شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
أحداث غزة بعيون الأنثروبولوجيا... الواقع هارب من التاريخ

أحداث غزة بعيون الأنثروبولوجيا... الواقع هارب من التاريخ

سياسة نحن والتاريخ

الثلاثاء 31 أكتوبر 202303:01 م

عندما درست الأنثروبولوجيا في الجامعة الأمريكية في بيروت، تتلمذت على يد دكاترة هويتهم أجنبية، عاشوا في الشرق الأوسط عمراً أكثر من عمري، ينبذون النظرة الاستشراقيّة، وهم شرقيون بكل ما للكلمة من معنى. 

هؤلاء الأساتذة الجامعيون عاشوا في المجتمعات الفلسطينيّة، درسوها، حلّلوها، ومنهم من كتب رسالته عن الانتفاضة الأولى عام 1987، وآخر عن المقاومة في الفن الفلسطيني، ومنهم من زار قطاع غزّة الذي يتعرّض اليوم لحرب إبادة. قراءة أعمالهم وسماع محاضراتهم كفيلان ليعرف الطالب أنّ الأنثروبولوجيا علمٌ يختاره من يختار المقاومة الفكريّة، ومن يسعى إلى كشف كل مظاهر الاستعمار والعنف الممنهج وأرشفتها وتحليلها.

نشأت الأنثروبولوجيا كعلم مختص ومنفرد في بدايات القرن العشرين، أي أنها يُعدّ من العلوم الإنسانية الحديثة نسبيّاً. استُعملت من أجل دراسة المجتمعات المستعمرة من قبل الأوروبيين، فكان الأنثروبولوجيون جزءاً من الجيوش العسكرية التي تستعمر الشرق. كتب إيفانز بريتشارد، ما يُعدّ اليوم كتاباً من أساسيّات الأنثروبولوجيا السياسيّة، بعنوان "الأنظمة السياسيّة الإفريقيّة". لكن على الرغم من أنّ أعمال بريتشارد، تُعدّ من عواميد دراسات الأنثروبولوجيا السياسيّة، إلا أنَّ الأنثروبولوجيا المعاصرة تنتقد أعماله والمنهج العلمي الذي اتّبعه لما يحمل من عنصريّة ونظرة دونيّة وسوء فهم للمجتمع الإفريقي الذي صنّفه في مجموعات قبليّة مع تبنّي النظرة الاستعمارية تجاه هذه المجتمعات، حيث كتب في مقدّمة كتابه: "نأمل أن يكون هذا الكتاب ذا فائدة ونفع لمن يتولى مهمة إدارة الشعوب الإفريقية"، ما يعني أنّه كُتب لمصلحة المستعمِر وعلى حساب المستعمَر.

تأثر بريتشارد، بروفيسور الأنثروبولوجيا في جامعة أوكسفورد، بالأنثروبولوجي البولندي برونيسلاف مالينوفسكي، الذي درس "المغامرين في غرب المحيط الهادئ"، وهو من أبرز من أنشأوا الإثنوغرافيا الوصفيّة، كجزء أساسي من علم الأنثروبولوجيا وكأساس له، وهو المنهج الذي يعتمد على العيش في المجتمعات وممارسة عاداته وتدوين كل ما يُرى بهدف تحليله واستخدامه في الدراسة الأنثروبولوجيّة.

"لا يمكن للأنثروبولوجيين والأكاديميين التزام الصمت حيال الإبادة الجماعيّة في غزّة، بل تقع على كاهلهم مسؤوليّة شرح خلفيّات هذه الحرب، العنف الممنهج، والغوص في تفاصيل ما يعنيه مفهوم الاحتلال"

وما زالت أعمال مالينوفسكي تُدرّس اليوم في كليّات العلوم الاجتماعية والإنسانية، لكن مع عدّ منهجيّته، خاصّةً طريقة وصفه للسكّان الأصليين، ذات مركزيّة أوروبيّة يطغى عليها التحيّز الجنسي والعنصريّة. والأنثروبولوجيا علم كامل، قائمٌ اليوم على نقد التجربة في مساعدة ومساندة الاستعمار، وعلى جلد الذات، لما قدّمه الأنثروبولوجيون القدماء من خدمات لا محدودة ومن دراسات ونظريات "لمن يتولى مهمة إدارة الشعوب".

التاريخ الأسود

لماذا نتحدّث عن التاريخ الأسود لعلم الأنثروبولوجيا، وهو بالمناسبة من العلوم الاجتماعية الأقل انتشاراً في العالم، وخاصّةً العالم العربي؟ نطرح بكل بساطة التاريخ الأسود لأوروبا الاستعماريّة، ودور هذا العلم بالذات في مساعدة الاستعمار على استغلال الشعوب الأصلية، وسرقة أراضيهم وثرواتهم وحكمهم على أساس أنّهم غير قادرين على أن يحكموا أنفسهم.

ويأتي الحديث عن هذا التاريخ وهذه الحقب، لأنه على الرغم من الوقت الطويل الذي مضى، وكل النظريّات النقديّة، وأهمّها ما قدّمه المنظّر في الدراسات ما بعد الكولونيالية post colonialism الفلسطيني الأمريكي إدوارد سعيد، في كتابه "الاستشراق"، ما زلنا نشهد جرائم تطهير عرقي ينفّذها المستعمر بحق المستعمَر.

لطالما سأل دارسو العلوم الاجتماعية والإنسانيّة أنفسهم: كيف كان الأوروبيّون المستعمرون للقارّة الأمريكية يقتلون الهنود الحمر؟ ماذا لو كانت هذه المجازر موثّقةً على شاشات الفضائيّات، وتُعرض كمقاطع قصيرة على منصّات مواقع التواصل الاجتماعي؟ هل كان مصيرهم هو ذاته؟ هل كانوا لينقرضوا ويصبحوا مجتمعات أقلّياتٍ تعيش في مناطق بعيدة؟ هل كانت ستغطّي الحكومات حول العالم مجازر التطهير العرقي هذه؟ هل ستمضي عقود قبل أن يقف المسؤولون عن هذه الجرائم ليعتذروا عنها أمام العالم، كما فعل البابا فرنسيس عندما اعتذر من السكّان الأصليين لكندا على جرائم الكنيسة وتعامل المسيحيين مع الشعوب الأصلية وعن "الطرق التي تعاون بها العديد من أعضاء الكنيسة" في "المشاريع المدمّرة للثقافات"؟ هل القتل مسموح ومباح تجاه كل شعوب العالم باستثناء البيض من أوروبا الغربيّة؟

كل هذه الأسئلة يتم طرحها الآن بعد هذا العدوان على غزّة. حتى لحظة كتابة هذه الجملة، هناك أكثر من 8،260 ضحيةً من أهالي القطاع، كما سوّي ما يقارب من 60% من غزّة بالأرض. نحن اليوم شهود على إبادة جماعيّة لسكّان أصليّين، سُلبوا أرضهم، ويعيشون في معسكر اعتقال، ويرمي الاحتلال عليهم كل أنواع القنابل وأكثر الأسلحة فتكاً. كل هذا يحدث على مرأى العالم كلّه، ويُعرض كمقاطع قصيرة على مواقع التواصل الاجتماعي. إننا اليوم شهود على نظام فصل عنصري يرتكب جريمة إبادة جماعية، مباشرةً على الهواء، والعالم صامت.

لماذا ندرس الأنثروبولوجيا؟

وفي ظل كل الواقع المعيش اليوم، لا بد من السؤال: هل وصلنا إلى عصر ما بعد الاستعمار أصلاً؟ لماذا ندرس الأنثروبولوجيا إذا ما كانت دول العالم الغربي كلّها تدعم الاستعمار وتقونن جرائم الحرب؟ هل يقتصر دور الأكاديميا على تقديم الدراسات والبيانات والنظريّات، أم تسعى إلى تطبيقها؟

بالحديث مع الدكتور نيكولاس كوزماتوبولس، وهو ناشط سياسي وأستاذ مساعد في العلاقات الدولية والأنثروبولوجيا في الجامعة الأمريكية في بيروت، يشرح أنه "لا يمكن للأنثروبولوجيين والأكاديميين التزام الصمت حيال الإبادة الجماعيّة في غزّة، بل تقع على كاهلهم مسؤوليّة شرح خلفيّات هذه الحرب، العنف الممنهج، والغوص في تفاصيل ما يعنيه مفهوم 'الاحتلال'، كما وكيف تدخل مفاهيم أخرى مثل 'الفوقية البيضاء' white supremacy "الفصل العنصري" وغيرها. تقع علينا مسؤوليّة تفسير هذه المفاهيم التي تشكّل هذا النظام خاصّةً أنّها غير واضحة بالنسبة للأكثرية التي تتلقّى المعلومات من المنصّات الإعلاميّة الكبرى التي تروّج لمفاهيم مثل 'الإرهاب'، 'الإسلاموفوبيا'، 'الأصوليّة' وغيرها من المفاهيم التي لا تساعد على فهم الواقع حقّاً. من هنا يأتي دورنا كأنثروبولوجيين في تفكيك هذه المفاهيم المعقّدة".

هل يقتضي الأمر إدانة حماس على هجومها، أم نرى ذلك كخطوة من الخطوات نحو "تصفية الاستعمار"؟ ما دور الأكاديميا إن لم يكن مساندةً نظريّةً لأي ردّة فعل على سنوات من الاستعمار؟

من خلال الاطّلاع على ما كُتب عن "تصفية الاستعمار" decolonization، وما كُتب عن استقلال الشعوب وحقهم في الدفاع عن أنفسهم وفي الكفاح المسلّح بوجه المستعمرين: هل ندرس كل هذا نظريّاً؟ أم أنّنا نسانده تطبيقاً في الواقع؟ هل يقتضي الأمر إدانة حماس على هجومها، أم نرى ذلك كخطوة من الخطوات نحو "تصفية الاستعمار"؟ ما دور الأكاديميا إن لم يكن مساندةً نظريّةً لأي ردّة فعل على سنوات من الاستعمار؟ كلّها أسئلةٌ لم يحِن الوقت للإجابة عنها، لأنّ هذه الحرب ستغيّر المعادلات السياسية في المنطقة، وسينبثق عنها سيل من الدراسات والتعقيبات والتعليقات على كل ما حدث، خاصّةً الدعم اللا متناهي الأوروبي لإسرائيل.

يقول كوزماتوبولوس، إنَّ "صورة الغرب اليوم على أساس احترامه لحقوق الإنسان قد تزعزعت بعد إعلان دعمه المطلق لإسرائيل، والخطاب السياسي القائم على الديمقراطيّة والعدالة الاجتماعية وغيرهما من المفاهيم، خُدش. موقف الغرب حيال الهجوم على غزّة اليوم هو موقف 'منافق'، ولا يمكن تبريره أو الدفاع عنه. من الواضح أنّ هناك تناقضاً كبيراً بين القرارات الحكومية الداعمة لإسرائيل وبين موقف الأكاديميين والناس الذين تظاهروا بالآلاف دعماً لغزّة".

برأيه أن "هذا الموقف نابع عن قراءة مغلوطة لعبر الماضي، خاصّةً ما حدث في 'الهولوكوست'، لأن الهولوكوست لم يكن حدثاً واحداً، بل هي نتيجة تراكم سنوات من التفكير والممارسة الاستعماريّة، لأنّ النازيّة هي نوع من الاستعمار الداخلي في قلب أوروبا، بحيث يتم تطبيق كل الممارسات الاستعمارية التي كانت تطبّق في المستعمرات الأوروبيّة على اليهود، اليوغوسلاف، الشيوعيين، الرومانيين، المثليين، ذوي الإعاقة وغيرهم. وهذه القراءة التي يتهرّب منها الأوروبيون، هي التي أوصلت الحال إلى ما هي اليوم. لذلك يجب التصالح مع التاريخ قبل تقديم الاعتذارات 'المنافقة' التي لا تجدي نفعاً". 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

منبر الشجعان والشجاعات

تكثُر التابوهات التي حُيِّدت جانباً في عالمنا العربي، ومُنعنا طويلاً من تناولها. هذا الواقع هو الذي جعل أصوات كثرٍ منّا، تتهاوى على حافّة اليأس.

هنا تأتي مهمّة رصيف22، التّي نحملها في قلوبنا ونأخذها على عاتقنا، وهي التشكيك في المفاهيم المتهالكة، وإبراز التناقضات التي تكمن في صلبها، ومشاركة تجارب الشجعان والشجاعات، وتخبّطاتهم/ نّ، ورحلة سعيهم/ نّ إلى تغيير النمط السائد والفاسد أحياناً.

علّنا نجعل الملايين يرون عوالمهم/ نّ ونضالاتهم/ نّ وحيواتهم/ نّ، تنبض في صميم أعمالنا، ويشعرون بأنّنا منبرٌ لصوتهم/ نّ المسموع، برغم أنف الذين يحاولون قمعه.

Website by WhiteBeard
Popup Image