شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
تأملات في النسوية (11)... عن الجرائم الإسرائيلية في فلسطين بصفتها ذكورية مطلقة

تأملات في النسوية (11)... عن الجرائم الإسرائيلية في فلسطين بصفتها ذكورية مطلقة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي نحن والحقوق الأساسية

الثلاثاء 31 أكتوبر 202312:28 م

اليوم أريد أن أتحدّث عن الجشع.

اليوم، إذ تتهاوى من حولنا أبسط معايير الإنسانية، بمباركة حكوماتٍ وبلدانٍ تدّعي حمل لواء حقوق الإنسان والعدالة؛ وإذ يرتكب الكيان الصهيوني الغاصب والمحتلّ جرائم لا يتصوّرها عقل في حقّ أهل فلسطين، بينما العالم في معظمه- عالمنا الجبان والمتخاذل والمتواطئ والمتآمر هذا- إما يدير وجهه، أو، يا للهول، يستحسن ويؤيّد ويصفّق؛ وإذ يتساقط الصغار كأوراق الشجر، تلفظهم أغصان الغدر بالمئات يومياً، فيدوسهم الرأي العام الدولي قائلاً: "لا بأس، إن هم سوى أضرار جانبية لا مفرّ منها في سبيل محاربة "الإرهاب" (أي إرهاب هو هذا الذي أكثر إرهاباً من إزهاق روح طفل؟)؛ وإذ يدرك الطغيان الإسرائيلي المُمَنهج، المستمرّ منذ سبعة عقود، في حقّ الفلسطينيين، ذروةً أبوكاليبتية لا تُحتمل، ولا تني تتجاوز نفسها بذروات أفظع يوماً بعد يوم.

أريد، اليوم، نعم، أن أتحدّث عن الجشع.

عن الجشع الذي هو أساس الظلم؛ عن الجشع الذي هو منبع التحيّز؛ عن الجشع الذي يمنح المصابين به الحقّ في سرقة الأراضي والمنازل والطفولات والأحلام والهناء والأمان بلا رفّة جفن وبوقاحة لا تطاق؛ عن الجشع الذي يتسبّب بالعنف، بالقتل، بالدمار، بالتشريد، بالإبادات الجماعية؛ عن الجشع الذي يصير معملاً لإنتاج أيتام وثكإلى وأرامل ولاجئين ومعوّقين؛ عن الجشع الذي يثير الغضب، يثير الغثيان، يثير البكاء، يثير الجنون، يثير الرغبة في البصق على وجوه أكثر زعماء العالم ورؤساء الدول واحداً واحداً، أولئك الأنذال الذين قالوا بوقاحة: "إسرائيل، نحن معكِ"؛ عن الجشع الذي هو نفسه يدفع أيضاً، وخصوصاً، "حاملي القضية" الكاذبين والخبثاء إلى المتاجرة بها، تحت الطاولة وفوق الطاولة، من أجل منافع سياسية واقتصادية وعسكرية (ربّ مناصر أسوأ من ألف عدو)؛ عن الجشع الذي هو، باختصار، أصل البلاء.

لم تعد النسوية تهدف فقط إلى إنصاف النساء، وتحريرهنّ من التعسّف والتمييز والتخضيع والتغييب والتقييد، بل هي أصبحت، على مرّ العقود وبازدياد، فلسفة إنسانية شاملة وتقاطعية، ترمي للدفاع عن كل مضطهد ومهمّش

*****

ما علاقة الحديث عن الجشع وعن جور الصهاينة بالنسوية، تتساءلون؟ ليس أسهل من تأويل العلاقة بينهما. أليست النسوية حركة تصبو إلى العدالة بكل أشكالها، وإلى المساواة في الحقوق والفرص بين البشر مهما كان جندرهم وجنسهم وجنسيتهم وعرقهم ودينهم وتوجّههم الجنسي ومعتقداتهم؟ بلى، وبامتياز.

لم تعد النسوية، مثلما انطلقت في بداياتها، تهدف فقط إلى إنصاف النساء، وتحريرهنّ من التعسّف والتمييز والتخضيع والتغييب والتقييد، وسواها من أشكال التحامل عليهنّ والبطش بهنّ وإلغائهنّ، بل هي أصبحت، على مرّ العقود وبازدياد، فلسفة إنسانية شاملة وتقاطعية، ترمي للدفاع عن كل مضطهد ومهمّش، انطلاقاً من مبدأ أن الظلم القائم حالياً في العالم له مصدر واحد أساسي، تتفرّع منه أنماط الظلم الأخرى، ألا وهو الحكم البطريركي السائد، والذكورية المنظّمة المسيطرة على كل المستويات: في السياسة كما في الاقتصاد والمجتمع والأعمال والإعلام... الخ.

وما إسرائيل الصهيونية إن لم تكن دولة "ذكورية" بامتياز؟ وما الجشع إن لم يكن سمة ذكورية بامتياز؟ إذا شئتُ أن أجسّد فكرتي هذه باستعارة، فسأقول إن إسرائيل، في هذه المعادلة، هي الذكر المسلّح، الـ "ماتشو"،  الباطش، المهدِّد، المعذِّب، المعتدي، القامع، المجرم؛ وإن أرض فلسطين هي المأرب الذي تريد الذكورية الإسرائيلية الصهيونية الاستيلاء عليه، حيث لا قانون ينصف أصحاب هذه الأرض، ولا شرعية دولية، لأن الأنظمة الدولية الملتوية، المشوّهة، المنحازة، القائمة على المصالح والصفقات وشريعة الغاب، تقف في صفّ الظالم لا المظلوم.

وإذا ما تجرّأ أهل هذه الأرض الفلسطينية وأصحابها فرفعوا رؤوسهم أو أعلوا أصواتهم أو دافعوا عن أنفسهم، اتُّهِموا، وأرضهم، بما هو مفعول بهم وبها، منذ سبعة عقود: "أنتم إرهابيون! أنتم مجرمون! أنتم فاجرون وقاتلون! أنتم تستحقون العقاب والنبذ والسحق، وأرضكم تستحق الاستيلاء!". سياسة المكيالين والمعايير المزدوجة. منطق "ضربني وبكى، سبقني واشتكى".

(يحضرني هنا تأمّل استطراديّ في الفلك نفسه: أليس منع لبنان من أنْ يكون دولةً مستقلة ذات سيادة هو أيضاً – كاحتلال فلسطين – حالةً ذكوريّةً ماحقة؟)

*****

عود على بدء: عالمنا مأزوم، ولا أخترع البارود إذ أقول ذلك: حروب، استبداد، احتلال، وحشية، بطش، فقر، جوع، إرهاب، تصحّر، تلوّث، عنصرية، فساد، تهجير قسري، احتباس حراري... الخ. مأزوم عالمنا لأسباب كثيرة، متشعّبة، عويصة، لكنّ منبعَها ومُختزِلَها، أكرّر، سبب واحد أحد: جشع الإنسان الحديث.

أقول "الحديث"، لأنّ للجشع الإنساني أصلاً جديداً نسبياً، إذ تُظهر أبحاث علم الأنثروبولوجيا أنه لم يكن موجوداً على الأرجح لدى الإنسان القديم، بل إن بروزه مرتبط ببروز مفهوم الملكية أو الاستئثار بالموارد، أي أن يملك طرف ما لا يملكه طرف ثان.

كان البشر القدماء يتقاتلون في ما بينهم بتحفيز محض من غريزة البقاء الإنسانية، لكنّهم لم يكونوا يعرفون منطق الملكية، أي لم يكونوا يعيشون تحت سلطان شهوة الملكية. لم تتبلور هذه الشهوة إلا مع ظهور ممارسة الزراعة، منذ نحو اثنتي عشرة ألف سنة، إذ برزت معها ضرورة الاستقرار في مكان محدّد على أرض محدّدة، ومع الاستقرار ولدت القدرة على تجميع الموارد (بينما قبلاً كان الإنسان مضطراً إلى التخفّف لأنه دائم التنقّل)، وبرز مع تجميع الموارد مفهوم الثراء وإجراء المقارنات.

المقارنات أوجدت الجشع، والجشع حرّض، في ما حرّض، على الاقتتال للحصول على ما يملكه الطرف الآخر، والاقتتال خلق، في ما خلق، ثنائية الرابح والخاسر، وثنائية الرابح والخاسر أوجدت، في ما أوجدت، مفهوم السلطة.

أليس منع لبنان من أن يكون دولةً مستقلة ذات سيادة هو أيضاً – كاحتلال فلسطين – حالةً ذكوريّةً ماحقة؟

نعم، إنه الجشع، أصلُ البلاء. قد يكون جشعاً مُدرِكاً أو لا واعياً، قد يكون معلَناً أو مُضمَراً، مباشراً أو ملمّحاً إليه، مهذّباً أو وقحاً، معترَفاً به أو ناكراً ذاته، مقبولاً أو مستنكَراً، موفّقاً أو فاشلاً، متحقّقاً أو محلوماً، ذئباً أو حملاً، ممكناً أو مستحيلاً. قد يكون كلّ شيء مثلما هو في كل شيء وفي المواضع كلّها، على القارات جميعها ولدى العروق كافة وفي اللغات أجمع.

الجشع الجشع، لا شيء سوى الجشع، لكن أولاً وخصوصاً وتحديداً: جشع جبّار، ضخم، رهيب، مقيت، بشع، قاتل، اسمه جشع السلطة. السلطة بصفتها موارد لا تنضب؛ ثراءً لا يتبدّد؛ نفوذاً لا يضعف؛ غزواً واحتلالاً واستيلاء وتفلتاً من كل عقاب؛ ديمومةً ورسوخاً ورفاهيةً لا تزول؛ نجاحاً وانتشاراً وشهرةً لا تبهت، كفالةَ طاعةٍ وبرهانَ صدقيةٍ وسهولةَ منالٍ لا يمكن فقدانها...

*****

إذا أردتُ أن أمنح هذا الجشع إلى السلطة تفسيراً ميتافيزيقياً وبسيكولوجياً يتخطى مفاعيله المباشرة المذكورة آنفاً (أشدّد: هو تفسير، لا تبرير)، فسأقول إنه نابع من كونه فوزاً مطلقاً، أو هو على الأصحّ فوز "يُظَنّ" مطلقاً بينما هو عابر جداً ووهميّ تماماً وواهٍ للغاية. فوز على ماذا؟ على الموت طبعاً: وهل هناك بعبع سواه أو بحجمه، في حياتنا نحن البشر، مذ بدأنا نعي أنه نهائي وغير قابل للانعكاس؟

هنا، أيضاً، لعلم الأنثروبولوجيا كلمته: إذ بينما تشير الحفريات والبقايا التي تم العثور عليها عبر الزمن إلى احتمال قيام المجتمعات القديمة بمراسم دفن وطقوس أخرى مرتبطة بالموت (وهذه موجودة حتى لدى بعض الحيوانات)، إلا أن وعي الموت، أي الإدراك أنه حتمي وحاسم وغير قابل للانعكاس، تزامن هو الآخر مع الاستقرار، إذ وضع الإنسان وجهاً لوجه مع موتاه وفي جوارهم.

جشع السلطة، إذن، بصفته فوزاً موقتاً على حتمية وقوع الموت، على هول لحظة الموت، على المجهول في الموت، على النسيان بعد الموت. وهو، هذا الارتباط بين الموت وجشع السلطة، قوي وعضوي، حتى أكاد أؤمن بأنه إذا بَطل الخوفُ من الموت، بطلت ربما لدى الغالبية أهمية السلطة ووهجها وجدواها، بل بَطل معناها ككلّ.

نعم إنه جشع السلطة: جشع أهل السياسة إلى السلطة، جشع أهل المال إلى السلطة، جشع أهل الأعمال إلى السلطة، جشع أهل الدين إلى السلطة، جشع أهل العسكر إلى السلطة، جشع أهل العِلم والاختراع إلى السلطة، جشع أهل الصحافة والشاشة إلى السلطة، وهلمّ. هو موجود في الأحزاب كلّها على تنوّع مبادئها، في الأديان كلّها على اختلاف مشاربها، في قطاعات الأعمال كلّها على تعدّد مجالاتها، وفي المرتبات والدرجات والمناصب كلّها على تفاوت تراتبياتها.

للعِلم، "عادل" هو جشع السلطة: يضرب الجميع تقريباً. لا يفرّق بين ميسور وغنيّ (فالميسور يريد أن يغتني والغني يريد أن يغتني أكثر)، لا يميّز بين موظّف ومدير (فالموظّف يريد كرسيّ المدير والمدير يريد مقعد صاحب الشركة)، لا يفاضل بين كاهن وأسقف (فالكاهن يريد الأسقفية والأسقف عينُه على الكردلة) وهكذا. هناك دائماً سلطة أكثر، سلطة أكبر، سلطة أفعل، موجودة في مكان ما، على قمّة ما، وهناك دائماً في العتمة تحتها، عينان ترنوان إليها وتشتهيان الحصول عليها... مهما كان الثمن.

انتبهوا: مهما كان الثمن: قتلاً، سرقة، تدميراً، احتلالاً، تهجيراً، تفقيراً، تجويعاً، استغلالاً، كذباً، افتراء، اغتصاباً، محواً، حرقاً، إبادة، طعناً في الظهر. كلّه مسوّغ، لأن الغاية، مهما اعترضنا واستنكرنا وانتفضنا وقاومنا، ستظلّ تبرّر الوسيلة في نظام العالم الماكيافيلي.

*****

أسوأ ما في جشع السلطة هذا أنه لا يكتفي. أسوأ ما في هذا الجشع أنه يلد نفسه ويأكل من نفسه. أسوأ ما فيه أن الطُرُق هي منه فإليه: المال سلطة والسلطة مزيد من المال. الاستمرارية سلطة والسلطة مزيد من الاستمرارية. الأراضي والأملاك سلطة والسلطة مزيد من الأراضي والأملاك. الأسلحة الفاتكة سلطة والسلطة مزيد من الأسلحة الفاتكة. الترهيب سلطة والسلطة مزيد من الترهيب. أوراق المساومة سلطة والسلطة مزيد من أوراق المساومة. الشهرة سلطة والسلطة مزيد من الشهرة. النجاح سلطة والسلطة مزيد من النجاح، وهكذا.

أقول إن جشع السلطة "لا يكتفي"، لأني أحب أن أصدّق أنّ هناك جشعاً يشبع، أن هناك جشعاً يستيقظ من سكرته ويقول اكتفيت، أن هناك جشعاً ينضج ويصير عرفاناً. يضغط على الفرامل، يترجّل من السيارة ويقرّر الخروج من الدائرة المفرغة، أما جشع السلطة فلا: سرطان غير قابل للشفاء، يتناسل وينتقل ويتكاثر ويكتسح ويتفشّى حتى يأكل كل شيء.

ماذا يفعل جشع السلطة هذا؟ يحوّل (أكثر) قادة البلدان إلى طغاة، و(أكثر) ممثلي الشعب إلى منافقين، و(أكثر) أصحاب الأموال إلى لصوص، و(أكثر) أرباب الأعمال إلى ضباع، و(أكثر) زعماء الأديان إلى مستبدين، و(أكثر) العُلماء إلى تجّار، و(أكثر) أهل الصحافة والشاشات والفنون والآداب إلى... عاهرين.

الجشع موجود في الأحزاب كلّها على تنوّع مبادئها، في الأديان كلّها على اختلاف مشاربها، في قطاعات الأعمال كلّها على تعدّد مجالاتها، وفي المرتبات والدرجات والمناصب كلّها على تفاوت تراتبياتها

(توضيح لا بدّ منه: لستُ أعني بما سبق، في أي حال من الأحوال وفي أي معنى من المعاني، التغنّي بمقولة "القناعة كنز لا يفنى").

أكره، أكثر ما أكره، هذا المثل وما يقتُله فينا. عكس الجشع ليس القناعة، بل النبل، بل العدل، بل الحقّ. لأجل ذلك، لنفرّق بين الجشع والمثابرة، لنفرّق بين الجشع والكدّ، لنفرّق بين الجشع والسعي إلى مقوّمات الكرامة الإنسانية، ولنفرّق، خصوصاً، بين الجشع والطموح. ما الفرق بينهما؟ أو بالأحرى كيف نرصد الفرق؟ بِطرح سؤال بسيط: "هل أريد ما أريده وأنال ما أناله وأصل إلى ما أريد الوصول إليه على حساب آخر أو آخرين، أي داعساً على حقوقهم وكراماتهم وحرياتهم وسلامتهم وسالباً ممتلكاتهم وأراضيهم؟ إذا كان الجواب نعم، فهذا يعني أنا وصولي، أي ماكيافيلي، أي استغلالي، أي انتهازي، أي محتل، أي غاصب، الخ. هذا يعني أنا جشع.

الفساد المالي في العالم وعلى كل الأصعدة؟ سببه الجشع. المعارك والغزوات؟ سببها الجشع. الاحتلالات؟ سببها الجشع. الإبادات؟ سببها الجشع. السرقات، الجلية منها وتلك التي تتم تحت مسمّى "الصفقات"؟ سببها الجشع. حرائق الغابات؟ سببها الجشع. الاتجار بالأطفال؟ سببه الجشع. تجارة الأسلحة؟ العنف؟ التعصّب؟ التغيّر المناخي؟ التدهور البيئي؟ العوز؟ الظلم؟ حتى سيادة السطحية والتفاهة والزيف؟ كلّها سببها الجشع. أستطيع أن أؤكد بثقة، وبلا تردد، أن كلّ كارثة ليست "طبيعية"، بل من صنع البشر، مُنينا ونُمنى وسوف نُمنى بها على وجه هذه البسيطة، سببها الجشع. يكفي أن نتتبّع الآثار بين البلوى والدافع في كل حالة، لكي نكتشف صحّة ذلك.

*****

كنتُ تحدّثت في بداية هذا المقال عن العلاقة بين مناهضة الجشع والنسوية. فعلاً، ثمة كارثة هي من أبرز نتائج جشع السلطة، ومن أهمّها و"أدسمها"، في رأيي على الأقل، وهي، هذه الكارثة، تكاد تكون المحفّز الرئيسي لمصائبنا كبشر: إنها هيمنة النظام الأبوي (أو البطريركي) على العالم.

قلتُ، أعلاه، إن النظام الأبوي هو، في شكل من الأشكال، مباشرة أو مواربة، المحفّز الرئيسي لمصائبنا كبشر، ولا أخاف من المبالغة.

فكّروا معي: أليس النظام الأبوي، بما يرافقه من أنماط وسلوكيات وأحكام ومفاعيل، وبما يتواطأ معه من أنظمة ظالمة موازية، دينية وسياسية واقتصادية، وبما يرتكز عليه من قواعد أخلاقية ملتوية، تحديداً قاعدة "تخضيع الأضعف"، السبب، مثلاً، في احتلال البلدان (هذه الأرض حقّي الإلهي)؟ في شنّ الحروب (أنا أقوى)؟ في انتشار المجاعات والفقر والتوزيع غير العادل للثروات (أنا أولى)؟ في فساد الزعماء (من بعد مصالحي ومكاسبي الطوفان)؟ في الإرهاب الديني والإيديولوجي (أنا الصحّ وهم الخطأ)؟ في اجتثاث الغابات (راحتي ورفاهيتي أهمّ من استمرار الكوكب)؟ في انقراض الأنواع الحيوانية (أنا رأس الهرم)؟ الخ.

تالياً، يمكن القول إن النظام الأبوي ليس فقط نتيجة الجشع، بل هو جشع في ذاته، وهو أيضاً، بذلك، أصل البلاء.

*****

ما عمر هذه البلية بالذات؟ من السهل (والمغري للبعض) الافتراض أن هيمنة الذكورية (والذكور) على العالم هي الحالة الطبيعية، الفطرية، للمجتمع البشري، لكنها ليست كذلك البتة. على عكس الاعتقاد السائد، تُظهر الأبحاث أن النظام الأبوي ليس حتمياً ولا أزلياً، وأنه لم يكن سائداً دائماً.

في الواقع، خلال معظم تاريخ البشرية، عشنا بشكل مختلف تماماً. كانت مثلاً مجتمعات الجمع والالتقاط، التي ظهرت مع ظهور الإنسان الأول أو القديم منذ نحو 1.8 مليون سنة، والقائمة على الصيد وجمع الثمار، والمتنقّلة حكماً بسبب ذلك، على قدر أكبر من المساواة بين ذكورها وإناثها، على الأقل مقارنة بما تلاها، وكانت القيادات النسائية والمجتمعات الأمومية موجودة بكثرة في تلك الأيام.

أما النظام الأبوي القائم حالياً في العالم، فلم يبرز إلا منذ نحو 10-12 ألف سنة فقط، متزامناً مع (وناتجاً من) ظهور ممارسة الزراعة. أدّت الزراعة (والرعي) إلى الاستقرار والتوطّن، وإلى امتلاك البشر للموارد، وتالياً إلى الرغبة في الاقتتال على هذه الموارد (مجدداً ودائماً: الجشع).

ازدادت الثروات المادية أهمية، فازدادت النزاعات داخل الجماعات وفي ما بينها، دفاعاً عن هذه الثروات، وبما أن النساء لم يكنّ ناجحات بقدر الرجال في القتال، نظراً لكونهن أضعف جسدياً (وهذا محض فرق فيزيولوجي بلا أي دلالات على القدرات الأخرى، في طبيعة الحال)، فقد وقع هذا الدور، أي دور الدفاع عن الموارد والثروات، على عاتق الرجال بشكل متزايد ورئيسي، ما جعلهم مسؤولين عن، وأصحاب قرار في، وممتلكين طبيعيين لـِ، الموارد التي يدافعون عنها.

هكذا، بسبب هذه القوة الجسدية التي أتاحت لهم الدفاع عن الموارد، صارت الأرض والماشية ملكاً للرجال، وانتقلت السلطة بشكل تلقائي (عملية الانتقاء الطبيعي) إلى الرجال، كون القيادة تترافق مع الملكية، وصار يتم تناقل الثروات عبر سلالة الذكور، لضمان بقائها بأمان. آنذاك تآكلت استقلالية المرأة، وبدأت النساء بخسارة المساواة.

ليس هذا فحسب. فمع ظهور ممارسة تجميع الثروات ونقلها من الآباء إلى أطفالهم (الذكور تحديداً وخصوصاً)، أصبحت مسألة الأبوّة مركزية، وصار الرجال يبذلون كل ما في وسعهم للتأكد من أن هؤلاء الأطفال هم أطفالهم، كي لا يورثوا ثروتهم لنسل رجل آخر. تالياً صارت قضية السيطرة على جسد المرأة أيضاً ضرورية وجوهرية، لأنه فقط من خلال التحكّم بالمرأة-الرحم، يمكن معرفة هوية الأب بشكل موثوق به.

يمكن القول إن النظام الأبوي ليس فقط نتيجة الجشع، بل هو جشع في ذاته، وهو أيضاً، بذلك، أصل البلاء

هكذا، ولتحقيق أقصى قدر من النجاح الإنجابي ومن ضمانات الأبوة، شرع الرجل في التحكّم بنشاط المرأة الجنسي، وفي قمعها وأسرها، لمنع الرجال الآخرين من الوصول إليها. تالياً، أصبحت الحياة الجنسية للمرأة خاضعة لقرار الرجال أيضاً.

*****

قد تعترضون هنا قائلين: "أين نحن من تلك المجتمعات التي كانت قائمة منذ آلاف السنين، وما علاقتنا بها؟ لقد تغيّر الإنسان كثيراً منذ تلك الأيام". صحيح، لقد تغيّر، ولكن في الظاهر فقط. لا تزال الأنماط الداخلية هي هي تقريباً، والسلوكيات الفطرية، والتفاعلات اللا إرادية.

أنماط وسلوكيات وتفاعلات تشرّبناها عبر الأزمنة، حدّ أنها باتت طبيعتنا، مهما أدركناها بالوعي الفردي وحاولنا التصدّي لها وقمعها و"تهذيبها"، وهي أيضاً، هذه الأنماط والسلوكيات والتفاعلات، ازدادت رسوخاً مع ظهور الأديان التوحيدية، الذكورية في جوهرها، والتي حدّدت معايير الصح والخطأ، الفضيلة والرذيلة، المقبول والمرفوض... الخ، ومأسست الطغيان على المرأة والتحكّم بها بمباركة إلهية، أي بشكل لا يمكن تحدّيه.

وإذا كان من تغيّر قد طرأ على هذه الأنماط والسلوكيات والتفاعلات، فهو على صعيد عواقبها فحسب، التي أصبحت، من جهة أولى، أكثر كارثية بسبب التقدّم التكنولوجي، ومعه ازدياد القدرة على الأذى؛ ومن جهة ثانية، قابلة – جزئياً- للضبط والعقاب في بعض المجتمعات المتطوّرة التي استوعبت أضرار الذكورية والتأثيرات المسمومة والمؤذية والظالمة، وأحياناً القاتلة، الناجمة عنها.

أقول جزئياً لأن عدد الصديقات الأوروبيات (والأميركيات أيضاً) اللواتي يؤكّدن لي أن "الأبوية بخير" في فرنسا، أو إسبانيا، أو ألمانيا، أو الولايات المتحدة، أو سواها، يبيّن مدى التجذّر العميق والمنهجي لهذا النظام في النفوس.

النظام الأبوي، إذن، ليس قدراً بيولوجياً (ولا "مشيئة إلهية" طبعاً). فالذكورية هي، ببساطة، ثمرة الجشع الإنساني إذ أتيحت له فرصة أن يستحكم، ويتمدّد، ويتأصل. هذا الجشع يخلق، في الوقت نفسه، المزيد من شهوة السلطة لدى صاحبه، وشهوة السلطة تؤدي إلى المزيد من الذكورية. إنها حلقة مفرغة.

هل يمكن "كسر" هذه الحلقة؟ تتحدّث المؤرخة البريطانية ماري بيرد، في كتابها الشهير "النساء والسلطة"، عن العلاقة المباشرة بين القمع والإسكات القسري: أي أن كبح صوت الفئة المضطهدة (بيرد كانت تعني النساء في كتابها المذكور، ولكن يصحّ تعميم النظرية على الفئات المضطهدة كافة)، وحرمان أصحابها من القدرة على التعبير العام عن أنفسهم، وإجبارهم على التزام الصمت، هي ما أتاح للنظام الأبوي أن يكتسب هذا الحجم من النفوذ والقوة.

إذا ما طبّقنا هذه النظرية، مثلاً، على إسرائيل وفلسطين، فسنجد أنها صحيحة. صوت إسرائيل عال جداً، اللوبي الإسرائيلي في العالم نافذ جداً، الإعلام العالمي منحاز جداً إلى إسرائيل: في اختصار، الرواية السائدة والمنتشرة هي رواية إسرائيل، أما فلسطين فصوتها خافت، تغطي عليه كلمات مثل "إرهاب"، "حقد"، "إجرام"، "تجنّي"... الخ، فضلاً عن آفة الإسلاموفوبيا التي تسهّل تجاهل معاناة طرفٍ بات يُعتبر، سلفاً، مؤذياً وخطيراً.

كل هذا بينما الحاقد الحقيقي، والإرهابي الحقيقي، والمجرم الحقيقي، والجاني الحقيقي، يحظى بالدعم والتأييد والمؤازرة من جميع الأنحاء، لأن صوته مسموع. يا سلام على "الديموقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط".

المرأة أكثر حكمة وقدرة على التعاطف وعلى حلّ الأزمات بحزم ولكن من دون خوض مواجهات دموية، وأقل عنفاً وعدائية وتسرّعاً إلى الحروب والقتالات؛ إلا أننا لن نعرف الجواب حقاً إلا متى تحقق هذا الأمر

*****

كنتُ تساءلتُ في ما سبق عمّا إذا كان كسر حلقة الجشع والذكورية المفرغة ممكناً، ولكن يطرأ هنا سؤال استطرادي قد يكون أكثر أهمية: هل "يجب" كسر هذه الحلقة؟ هل أن عالماً أفضل وأرقى، وأقلّ جشعاً واقتتالاً، وأكثر إنسانية وعدالة (وأيضاً أكثر ازدهاراً)، يعني حكماً التخلص من النظام الأبوي، واعتماد النسوية كنموذج ومثال وطريقة حياة؟ شخصياً، أؤمن بذلك، بعقلي، وقلبي، وحدسي، على السواء. هنا قد تسألون: ولكن هل كل النساء بمنأى من جشع السلطة، ومن سوء استخدامها إذا ما انقلبت الآية وأصبحت هذه السلطة في أيديهنّ، بدل أن يكنّ، مثلما هو الوضع الآن، في موقع الدفاع عن النفس والنضال والمطالبة؟ ألا يتحوّل المضطهَد حكماً إلى مضطهِد؟

الجواب الحاسم، النهائي، عن هذا السؤال، متروك للزمن، إذ رغم كل الأبحاث الراهنة التي تؤكد أن المرأة في موقع القيادة "أفضل" و"أرقى" وأكثر فاعلية من الرجل- وإن من دون تعميم (رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني برهاناً معاصراً، مقرفاً، على وجود استثناءات) - لأنها، أي المرأة، أكثر حكمة وقدرة على التعاطف وعلى حلّ الأزمات بحزم ولكن من دون خوض مواجهات دموية، وأقل عنفاً وعدائية وتسرّعاً إلى الحروب والقتالات؛ إلا أننا لن نعرف الجواب حقاً إلا متى تحقق هذا الأمر.

لاحظوا أني أقول "متى"، لا "إذا"؛ ذلك لأنني واثقة تماماً من حدوثه. قد يتطلب ذلك عقوداً من الجهود الحثيثة والانتصارات الصغيرة والكبيرة والتراكمات الصبورة والراسخة، لكن عالماً بقيادة النساء سوف يتحقّق لا محالة.

آنذاك فقط ربما يفهم أمثال إسرائيل، ومَن يشدّون على مشدّها، أكانوا أنظمة أم بشراً، معنى مفهومٍ غريبٍ عليهم تماماً: العدالة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard