شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
مراعاة لدخل المواطن... البيئة السورية تتحول إلى مكب للنفايات الإلكترونية الرديئة

مراعاة لدخل المواطن... البيئة السورية تتحول إلى مكب للنفايات الإلكترونية الرديئة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

بيئة ومناخ نحن والبيئة

الأحد 20 أغسطس 202310:22 ص

في ظل الظروف الاقتصادية التي يعيشها السوريون، لم يعُد هناك من مهرب أمامهم سوى اقتناء المواد والقطع الإلكترونية الرخيصة والتي تتصف بالعمر القصير ورداءة الصناعة، مثل البطاريات بأنواعها والهواتف المحمولة والشاشات والحواسب وملحقاتها والأجهزة الكهربائية.

لكن على المقلب الآخر، تحوّلت المنازل مع الأيام إلى مستودع للخردة ومرتع خفيّ للأمراض، لتغدو الطبيعة الحل الوحيد أمام الإنسان للتخلّص من نفاياته الإلكترونية، وهو يجهل دون قصد أنه يحول البيئة إلى حاضنة للأمراض الخطيرة عبر تسرب تلك النفايات وذوبانها في التربة والمياه والهواء.

أسواق الغش

تنتشر مئات المحال في جميع المحافظات السورية لبيع الأجهزة والقطع الإلكترونية على اختلاف أنواعها، ويعتبر شارع النصر وسط دمشق أهم أسواق هذه الأجهزة، إذ يضمّ عشرات المحلات الصغيرة الملاصقة لبعضها والمتخصّصة في استيراد الأجهزة الإلكترونية الكاملة وقطع الصيانة وتوزيعها. ولم تكن مهمّة الحصول على المعلومات واستنطاق تجار الإلكترونيات هناك بالأمر السهل، بل حاولوا الالتفاف وتبسيط الأمر بأنهم يستوردون النوعيات الجيدة فقط.

تكمن مشكلة القطع الرخيصة المنتشرة في الأسواق السورية في خطورة العناصر الثقيلة السامة الموجودة فيها.

إلا أن جولة لرصيف22 على هذا السوق كشفت عن أن أغلب القطع الإلكترونية المستوردة خاصة من الصين هي من النوع الرديء ذي العمر القصير، وذلك تحت حجج ومسوّغات الواقع الاقتصادي والقدرة الشرائية الضعيفة للمواطن، من دون الوعي تجاه الكارثة البيئية التي تتراكم يوماً بعد يوم مع امتلاء الأسواق والمنازل بهذه القطع سيئة الجودة والتي يتعين استبدالها بشكل دوري.

وحسب حديث أحد التجار، فإن الاستيراد يكون لصنفين من المواد، الأصلية أو المعاد تجميعها. فمثلاً يمكن شراء جهاز تحكم بخمسة آلاف ليرة سورية (أقل من نصف دولار)، في حين يبلغ سعر الجهاز الأصلي أكثر من 30 ألف ليرة، لكن مبيعاته تكون قليلة جداً، وأضاف التاجر وهو يبتسم: "بنشتغل بسوريا بأرخص المنيح، بما يتماشى مع حال الزبون وقدرته الشرائية المنخفضة"، وهو رأي كثير من التجار، فالرواتب المنخفضة هي الحلقة الأضعف.

أما فيما يخص عمليات الاستيراد، فهي تتم وفق التاجر عن طريق مكاتب وسيطة أو مكاتب الشحن في الصين، إضافة إلى السوق المعروف بجبل علي لإعادة تدوير الإلكترونيات في الإمارات العربية المتحدة، وتُرسل البضائع عبر مكاتب الشحن إلى التاجر السوري ليوزعها بدوره على المحلات.

ولم يخفِ صاحب محل إلكترونيات "الجزائري" الذي له باع طويل في مجال الصيانة، غشّ ودهاء بعض التجار في الصين ومعهم بعض التجار السوريين، إذ يقومون بتجديد القطع المفكوكة من الأجهزة الأصلية وإعادة بيعها، والتاجر السوري يستورد أرخص القطع لتوزيعها على محال الصيانة، "علماً أن هناك شركاتٍ صينية محترمة وتبيع بصدقية وثقة، لكن لا نشاهد بضاعتها في سوريا"، وفق تعبيره.

أغلب القطع الإلكترونية المستوردة خاصة من الصين هي من النوع الرديء ذي العمر القصير، تحت حجج ومسوّغات الواقع الاقتصادي والقدرة الشرائية الضعيفة للمواطن، من دون الوعي تجاه الكارثة البيئية التي تتراكم يوماً بعد يوم مع امتلاء الأسواق والمنازل بهذه القطع سيئة الجودة

ولفت محدّثنا إلى تجربة التجار السعوديين مع الصين، فبعد أن تعرّضوا للغش عمدوا إلى اتباع طرق رقابية أكثر صرامة تجاه استيراد القطع الإلكترونية، من خلال إرسال مفتشين إلى الصين قبل الاستيراد، وفي حال حاولت الشركة الغش يتم إيقاف التعامل معها ومنح تعويض للمستورد.

كوارث بيئية وصحية

تكمن مشكلة هذه القطع الرخيصة المنتشرة في الأسواق السورية اليوم في خطورة العناصر الكيميائية الثقيلة السامة الموجودة فيها، ومنها الزنك والرصاص والحديد والكروم، وذلك وفق حديث رئيس قسم العلوم البيئية في كلية العلوم في جامعة دمشق الدكتور عبد الرحمن السفرجلان، وفي حال رميها بطرق عشوائية في الطبيعة تتثبّت في التربة وتمتصّها جذور النباتات، وتنتقل بعدها إلى أجسام المواشي ومنها إلى الإنسان لتسبّب أمراضاً خطيرة على رأسها سرطانات البروستات والرئة والكبد والطحال والجهاز الهضمي والتنفسي كما تؤثر في الأعصاب.

ويضيف السفرجلان لرصيف22: "الحل للتخفيف من هذه الملوّثات يكمن في وجود مراكز متخصّصة بإعادة تدوير القطع الإلكترونية القديمة".

وقرع الباحثان في مجال الكيمياء عبد السميع هنانو ونور حمودة في حديثهما مع رصيف22 جرس الإنذار حول خطورة النفايات الإلكترونية على البيئة وصحّة الإنسان، إذ إنها تطلق مواداً كيميائية سامة، وينتج عن حرقها أو تفكيكها ضمن عمليات إعادة تدوير غير رسمية، إطلاق مواد ضارة مثل الديوكسينات والرصاص والزئبق والكادميوم في الهواء، ويمكن أن تسبّب هذه المواد مشكلات في الجهاز التنفسي وسرطانات وأضراراً عصبية واضطرابات هرمونية لدى البشر والحيوانات.

من جهةٍ أخرى، تؤثر النفايات الإلكترونية سلباً في التربة والمياه، وتالياً في جودة هذه الموارد وتوافرها، كما يمكن أن تؤثر تلك النفايات في التنوّع الحيوي من خلال تعريض بعض الأنواع الحيوانية والنباتية الحساسة لخطر التلوث.

الحل للتخفيف من هذه الملوّثات يكمن في وجود مراكز متخصّصة بإعادة تدوير القطع الإلكترونية القديمة.

وعلى مستوى بيئة اليابسة، حسب الباحثين، يمكن أن تتلوّث التربة بطريقتين من خلال الاتصال المباشر بالملوّثات من النفايات الإلكترونية أو المنتجات الثانوية لإعادة تدوير النفايات والتخلص منها، أو بطريقة غير مباشرة من خلال الري باستعمال المياه الملوّثة، علماً أنه عند التخلص من النفايات الإلكترونية بشكل غير صحيح تتسرّب المعادن الثقيلة مباشرة إلى التربة، ما يتسبّب في تلوّث المياه الجوفية والمحاصيل التي قد تزرع في تلك التربة الآن أو في المستقبل.

كما يمكن أن يؤدّي التفكيك إلى إطلاق جزيئات كبيرة وخشنة في الهواء تترسّب بسرعة على الأرض بسبب حجمها ووزنها وتلوّث التربة لاحقاً، وينتج عن تمزيق أو حرق النفايات الإلكترونية معادن ثقيلة تتسرّب إلى التربة، كما يمكن أن تتلوّث المياه عن طريق مدافن النفايات غير المصممة على نحو سليم.

معادن ثقيلة في السلسلة الغذائية

أما على مستوى النظم البيئية، فقد لفت الباحثان إلى أن المعادن الثقيلة الناتجة عن التخلص غير السليم من النفايات الإلكترونية وأنشطة إعادة التدوير غير المكتملة والحرق والتقطيع والتفكيك، تغيّر تكوين التربة بطرق معقدة لا يمكن التنبّؤ بها، ويمكن أن تكون هذه التغييرات ضارة جداً للكائنات الحية الدقيقة في التربة والنباتات، وكذلك الحيوانات والحياة البرية التي تعتمد على هذه النباتات للبقاء على قيد الحياة، إضافة إلى أنه يمكن أن تتأثر بعض الأنواع النباتية بشكل مضاعف بالنفايات الإلكترونية من خلال تلوّث التربة.

ونتيجة لكل ذلك فإن الملوثات تتراكم حيوياً في السلسلة الغذائية، وتؤثر بشكل مثير للقلق في توازن التنوع الحيوي والنظام البيئي.

تؤثر النفايات الإلكترونية سلباً في التربة والمياه، وتالياً في جودة هذه الموارد وتوافرها، كما يمكن أن تؤثر تلك النفايات في التنوّع الحيوي من خلال تعريض بعض الأنواع الحيوانية والنباتية الحساسة لخطر التلوث

إضافة إلى ما سبق، فإن المجاري المائية السطحية يمكن أن تتحمض بسبب النفايات الإلكترونية، ما يمكن أن يؤدّي إلى قتل الكائنات البحرية وكائنات المياه العذبة، ويتأثر البشر بشكل مضاعف بالتربة الملوّثة من خلال استهلاك المحاصيل المزروعة فيها، وتناول البيض واللحوم والأسماك التي سبق أن راكمت المواد السامة حيوياً في السلسلة الغذائية. وتتفاقم هذه الآثار لدى الأطفال لأنهم أكثر عرضة للعب بالتربة الملوّثة وابتلاعها، خاصة في حال عدم كفاية ممارسات غسل اليدين.

إعادة التدوير ضرورة

لا يوجد تقدير أو معلومات رسمية لكمية النفايات الإلكترونية أو حجمها في سوريا، لأن هذه النفايات غير معلنة ولا ترحّل يومياً، كما أن القسم الأكبر من الإلكترونيات يدخل عن طريق التهريب إلى البلاد.

لا بد من منع استيراد الأجهزة المستعملة، بحيث لا تصبح البلد سوقاً للتخلص من النفايات الإلكترونية الرديئة.

وقبل اندلاع الحرب، شُكلت لجنة موسّعة من وزارة البيئة والجهات المعنية ووزارة الإدارة المحلية ومركز البحوث العلمية ووزارة الصناعة ومديرية الجمارك، لوضع دليل لإدارة النفايات الإلكترونية ودراسة كميتها والجدوى الاقتصادية وطرق معالجتها، إلا أن اللجنة توقفت عن العمل بعد الحرب، لأن عملها يتطلّب جولاتٍ ميدانية على المحافظات، وضبط الكميات الداخلة إلى القطر، وهو أمر لم يعد متاحاً.

وقد طرح المتحدثون حلولاً لتخفيف خطر هذه النفايات، ومنها منع استيراد الأجهزة الإلكترونية المستعملة أو القليلة الجودة، بحيث لا تصبح البلد سوقاً للتخلص من النفايات الإلكترونية الرديئة، وإصدار التشريعات والقوانين التي تمنع استيراد الأجهزة الإلكترونية المستعملة أو القليلة الجودة.

إلى جانب ذلك، لا بد من اتخاذ الإجراءات للحدّ من هذه النفايات عبر إنشاء معامل لإعادة فرزها وتدويرها، فالتعامل مع العناصر الموجودة فيها يحتاج إلى خبراء وأجهزة وقاية، لاحتوائها على العديد من العناصر الكيماوية وبعضها خطر جداً، وكل عنصر يحتاج إلى تجهيزات خاصة لمعالجته.

ومن الأمور الهامة وفق المتحدثين، تنفيذ حملات توعية عن طريق الإعلام والجهات المعنية والمدارس، وتخصيص أمكنة خاصة لرمي النفايات الإلكترونية وتجميعها، حتى لا تحرق بشكل عشوائي من المواطنين، بل تشجيعهم على فرزها عن النفايات الأخرى لتجنب خطرها.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ما أحوجنا اليوم إلى الثقافة البيئية

نفخر بكوننا من المؤسّسات العربية القليلة الرائدة في ﻣﻴﺪﺍﻥ ﺇﺫﻛﺎﺀ ﺍﻟﻮﻋﻲ البيئيّ. وبالرغم من البلادة التي قد تُشعرنا فيها القضايا المناخيّة، لكنّنا في رصيف22 مصرّون على التحدث عنها. فنحن ببساطةٍ نطمح إلى غدٍ أفضل. فلا مستقبل لنا ولمنطقتنا العربية إذا اجتاحها كابوس الأرض اليباب، وصارت جدباء لا ماء فيها ولا خضرة.

Website by WhiteBeard