسة على ما تعدّه تغييراً كبيراً في عرض صورة إسرائيل من خلال الترويج لـ "ثقافة الصراع" واستبدالها بالترويج لـ "ثقافة السلام".

هناك جيل مصري ولد ما بعد الألفية، وشاهد بعينيه جرائم التطهير العرقي ضد الفلسطينيين على الأرض، ورغم كل محاولات طمس القضية في مناهج تعليمه، إلا أنه أصبح متوحداً أكثر مع الحق الفلسطيني ضد الجرائم الإسرائيلية

وتذكر الدراسة أن هناك تركيزاً مصرياً جديداً، لم يوجد من قبل، على الترويج لـ "دروس الحرب والسلام مع إسرائيل" والتركيز على القيمة الاستراتيجية للسلام، وترصد الدراسة ثلاثة اتجاهات عامة، انتقلت معها الإشارة إلى صورة إسرائيل من بعد معاهدة السلام، من دولة عدوّة إلى دولة صديقة.

الاتجاه الأول يركز على المزايا الاقتصادية للسلام مع إسرائيل من خلال انتهاء الحروب ومنح مصر الاستقرار اللازم لتحقيق التنمية والرخاء. الاتجاه الثاني يركّز على شرعية إسرائيل كدولة/ شريك في عملية السلام، دون تقديم مبررات أو اعتذارات، وترصد الدراسة أنه، وللمرة الأولى، يتم وضع صورة رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن مع الرئيس السادات بعد توقيع اتفاقية السلام، في أحد كتب هذه المرحلة. ويشمل عرض اتفاقية السلام تحليل أسباب التوقيع عليها، ويذكر أن لمعاهدة السلام مزايا لمصر والعالم العربي، منها ما يتعلق بأهداف أوسع، كمكافحة العنف والتطرّف والإرهاب، دون الإشارة إلى عودة الحقوق المغتصبة. الاتجاه الثالث يعتمد على تقليل عدد الصفحات التي تذكر القضية الفلسطينية والصراع مع إسرائيل مقارنة بما كانت عليه في الماضي، وعلى سبيل المثال، يضم كتاب المواد الاجتماعية لعام 2002 للصف الثالث الإعدادي، 32 صفحة عن الحروب العربية الإسرائيلية، مقابل 3 صفحات للسلام مع إسرائيل، أما كتاب عام 2015، فخصص فقط 12 صفحة للحروب العربية الإسرائيلية، و4 صفحات لعملية السلام مع إسرائيل.

*****

رغم كل شيء، هناك جيل مصري ولد ما بعد الألفية، وشاهد بعينيه جرائم التطهير العرقي ضد الفلسطينيين على الأرض، ورغم كل محاولات طمس القضية في مناهج تعليمه، إلا أنه أصبح متوحداً أكثر مع الحق الفلسطيني ضد الجرائم الإسرائيلية. وعيه المفاجئ وقدرته على تمييز الأمور، هي أبرز ما أثبتته – بالنسبة للكثير من المصريين- حرب السابع من أكتوبر. ما زالت فلسطين قضيتنا جميعاً، واضحة وناصعة، وإن لم نعرف التفاصيل، دورنا جميعا الآن، أن نتعمّق أكثر في الفهم.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image