على أحد أرصفة مستشفى الشفاء في غزة، يستقر سامي شحادة منذ أسبوعين وهو يتابع عمله كصحافي ينقل الأحداث والتطورات من داخل المستشفى، ويشاهد في اليوم الواحد مئات الشهداء والمصابين/ ات.
في اليوم الأول للقصف، عاد شحادة إلى منزله راغباً في الحصول على "هدنة" من مشاهد الدماء، ليُفاجأ بها تطارده؛ فقد قصف الاحتلال منزلاً ملاصقاً لمنزله، ولم يستغرق الأمر وقتاً طويلاً حتى قُصف منزله وتشردت عائلته.
بين دير البلح حيث نزحت زوجته وطفلتاه، وخان يونس ملجأ والدته وأشقائه، وغزة مُستقرّ أبناء عمومته وأسرة زوجته، تشتت قلبه. طوال 15 يوماً، لم يتمكن سامي من رؤية طفلتيه وزوجته. يعتصر الألم قلبه. كلما وصلت جثث الشهداء الأطفال إلى المستشفى يحدث نفسه: "يمكن يجي يوم وتلاقي ولادك هنا".
لا يعرف مكاناً آمناً يذهب إليه. لم يهنأ بنوم هادئ منذ بداية الأحداث، فهو يغفو 10 دقائق ويسمع خلالها صراخاً واستغاثات وأصواتاً تنمّ عن هلع. لا يُميّز أياً من الصور التي شاهدها طوال اليوم والتي تخص هذه الأصوات. فكل ما يُشاهده في منامه القصير مصاحب بالأصوات وصور طفلتيه، ليفزع من نومه على صوت القصف.
"رأيت الناس تُقطّع أشلاءً"
"رأيت الناس تُقطّع أشلاءً. أمضيت السنوات السبعة الماضية من عمري أحاول أن أتغلب على اضطراب ما بعد الصدمة الذي أعانيه بعد المرور بأربع حروب في غزة"؛ كانت هذه كلمات الصحافية الفلسطينية يارا عيد، في مقابلتها مع قناة "سكاي نيوز"، حينما وجهت إليها المذيعة سؤالاً عمّا تشعر به منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر الجاري، والذي قُتل فيه 1،400 إسرائيلي، ومات فيه نحو 4،000 فلسطيني، لتجيبها بأن "الفلسطينيين لا يموتون بل يُقتلون".
في الأيام الماضية، انتشر مقطع مصور لطفل فلسطيني ظل صامتاً بينما تكسو الصدمة وجهه. وفور احتضان أحد الأطباء له، بدأ بالبكاء بشدة. في مقطع آخر ظهر عدد من الأطفال وهم يحملون طفلةً صغيرةً في صندوق ويتحركون مرددين: "لا إله إلا الله الشهيد حبيب الله".
"رأيت الناس تُقطّع أشلاءً. أمضيت السنوات السبعة الماضية من عمري أحاول أن أتغلب على اضطراب ما بعد الصدمة الذي أعانيه بعد المرور بأربع حروب في غزة"
في حديثها إلى رصيف22، تقول الدكتورة أميمة رفعت، استشارية الطب النفسي، إن اضطراب ما بعد الصدمة يستلزم المرور بصدمة: "الصدمة شيء نسبي، يختلف من شخص إلى آخر، فما يُسبب لي الصدمة ليس بالضرورة أن يصدمك"، مضيفةً أن آلافاً من الأشخاص في الحروب يصابون بضغوط نفسية، إلا أن البعض منهم يُصابون باضطراب نفسي حاد والبعض الآخر لا يُصابون به.
في الحقيقة، بدأ تشخيص اضطراب ما بعد الصدمة بعد الحرب العالمية الثانية، وكان عبارةً عن أعراض تظهر على من عايشوا الحرب. وبحسب رفعت، كلما تمت معالجة الصدمة بشكل سريع، كلما منعنا احتباسها في اللا وعي وأوقفنا تمادي أعراضها.
وتشرح رفعت أن الأعراض تأتي على شكل غضب أو اكتئاب أو ارتباك شديد في الوعي، واضطراب في النوم والطعام وفقدان الطاقة، وتختلف في درجاتها حتى أنها تصل إلى أعراض اضطرابية كاملة.
وتوضح الدكتورة أميمة أنه يتم تحديد العلاج والشكل المناسب له حسب الأعراض، ويعتمد على شقّين؛ الأول دوائي بالعقاقير، والآخر بالجلسات النفسية، سواء العلاج التحليلي أو السايكو دراما أو العلاج السلوكي المعرفي، والعلاج السلوكي الجدلي.
تقول منى (اسم مستعار)، وهي مواطنة فلسطينية من غزة: "اضطراب ما بعد الصدمة؟ يا بنتي إحنا تدمرنا. أرواحنا ميتة".
فقدت منى ثلاثةً من زملائها في العمل، استشهدوا في أثناء تأديتهم واجبهم المهني. تكشف لرصيف22، أنها لم تعد تتأثر بأي خبر: "الوجع أكبر من احتماله"، مضيفةً أنهم اعتادوا على أن يكونوا "رخاص" في نظر العالم، ولا أحد يتخيل حجم الهم أو الفاجعة والذعر التي يعيشونها.
تعاني منى من فقدان الشعور والتفاعل مع الأخبار السيئة، موضحةً أنهم يعيشون نكبةً جديدةً ويحتاجون إلى الكثير من الوقت لترميم أنفسهم بعدها: "تعرفي أيش يعني طبيبك وصاحب السوبر ماركت وجار البناية وكل اللي بتتعاملي معهم يموتوا؟".
في ليلة خروجها من المنزل، لم تعرف منى ماذا تجمع في حقيبتها: "حصلت على قطعتين من الملابس، ملابسي وأثاث بيتي يمثلون لي الكثير. كل شيء فيه حصلنا عليه بعد شقاء وتعب"، مضيفةً أنها تحب الحياة وتستحق أن تعيشها وتسعد بها: "ما عندي أطفال... حاولت قبل الحرب أكون أم، لكن بحمد ربنا ما عندي أطفال"، طالبةً دعوات الجميع بأن تمر عليهم الليالي خفيفةً، "فالليل مروع ومفزع"، على حدّ قولها.
"بشوف بناتي في كل الأطفال الشهداء"
بالعودة إلى سامي شحادة، فهو يعاني من حالة نفسية سيئة وهو مُجبر على كتمانها أمام أعين الناس، فهو صحافي يستمد منه الناس طاقتهم ويعرفون من خلاله الأخبار: "إن مستشفى الشفاء يضم ما يزيد عن 70 ألف نازح حتى الآن، يفتقدون سُبل الحياة؛ ولا مياه أو طعام، فالمساعدات تصل إلى جنوب غزة"، مضيفاً أنهم كصحافيين ينامون في الشوارع، فيقتسم هو و7 من زملائه، 3 فرشات على الأرض، ينام كل منهم ساعتين في قلق شديد.
يشاهد شحادة يومياً ما يصفه بالمجازر، فبين زملائه من استشهد أو استشهدت أسرته/ ا بالكامل، وأطباء عثروا على أبنائهم بين الجثث: "حتى حياتي لم أعد أكترث لها. المهم أن أطمئن على أهلي وزوجتي وبناتي".
ويشير إلى أن ابنته الكبرى ماريا، أبصرت النور بعد 6 سنوات من الحرمان، وهي الآن في الثالثة من عمرها، وتعاني ابنته الصغرى كندة، ذات الأربعة أشهر من قلق وصراخ مستمرين نتيجة القصف.
"حتى حياتي لم أعد أكترث لها. المهم أن أطمئن على أهلي وزوجتي وبناتي"
لم يعد الجنوب آمناً، فالقصف فيه عليه من كل جانب، ويسعى سامي وزملاؤه إلى إيصال صورة الجرائم التي يرتكبها الاحتلال في حق الناس ليرى العالم حجم الدمار والمعاناة الذي يعيشه أهل غزة وحجم القتل بين النساء والأطفال وقصف المنازل دون إنذار، مضيفاً أن أقل مجزرة يذهب ضحيتها 20 شخصاً: "من يبقى له ولد على قيد الحياة من أصل 5 أو 6 يحمد الله على ذلك".
"ما في أماكن للدفن"
نزح المصور الصحافي بشار طالب، مع أسرته المكونة من 14 فرداً، من منزلهم في منطقة الصفطاوي في شمال قطاع غزة، إلى خان يونس في الجنوب، يوم 13 تشرين الأول/ أكتوبر الجاري.
يعاني طالب منذ بدء القصف من القلق والإحجام عن النوم، ويوضح أنه قبل الحرب كان يسقط في نوم عميق، لكن ما يعيشه من أحداث يومية أفقده القدرة على النوم، مضيفاً أنه في أثناء تواجده في مستشفى شهداء الأقصى في دير البلح، قابل صديقاً له احتضنه بشدة، وسأله عن سبب تواجده في المستشفى، ليُخبره بأن أفراد أسرته استشهدوا جميعاً جرّاء القصف: "ساحة المستشفى بتكون مليانة شهداء على الأرض وفي قبور جماعية ما في أماكن للدفن".
شاهد بشّار مشاهد الموت كافة لأطفال ونساء وشيوخ، ودفن وحرق وأشلاء: "الآثار النفسية كثيرة والمشاهد لا تغيب عن عيني. جميعها تُبكي الحجر. أعيش في قلق مستمر. كل دقيقة أتخيل أن يسقط صاروخ علينا، وأنا في عملي ومع أسرتي في كل وقت. في كل دقيقة أتخيل كيف سأموت، وأنشغل بأهلي وقت العمل، وأخاف أن يقع لهم مكروه"، كاشفاً أنه في الحروب السابقة لم يكن قلقاً إلى هذا الحد: "الحرب صعبة والأحداث فيها صعبة والاستهداف لكل شيء. الأمان عند الله وحده".
"وصّلي معاناتنا للعالم وادعولنا واحكي كيف بنعيش، احكي للعالم ناجي من كبشة حروب لحتى الآن"
يعيش طالب حالياً كالكثير من أهل غزة مرحلة ضغط وتخزين للحزن: "لا أقدر على وصف ما أشعر به، فبعد تكرار أخبار الفقد لم يعد هناك وقت للحزن، لأننا نتفاجأ بخبر جديد وشهداء جدد"، مضيفاً أنه بكى مرتين خلال هذه الحرب؛ الأولى حينما رأى نحيب أسرة مكونة من أمّ وأربع فتيات وطفل صغير على فقدانهم والدهم، والمرة الثانية حين رأى صورةً لا تزال تطارده في كل وقت، وهي صورة النصف العلوي لجسد طفلة.
وفي ختام حديثه، يقول لرصيف22: "وصّلي معاناتنا للعالم وادعولنا واحكي كيف بنعيش، احكي للعالم ناجي من كبشة حروب لحتى الآن".
من جهته، يقول أحمد الأغا، من مدينة خان يونس، لرصيف22، إنه لم تأتِ عليهم حرب بهذه القسوة والضراوة: "منذ العام 2008، مرت علينا حروب وتصعيدات عدة، ولكن هذه الأكثر عنفاً"، مضيفاً أن أصوات القنابل والصواريخ تُسمع على مدار اليوم والأطفال يكتبون على سيقانهم وأيديهم أسماءهم حتى تُعرف أجسادهم.
ويضيف: "الأطفال وكبار السن والنساء في خوف وذعر دائمين، ليس لدينا مطار، ولا نعرف سوى صوت الطائرات الاحتلالية. من يسافر منا بعد ذلك إلى أي دولة ويسمع صوت طائرة مدنية سيفزع من صوتها، الجميع ينتظر دوره".
"ما بدّي أنام عشان ما يصير 'بوم'"
تكشف سارة عاشور، وهي فلسطينية من خان يونس، أنهم يعيشون في الصدمة حالياً، ويسيطر الخوف والترقب عليهم طوال الوقت: "أصيب الأطفال بارتفاع درجات الحرارة من شدة الخوف، فهم يعيشون تحت التهديد. أصوات الطائرات الحربية تلازم آذانهم وينتظرون ضغطة زر تُنهي حياتهم".
وتوضح عاشور لرصيف22، أن الأطفال الصغار لا يفهمون ما يحدث: "الأمر بالنسبة لهم يتلخص في صوت 'البوم'، أي الانفجار، فكلما نام ابني يستيقظ فزعاً على صوت الانفجار ويقول باكياً: 'ما بدي أنام عشان ما يصير بوم'".
لم يُفارق النوم جفون الأطفال وحدهم، فسارة وأسرتها لم يطمئنوا منذ بدء القصف. تقول إن أكثر المشاهد العالقة في ذهنها، يوم سقط زجاج البيت عليهم وقت قصف منزل الجيران، فهرعوا إلى الشارع: "القصف في كل مكان يصرعك صرعاً". وفي حال غلبها النوم، يأتي الدمار إلى أحلامها فترى فيها من فقدتهم من الأصدقاء والأسر الكاملة من أقاربها من الدرجة الثانية والثالثة، وتهدّم الأماكن المحببة إليها.
"هالمرة الدور على مين؟"
يقول الصحافي والناشط في مجال الإغاثة، عمّار مروان، لرصيف22، إن الجميع يستيقظ على صوت القصف، ويتابعون الأخبار ويتفقدون الجيران والأقارب ويتساءلون: "هالمرة الدور على مين ومين استشهد؟"، مضيفاً أن الأطفال يعانون من فزع شديد وكوابيس تلاحقهم فلا يحصلون على القسط المناسب من النوم والراحة، بينما يحتضن الأهل أطفالهم مع كل انطلاقة صاروخ خوفاً من إصابتهم.
تحاول الأمهات تهدئة الأطفال كما اعتادوا في اعتداءات الاحتلال السابقة: "لكن الأمر هذه المرة أكبر من أن يحتمله حتى الكبار الذين سقطوا عرضةً للانهيار النفسي"، وفق قول عمّار.
"كلما نام ابني يستيقظ فزعاً على صوت الانفجار ويقول باكياً: 'ما بدي أنام عشان ما يصير بوم'"
بحكم عمله الإغاثي، يعيش عمّار مروان ضغطاً نفسياً مُضاعفاً، فبين التعامل مع اللاجئين/ ات والمصابين/ ات وقصص الناس المجبولة بالوجع والفقد وكثافة الغارات والشهداء والخوف من فقد أسرهم وصعوبة الاتصال بهم، يسهر مع زملائه حتى يغلبهم النوم من التعب، وحينها ترافقهم أصوات الغارات وصور الأطفال والأمهات.
باختصار، إن فقدان شخص كان إلى جانبك قبل لحظات، صدمة تتكرر يومياً في غزة. كما أن الضرب العشوائي للمنازل أصبح أكبر المخاوف في القطاع. صوت الغارات لا يُمحى من الذاكرة ولا يترك الأذن على حالها. الجميع يعاني من الضغط النفسي، فضلاً عن الأنقاض التي تضمّ جثث الشهداء وتُسيطر عليها رائحة الموت الموجودة في كل مكان.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين