"كتلة ملتهبة ضخمة تمكنّا من تشكيلها، وتفوّقنا بها على فريق القبلية"؛ بحماسة كبيرة تحدث أحمد (14 سنةً)، واصفاً الاحتفال بعيد المولد النبوي في جزيرته أرواد.
اعتاد سكان الجزيرة التابعة لمحافظة طرطوس الساحلية السورية الاحتفال بعيد المولد النبوي كل عام من خلال إشعال النار، والتنافس حول من يستطيع تشكيل كميات أكبر من الدخان، وينقسم سكان الجزيرة خلال التحدي إلى قسمين: شمالي أو "الشمالية"، وقسم جنوبي يُطلق عليه "القبلية".
في الماضي اعتاد الناس خلال هذا الاحتفال المسمى محلياً "المعراج"، إشعال أوراق الأشجار والأغصان، ولكن تطور الأمر إلى إشعال الدواليب من أجل الحصول على لهب ودخان أكبر، ويشرح لرصيف22 مؤسس صفحة "أبناء وأصدقاء جزيرة أرواد" على فيسبوك، بأن هذا الطقس سنوي اعتاد سكان الجزيرة القيام به منذ سنوات طويلة، وهو جزء من عاداتهم، ففي الماضي لم تكن تملك الجزيرة الكهرباء ولهذا درجت العادة على إشعال النار للإنارة والاحتفال في مناسبتي عيد المولد النبوي الشريف، ويوم الإسراء والمعراج، وبقيت هذه العادات والتقاليد تُتوارث عبر الأجيال إلى يومنا هذا.
في الماضي اعتاد الناس إشعال أوراق الأشجار والأغصان، ولكن تطور الأمر إلى إشعال الدواليب للحصول على لهب أكبر.
وعن تفاصيل الاحتفال يشرح بأن تجميع الدواليب يبدأ قبل نحو شهرين من موعد الاحتفال، وتسمى النار المشتعلة باسم المعراج أيضاً، ويشتد التنافس بين الفرق وكل فريق يقول إنه هو من ربح، من دون أن يربح أحد أي شيء في النهاية.
رماد وكبريت وزيوت
يرفض المتحدث اتهام جزيرته وأهلها بتلويث البيئة، لأن التلوث الناتج عن احتفالهم الذي يُعقد مرتين في السنة، لا يمكن مقارنته بالمعامل وخاصةً معامل الإسمنت والفوسفات التي تبث دخانها الأسود على مدار العام.
لكن بحسب ما يشرح المهندس الاستشاري أمير البخاري، لرصيف22، يُعدّ حرق الإطارات من الأساليب الضارة بيئياً، فبمجرد احتراقها يصعب جداً إطفاء حرائقها، كما تنشأ عنها مجموعة متنوعة من منتجات التحلل، تشمل الرماد الذي يحتوي عادةً على الكربون وأكسيد الزنك وثاني أكسيد التيتانيوم وثاني أكسيد السيليكون، ومركبات الكبريت أي ثاني كبريتيد الكربون وثاني أكسيد الكبريت وكبريتيد الهيدروجين، بالإضافة إلى الهيدروكربونات العطرية متعددة النوى، كما تشمل أيضاً الزيوت العطرية والنفثينية والبارافينية، وأكاسيد الكربون والنيتروجين، ويعتمد مدى إنتاج كل من هذه المواد وغيرها من منتجات الاحتراق على ظروف كل حريق.
ويتابع المهندس البخاري، بأن أضرار حرق الإطارات كبيرة، تتمثل في تلوث الهواء، بسبب إطلاق الدخان الأسود ومواد أخرى ضارة في الغلاف الجوي، كما تسبب تلوثاً للمياه، إذ تسمح الحرارة الشديدة بحدوث الانحلال الحراري للمطاط، فتنتج عنه مادة تشبه الزيت قد تصل إلى المياه إذا استُخدم الماء لإخماد الحريق، كما يمكن أيضاً نقل بقايا الاحتراق الأخرى مثل الزنك والكادميوم والرصاص بواسطة مياه النار إلى خارج الموقع.
ومن الأضرار أيضاً تلوث التربة، فبقايا الاحتراق تسبب تلوثاً فورياً من خلال نواتج التحلل السائل التي تخترق التربة، وتلوثاً تدريجياً من ترشيح الرماد والمخلفات غير المحترقة بعد هطول الأمطار أو دخول المياه الأخرى.
احتفالات البربارة والقوزلي
في ريف طرطوس أيضاً، وتحديداً في قرية الشيخ بدر، يتجمع الشبان والشابات في عيد القديسة "بربارة"، مطلع كانون الأول/ ديسمبر من كل عام، ويجمعون أوراق الأشجار والأغصان لإشعال النار، التي تسمى "قوزلة"، كجزء من طقوس هذا الاحتفال، ومع استمرار التنافس بين الشبان دخلت أيضاً الإطارات التي وفرت لهم حريقاً أكبر وتالياً لهباً أضخم، إلى الطقوس.
مظاهر الاحتفال الجديدة لم تعجب كثيرين يرون فيها مصدراً كبيراً للتلوث يمكن أن يبقى لعشرات السنين مقابل الفرح لنحو الساعة، وتقول وصال إبراهيم (30 سنةً)، وهي من سكان الشيخ بدر، بأنه في كل سنة في عيد البربارة اعتاد الناس إشعال "القوزلة" أو شعلة اللهب، وهي مصدر للفرح والتسلية، وكانت غير ضارة في الماضي، لكن اليوم يستخدم البعض الإطارات التي تسبب دخاناً كبيراً، ما يشكل خطراً على صحة الناس وخاصةً الأطفال.
هذا الطقس سنوي اعتاد سكان الجزيرة القيام به منذ سنوات طويلة، وهو جزء من عاداتهم، ويبدأ تجميع الدواليب قبل نحو شهرين من موعد الاحتفال، ويشتد التنافس بين الفرق وكل فريق يقول إنه هو من ربح، من دون أن يربح أحد أي شيء في النهاية
وتشرح السيدة سعاد سلامة (65 سنةً)، من الشيخ بدر أيضاً، كيف أنهم في الماضي كانوا يجمعون أغصان الأشجار، لإشعال النار لطبخ القمح والدجاج، وبعد الانتهاء من الأكل، يُجمع الحطب وتوقد به النار مساءً، ويغنّون: "قوزلي بربارة الله يعيدها لولاد الحارة"، ويجمع الأطفال الأغصان كي يضمنوا الحصول على نار ضخمة ويستمر الاحتفال نحو ساعتين.
وتضيف أم علي لرصيف22: "لم تسبب هذه الاحتفالات أضراراً أو حرائق، لكن مع دخول الإطارات اليوم أصبحت تسبب غيمةً سوداء، ولكونها تعطي لهيباً جميلاً يفرح الأولاد بها ويستمرون في إشعالها"، وتختم: "كم من فروق بين احتفالات اليوم واحتفالات الماضي".
استعمالات عديدة
لا يقتصر استخدام السوريين للإطارات على الاحتفالات فقط، فلهيبها القوي واستمرار اشتعالها لفترة طويلة، أغريا كثيرين لاعتمادها كوسيلة للتدفئة متحملين رائحتها الكريهة وتأثيراتها الضارة، وتقول سيدة خمسينية تقيم في ريف دمشق إنهم بسبب ارتفاع أسعار المحروقات وندرتها اضطروا إلى حرق أي شيء من أجل التدفئة، ومن بين الأشياء التي يحرقونها البلاستيك والإطارات.
ويعمد المزارعون إلى إشعال الإطارات بين الأشجار في فترة الصقيع لحماية موسمهم، ويشرح الدكتور رشيد دهنة، المدرّس في كلية الزراعة في جامعة دمشق، كيف أن الصقيع يحدث عندما تكون السماء صافيةً ودرجات الحرارة منخفضةً، لأن وجود الغيم في السماء يمتص الإشعاع الصادر من الأرض فتبقى الأرض محافظةً على دفئها.
أضرار حرق الإطارات كبيرة، تتمثل في تلوث الهواء، بسبب إطلاق الدخان الأسود ومواد أخرى ضارة في الغلاف الجوي، كما تسبب تلوثاً للمياه، إذ تسمح الحرارة الشديدة بحدوث الانحلال الحراري للمطاط، فتنتج عنه مادة تشبه الزيت قد تصل إلى المياه، ومن الأضرار أيضاً تلوث التربة بسبب بقايا الاحتراق
ويضيف لرصيف22، أن الصقيع يضرّ بالأشجار والنبات، لهذا يعمد الفلاحون إلى بعض الحلول لتدفئة النبات ومنها حرق الإطارات، لأنها تأخذ وقتاً طويلاً وتصدر دخاناً يرفع "الصقعة"، ويمنع تأثيرها عليه، وبرأي المتحدث، حرق الإطارات لا يؤثر على التربة إذ لا تُستخدم منها كميات كبيرة، فالمزارعون يشعلون أيضاً الزيت المحروق كما يرشون الرذاذ على الأشجار.
حديقة إطارات
أمام هذه الاستخدامات غير البيئية للإطارات، قرر فنان سوري مقيم في مدينة سلمية، شرق حماه، تقديم نموذج مختلف، فاستخدم الإطارات أو "الدواليب" بشكل فني، كما قدّم أعمالاً أخرى صنعها بالكامل من الأشياء المرمية والتالفة، حتى أنه أسس متحفاً دائماً في الطريق عرض فيه مجسمات لتقاليد سلمية القديمة بما فيها الزي الشعبي الخاص بالمدينة.
ويتحدث أسامة الشيحاوي (53 سنةً)، إلى رصيف22، عن أن العمل بالإطارات صعب للغاية كما أنه يحمل درجةً عاليةً من الخطورة، لكن في المقابل هو وسيلة للفت الأنظار إلى ضرر رمي هذه المخلفات أو حرقها، وتقديم نماذج مختلفة يمكن تنفيذها، لهذا صنع حيوانات وأواني زراعيةً من الإطارات، أراد من خلالها التأكيد للناس بأنه يمكن الاستفادة من الإطارات وتلوينها أو تقطيعها لصنع طائر مثلاً أو كرسي أو حتى سلال لحمل الأشياء.
نجحت تجربة الشيحاوي المتخصص في الديكور، في إثارة اهتمام كثيرين ضمن محيطه، لهذا دعته جمعية "أصدقاء سلمية" لتنفيذ مشروع بيئي في الحديقة العامة، وبالفعل جمع كميات ضخمةً من الدواليب وبدأ بإعادة تشكيلها، وبعد عمل مضنٍ نشر ما أنجزه على عشب الحديقة، فغدت العجلات القديمة مقاعد وطاولات وصل عددها إلى مئة وخمسين مقعداً وطاولةً، كما صنع حيوانات كالدب والفيل، وألعاباً متنوعةً للأطفال قوامها بالكامل من الإطارات، ولوّنها بألوان مختلفة لتعطي لمسةً جماليةً للمنطقة.
وترك المشروع أصداء إيجابيةً في الحديقة التي تُعدّ المتنفس الوحيد لأبناء المنطقة، وطالبه كثيرون بتكرار المبادرة وتنفيذ أعمال أخرى ونشرها ضمن الأماكن العامة، ويقول الشيحاوي: "أنا أرغب في القيام بهذا الشيء لكنني لست صاحب قرار في هذا العمل، كما أنني أعمل بأدواتي البسيطة وعلى نفقتي الخاصة، وأتمنى لو أتلقى الدعم لأتمكن من نشر أعمالي الفنية الصديقة للبيئة".
ولم يقتصر الأثر الذي تركته تجربة الشيحاوي، على الاستمتاع بالحديقة، بل قرر كثر الاستفادة من مهارته وصنع أثاث لمنازلهم ومزارعهم من خلال ما يملكون من إطارات قديمة، بدلاً من رميها في المكبات كما كانوا يفعلون في السابق، أو حرقها كوسيلة للتخلص منها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...