تخيّل أن تطل شرفة منزلك على البحر، ولا تستطيع أن تجلس عليها، وأن تعيش في قرية تجمع البحر والنهر والجبل، ويكون استنشاق الهواء النقي حلماً مستحيلاً، أو أن تملك بيتاً سياحياً لا يساوي ثمنه ربع منزل آخر في منطقة أخرى! ثم تخيل أن تعيش في قرية لا تستطيع فيها تمييز أنواع الأشجار بسبب الغبار الذي يغطيها، وتلبس ثوباً إسمنتياً بدل فستانها الأخضر.
حصين البحر، هي قرية ساحلية تتبع لناحية السودا في محافظة طرطوس السورية، يزرع أهل قرية الروائي حيدر حيدر أشجار الزيتون بعلاً في أكثر من مئتي هكتار، بالإضافة إلى الحمضيات والخضار المبكرة، لكنها تعتبر المتضرر الأكبر من معمل الإسمنت في المحافظة.
"حوّل المعمل حياتنا إلى جحيم"، هكذا يقول سكانها، وقد أعادوا صياغة العبارة الشهيرة "محكومون بالأمل" لابن قريتهم الكاتب المسرحي سعد الله ونوس، لتصبح أكثر ملامسة لواقعهم "محكومون بالمعمل!".
ويعود قرار إحداث معمل الإسمنت في طرطوس لعام 1997، وبحسب المعنيين اختير الموقع قريباً من البحر ليسهل استجرار المواد الأولية وتصدير ونقل المنتجات، ويشغل المعمل مساحة كبيرة شمال طرطوس تبلغ مليونين و949 ألف متر مربع.
"حوّل المعمل حياتنا إلى جحيم"، هكذا يقول سكان قرية حصين البحر الساحلية السورية.
تلوث للهواء والمياه والأشجار
يقول لرصيف22 علي علي (54 عاماً) وهو موظف حكومي، يسكن في بيته في الريف المجاور لمعمل الإسمنت: "الحياة التي نعيشها هنا ليست طبيعية. كل شيء له بديل إلا الهواء! نحن مجبرون على تنفسه بكل ما يحويه من غبار وأمراض. رافقت الأمراض الصدرية والتنفسية أولادي منذ الصغر، ويزورون المشافي عدة مرات في السنة، والمنطقة المحيطة بالمعمل تنتشر فيها التشوهات الخلقية والأمراض التنفسية والجلدية. كله بسبب الانبعاثات السامة وفساد المسؤولين".
وعن معاناة العائلة يضيف علي: "نشطف المنزل أربع أو خمس مرات في اليوم، وحتى شرفة المنزل نسينا وجودها، وإذا خرجنا 'لنشوف وجه ربنا' نضطر لمسح الطاولة كل خمس دقائق، ولون القهوة قد يصبح أبيض، لذلك نكتفي بإغلاق الأبواب النوافذ بإحكام والجلوس في الداخل صيفاً شتاء".
من جهة أخرى يقول أبو محمد وهو من حصين البحر: "يوجد مكان على الشاطئ أحب الذهاب إليه على دراجتي كلما أحسست بضيق أو تعب، أستجمع طاقتي وأتأمل موج البحر".
يروي أبو محمد لرصيف22 أنه في أحد أيام عام 2013 وصل إلى مكانه المفضل، لكنه وقف مشدوهاً إذ رأى منظراً أوقف الدم في عروقه: "فتحت مخلفات الفيول من معمل الإسمنت لتصب في البحر، وتخيلوا تلك المسافة من المعمل حتى البحر مليئة بالمخلفات القذرة التي تتجه نحو بحرنا وشاطئ قريتنا".
كما يشتكي المزارعون في الأراضي المحيطة بالمعمل من انخفاض كمية وجودة منتجاتهم الزراعية، إذ قللت الانبعاثات من نمو وإنتاج أشجار الزيتون، وهو المحصول الرئيس في المنطقة، ويمكن ملاحظة قصر فروع الأشجار في تلك المناطق والسبب هو ارتفاع نسبة الكالسيوم في الهواء، وعندما يتحد مع بخار الماء فإنه يشكل معطفاً سميكاً على أوراق الأشجار، بالإضافة إلى انخفاض محتوى أوراق الزيتون من الكلوروفيل الضروري لعملية التركيب الضوئي.
افتقار لأدنى معايير الأمان
اللافت أن معاون مدير الصحة في محافظة طرطوس، وهو من أبناء قرية حصين البحر، أكد في تصريح صحافي عام 2020 أنه لم تعد هناك جدوى اقتصادية من بقاء المعمل، فالدولة تدفع أموالاً طائلة لعلاج الأمراض التي يسببها مثل سرطانات وتليف الرئة والأمراض الصدرية والتنفسية المزمنة مثل الربو، تفوق عائدات المعمل بكثير. ويشير أهالي المنطقة في أكثر من مناسبة إلى أن الكارثة تكمن في عدم تركيب فلاتر للدخان الصادر عن المعمل بسبب الفساد من الإدارات المتعاقبة.
وقد أظهرت نتائج قياس الغبار في المنطقة المحيطة بالمعمل أن تراكيز الغبار أعلى من المستويات المُحددة من قبل منظمة الصحة العالمية في موقع المعمل وفي حدود 5 إلى 6 كيلومترات المحيطة به، بنحو 3 أضعاف إلى 13 ضعفاً.
ووفقاً لتقرير صدر عن معهد الأبحاث والدراسات تشاتام هاوس، تُسهم صناعة الإسمنت بنحو 8% من إجمالي انبعاثات الكربون عالمياً، وهذا الرقم يفوق انبعاثات قطاعي الطيران والشحن.
ولا يقتصر ضرر المعمل على البحر والهواء والمحاصيل والسلامة العامة لسكان المنطقة، إذ بات يشكل خطراً حتى على عماله، بسبب عدم وجود كادرٍ طبيٍ وانعدام وسائل الأمان فيه.
رافقت الأمراض الصدرية والتنفسية أولادي منذ الصغر، ويزورون المشافي عدة مرات في السنة، والمنطقة المحيطة بالمعمل تنتشر فيها التشوهات الخلقية والأمراض التنفسية والجلدية. كله بسبب الانبعاثات السامة وفساد المسؤولين
فمنذ خمسة أعوام تقريباً، توفي أحد العمال عندما فتح باب المصعد ودخل، ولكن المصعد لم يكن موجوداً. وفي هذا الشأن قال العمال في بيانٍ لهم نشروه على فيسبوك: "بسبب عدم وجود أي عامل من عوامل الأمان التي ذكرها النظام الداخلي للشركة، وعدم وجود طبيب مناوب أو حتى ممرض... ولأن أبواب المصاعد في الشركة تفتح حتى ولو لم يكن المصعد موجوداً، توفي الشاب أدهم اسماعيل عندما كان يحاول النزول من الطابق الرابع... السبب هو تقصيركم وإهمالكم وسرقتكم للمعمل والعمال، ألم تشبعوا بعد! لا سامحكم الله".
وقد تلا تلك الحادثة المؤسفة، حوادث أخرى منها وفاة العامل نورس حسين إثر تعرضه لحروقٍ بليغة خلال عمله في المعمل عام 2019.
معمل الإسمنت وسياسة البعث
يقول حسن (45 عاماً) وهو مهندس مدني، يسكن في إحدى القرى المُحيطة بالمعمل، بأن هذه المنشأة هي كارثة بيئية إنسانية أخلاقية سياسية، ويشرح لرصيف22 مفضلاً عدم ذكر اسمه الكامل: "يبدأ الخطأ أو لنقل الجريمة من التفكير في بناء معمل بهذه الضخامة والمساحة في منطقة مأهولة بالسكان، وهي منطقة سياحية بامتياز يجتمع فيها البحر والنهر والجبل، وقد أُخذَت موافقات بناء معمل من الأهالي في الثمانينيات 'بالسلبطة' والاحتيال".
وقد قيل لأبناء القرية حينها وفق ما أخبروا رصيف22 بأنهم سيحصلون على وظائف هامة في المعمل، ما سينعكس بشكل إيجابي على وضعهم المعيشي، وأنّ المعمل سيكون بعيداً عن التجمعات السكنية، وستُستخدم وسائل الحماية فيه.
يُتابع حسن حديثه عن الفساد الذي لم يُفارق المعمل يوماً: "منذ تأسيس المعمل، تعاقب عليه مدراء اغتنوا من الفساد ونهب كل ما يمكن نهبه، وتضاعفت ثروتهم دون حسيب أو رقيب، وهذا لا يقتصر على المدير، فلجان المشتريات اغتنت من السرقة والنهب، وكلهم 'فتحوا مشاريع تجارية كبيرة' وكتبوا عليها 'هذا من فضل ربي'، وهذا ليس تسريباً أو معلومات سرية، بل هو أمر معروف للجميع".
ويُرجع حسن استشراء الفساد إلى نظام التعيينات الذي يعتمد على الولاء دون الكفاءة: "لا يمكن أن يأتي مدير لا ينتمي لحزب البعث كما هو الحال في كل المؤسسات الحكومية السورية، والمشكلة أنه كان يتم تشجيع الناس على الانتساب للحزب للاستفادة من التعيينات والمناصب، وكان في هذا أكبر تشجيع للمتسلقين، لا بل تشجيع على الفساد وتكريسه في المجتمع".
يبدأ الخطأ من التفكير في بناء معمل بهذه الضخامة والمساحة في منطقة مأهولة بالسكان.
عن البدائل والحلول
من الحلول المطروحة لمعالجة الكوارث التي يتسبب بها معمل الإسمنت، والذي ما زال يستخدم معايير وتقنيات قديمة جداً تعجز عن مواكبة التطورات والشروط الصحية الحديثة، معالجة النفايات الناتجة عنه بطرق لا تضر بالبيئة، واستخدام الطاقة الشمسية لتشغيله عوضاً عن الفيول.
وقد أشار مدير معمل الإسمنت المهندس هلال عمران في تصريحات صحافية سابقة إلى أن المواد الأولية المستخدمة في المعمل وهي الحجر الكلسي والبازلتي تحتوي على الكثير من الشوائب ما يؤدي لزيادة الانبعاثات الغبارية والأعطال في عمل الفلاتر، واقترح حلاً بضرورة استملاك مقالع جديدة تحتوي على مواد أولية نقية لتخفيف الانبعاثات.
كما طرح مسؤولون ومحامون يعملون في القطاع الحكومي على أهالي المتضررين صحياً وخاصةً المصابين بالسرطان، إمكانية رفع دعاوى لمقاضاة المعمل، وذلك في إحدى الندوات التي أقامتها مديرية البيئة في محافظة طرطوس بمناسبة يوم البيئة العالمي تحت عنوان "تلوث الهواء والأثر البيئي لصناعة الإسمنت".
"كل هذه الحلول التي طُرحت من استخدام النفايات الصلبة والطاقة البديلة وتركيب الفلاتر، ليست سوى مُعالجة سطحية للمشكلة، وبشكل أدق مُعالجة العرض بدل المرض"، يقول المهندس حسن.
تكمن المشكلة الحقيقية من وجهة نظره في الطغمة الحاكمة التي تعامل البلد على أنه مزرعة، ويقول: "لم يبقَ أحد إلا ويعلم حجم الكارثة البيئية والصحية لمعمل الإسمنت، ومع ذلك لا يوجد من يُحرك ساكناً. نظم الأهالي الكثير من الوقفات الاحتجاجية للمطالبة بإيجاد حل حقيقي للمشكلة، لكن الرد كان يأتيهم من المخابرات والأجهزة الأمنية بعبارات التخوين والاتهامات بتشويه 'صورة الوطن'، والمساهمة في 'الحرب والمؤامرة الكونية على سوريا'، فكانوا يعودون إلى بيوتهم محملين بالوعود ولا شيء سواها".
كل الحلول التي طُرحت من استخدام النفايات الصلبة والطاقة البديلة وتركيب الفلاتر، ليست سوى مُعالجة سطحية للمشكلة، وبشكل أدق مُعالجة العرض بدل المرض
وضمن نفس السياق يقول مهندس الطاقات المتجددة سليمان محمد إن المشكلة الأساسية تكمن في وجود المعمل بالقرب من منطقة سكنية، وقد يكون استخدام الطاقة الشمسية بدل حرق الوقود حلاً، لكنه غير اقتصادي لأنه بحاجة لتأمين مساحات شاسعة لوضع ألواح الطاقة الشمسية، ويجب الأخذ بعين الاعتبار فصل الشتاء حين تحجب الغيوم الشمس وتصبح هناك حاجة لتخزين الكهرباء، ويضيف لرصيف22: "يمكن الاعتماد على الطاقة الشمسية لتخفيف الأحمال إلى النصف، وبذلك نخفف التلوث واستهلاك الوقود".
وعن إمكانية استخدام طاقة الرياح يجيب محمد: "نعود هنا إلى المشكلة ذاتها، وهي وجود المعمل في قلب منطقة سكنية، حيث لا يمكن وضع عنفات الرياح بقرب تجمع سكاني بسبب ضجيجها المزعج واحتمالية سقوطها ما يعرض السلامة العامة للخطر. بالمقارنة مع الطاقة الشمسية تُعتبر الأخيرة أفضل وأكثر أماناً".
ويختم: "لا يقتصر ضرر دخان المعمل على الملوثات، فالحرارة التي تخرج مع الأبخرة تضر بالبيئة، ويمكن تخفيف سلبياتها والاستفادة منها عبر المبادلات التي تخفف من درجة الحرارة قبل انبعاثها للوسط الخارجي".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...