"عادي يعني زي أي حد"، قلت لطبيبي حين سألني عما إذا كنت قد أصبت من قبل بحالة الخوف من الموت. الكل يخاف من الموت يا دكتور، حتى وإن زعم غير ذلك. قال إنه يقصد الخوف المرضيّ الذي يشتبه أن يكون سبباً في الأعراض التي شكوت له منها، قلت إني عرفت من قبل أصدقاء يعانون من أنواع من الخوف المرضيّ بشكل أعاقهم عن الحياة الطبيعية، وبدا لي أنني محصّن من مثل ذلك، وقبل أن أحكي له عن خوفي المتزايد مؤخراً من الغرق، قاطع استرسالي الذي لا يصلح في عيادة تشغي بالمرضى، وقال إن التحاليل والفحوصات التي أجراها كلها مطمئنة، باستثناء جلطة ظهرت في إحدى شرايين الرقبة.
قبل أن ألطم بحجرين فور سماعي لكلمة "جلطة" الجديدة لانج على سجلي الصحي، قال إنها جلطة بسيطة لا تستدعي الكثير من القلق، وتحتاج فقط إلى تناول الاسبرين بانتظام، لكنه طلب زيارة طبيب قلب وعمل رسم قلب مع المجهود، ربما تفيد نتائجه في فهم ما حكيت له عنه، أما لو جاءت نتائجه مطمئنة سيكون عليّ أن أراجع طبيباً نفسياً لعله يفهم سرّ إحساسي المتكرّر خلال الأسابيع الأخيرة بأن روحي "بِتتسحب مني وأنا نايم"، وهو تعبير لم يكن ممكناً أن أستخدمه بسهولة في عيادة بنيويورك، لو لم يكن طبيبي المعالج مصرياً من شبرا، يعرف الفوارق الدقيقة بين أن تنسحب روح الإنسان منه، وبين أن "يِسورَق" أو "يسخسخ على روحه".
عليّ أن أراجع طبيباً نفسياً لعله يفهم سرّ إحساسي المتكرّر بأن روحي "بِتتسحب مني وأنا نايم"، وهو تعبير لم يكن ممكناً أن أستخدمه في عيادة بنيويورك، لو لم يكن طبيبي المعالج مصرياً من شبرا، يعرف الفوارق الدقيقة بين أن تنسحب روح الإنسان منه، وبين أن "يِسورَق" أو "يسخسخ على روحه"
تعامل طبيبي مع شكواي بجدية، لأنه لم يلمس في خلال سنين تعاملي معه أي رغبة في التمارض، كما أن المناخ العام لم يكن مناسباً لأي "علوقية" طبية، فقد كنا في أول أيام الوباء الذي سيتحوّل إلى جائحة، ولم يكن التنطيط بين العيادات ومراكز التحليل والأشعة أفضل قرار مناسب للمرحلة، وكان يجدر بي أن أؤجل البحث عن حل لمشكلتي حتى ينجلي غبار الوباء، لكنني لم أستطع مغالبة تداعيات تلك الحالة اللعينة التي كانت توقظني من النوم أكثر من مرة، وأنا أحاول أخذ نَفَسي وأقرأ الشهادتين وأفتح عينيّ لأتأكد أنني لا زلت من أهل الدنيا، ثم أقول لزوجتي المرتعبة من حالي، إن "كل شيء تمام" وأن عليها ألا تقلق لأنها بالتأكيد حالة عابرة لا يعقل أن تستمر فترة طويلة.
لم أجد موعداً قريباً لدى طبيب القلب، وفي انتظار المثول في حضرته، قرّرت لعب دور الطبيب النفسي مبكراً، وأخذت أبحث عما يمكن أن يكون سبباً نفسياً لحالتي، ولم يكن تخمين ما جرى صعباً، وقد أخذت في أقل من شهر خبطتين وراء بعض، الأولى كانت الرحيل الفاجع لصديقي القديم المخرج علي رجب. كانت تصاريف الحياة قد فرقت بيننا قبل أن أغادر مصر، وكنت أسأل عنه أصدقاءنا المشتركين، فأسمع أخباراً لا تسرّ عن تعثر مشاريعه الفنية.
حاولت قبل رحيله بسنتين أن أتواصل معه لكنه لم يرد على رسائلي، لم يقل لي أحد إنه كان يشكو من مشاكل في القلب لأنه لم يكن يبوح بهمّه لأحد، ولم يكن أحد يراه إلا كما عرفته، ضاحكاً صاخباً مفعماً بالحياة، ولذلك صُعق كل من عرفه حين عرفوا أنه أهمل في العلاج، ولم يحتمل الضغوط العصيبة التي واجهها عملياً وعائلياً، فخذله قلبه وهو يركب سيارة أجرة عائداً من رؤية أبنائه، ليرحل إلى رحاب الله قبل أن يُكتب لنا لقاء جديد، كنت أتصور أنه يمكن أن يحدث لو جاء لزيارة بنت أخته المقيمة في ولاية قريبة.
الخبطة الثانية كانت الرحيل الفاجع للمخرج السوري الكبير حاتم علي وهو في قمة عطائه ونشاطه. لم يكن حاتم صديقاً مقرباً لي مثل علي، كنت واحداً من جمهوره المتيّم بأعماله العظيمة، ثم تشرّفت بمعرفته عن قرب، فأحببته أكثر بعد أن جمعتنا عام 2007 تجربة العمل على فيلم سينمائي، كان بالمناسبة يدور حول تجربة الموت التي تزلزل أسرة تصورت أنها حازت السعادة إلى الأبد.
قبل عرض المشروع على حاتم، كان يُفترض أن يقوم ببطولة الفيلم أحمد زكي، لكنه مات قبل أن يتحقق حلم العمل معه، وحين جاء حاتم، بدأنا العمل على المشروع مع خالد صالح، لكن وفاته المفاجئة أدخلت الفيلم في غيبوبة لم يفق منها حتى الآن، لكنني كسبت صداقة حاتم، وكان يفترض أن نعمل على مشروع تلفزيوني آخر، ثم انقطع تواصلنا واستعدناه بعد أن هاجر إلى كندا، وظننت أن حظي ابتسم حين جاءت فرصة العمل مجدداً معه في مشروع سينمائي كبير، لأفيق من أحلامي على خبر رحيله الفاجع.
لم يكن رحيل علي وحاتم أول اختباراتي مع الفقد ولا أقساها برغم محبتي البالغة لهما، قلّب رحيلهما مواجعي على فراق علاء الديب ومحمود عوض وأسامة أنور عكاشة وأحمد فؤاد نجم وعمار الشريعي وبراء أشرف وحنان كمال، فقضيت أيامي ولياليّ في بكاء مرير ودعاء متواصل وذكريات تجدّد بهجتها الدموع، وبحث عن صور ورسائل وأوراق قديمة وتواصل مع الأهل والأصدقاء المشتركين لتقديم العزاء، ومحاولات فاشلة للكتابة تؤجل إلى حين يهدأ فيه الحزن وتصبح الكتابة ممكنة، ولم يخطر على بالي أن حزني سيلمّس هذه المرة مع هواجس دفينة باتت تتضاعف في السنوات الأخيرة، ليتحول إلى خوف مستمر من الموت، يطبق على صدري ويحرمني صفو النوم.
هل سيخذلني مبدئي المفضل "ابدأ من جديد"؟ هل سأتمكن من الوفاء بالتزاماتي تجاه أسرتي؟ هل سأسامح نفسي لو فشلت في إكمال مهمتي مع بناتي؟ لو متّ، كيف سيكون حال داليا بعد أن أرحل؟ هل سأرى أمي بعيداً عن المكالمات التي تبهدلها رداءة الإنترنت؟
كنت قبلها بأشهر قد أخذت قراراً متهوّراً بالتوقف عن تقديم البرامج التلفزيونية والتفرّغ الكامل للكتابة، لعلي أنجز أحلاماً تأخرت لسنوات، على رأسها كتابة الرواية والعودة إلى كتابة السيناريو حتى لو لم ينفّذ ما كتبته. لم تكن المخاطرة سهلة لكنها كانت محسوبة على الأقل، وكنت أستعيد بها الحالة التي جعلتني قبل عشرين عاماً أختار التوقف عن العمل في الصحافة وإعداد البرامج لكي أتفرغ لكتابة السيناريو، في قرار اعتبره كل أصدقائي حماقة تامة في ظل ضبابية كل الفرص وفشل المحاولة تلو الأخرى، ثم ثبت أنه كان أفضل قرار اتخذته في حياتي وقتها، لكن هل حسبتها غلط هذه المرة؟
من قال إن طاقتي وصحتي الآن سيتحملان عواقب المخاطرة؟ هل سيخذلني مبدئي المفضل "ابدأ من جديد"؟ هل سأتمكن من الوفاء بالتزاماتي تجاه أسرتي؟ هل سأسامح نفسي لو فشلت في إكمال مهمتي مع بناتي؟ لو متّ، كيف سيكون حال داليا بعد أن أرحل؟ هل سأرى أمي بعيداً عن المكالمات التي تبهدلها رداءة الإنترنت؟ هل سأقع في فخ الديون لأول مرة في حياتي؟ وكل هذا كوم يختلف عن كوم أسئلة الكتابة نفسها التي تتجدّد مع كل فقرة، بل ومع كل سطر.
ثم ماذا عن أسئلة الجدوى والخلود والمعنى التي تعشق النفس الهروب إليها ساعة الزنقة؟ ماذا عن الكتب والمجلدات التي تطل من المكتبة تحتج على ركنها على الرفوف وتسألك إذا كنت ستقرأها قبل أن تتكل على الله؟ ماذا عن السيناريوهات والقصص المحبوسة في "الفولدرات" إلى حين لا يعلمه إلا الله؟ ماذا عن اضطرارك في كل يوم لكتابة شيء جديد يرضيك ويعجب قراءك ويساعدك على الاستمرار في العمل الوحيد المتاح؟ وإذا كنت قد كبرت وعقلت على الأسئلة الوجودية الكبرى التي أفنت أجيالاً قبلنا، فهل يمكن أن تتجاهل الأسئلة التي تثيرها حملات التخوين والتكفير التي لا تتوقف بعد كل كتابة لا تأتي على المزاج؟ وبما أن الله أكرمك فتجاوزت الحنين إلى الماضي وقرّرت أن تواجه ببسالة رزالة الحاضر، فكيف يمكن أن تتجاوز الخوف من الآتي وهو يطبق على صدرك كل ليلة؟
ساعدتني استعادة كل هذه الأسئلة على فهم حالتي المقبضة، لكنها لم تساعدني على تجاوزها. أصبحت أعرف لماذا أصحو من النوم مفزوعاً، لكنني لم أعد مهتماً بالفهم قدر اهتمامي باستعادة القدرة على النوم العميق، لكي أؤدي ما أنا ملزم بأدائه من مهام لا تحتمل التأجيل. فشلت كل نصائح الأهل والأصدقاء وشفيع الحيارى "غوغل" في التصالح مع النوم وتجاوز الخوف من الموت، وبقي الأمل الأخير في مساعدة الطبيب النفسي وعقاقيره بعد التأكد من سلامة شرايين القلب وأوردته، لكن أم الكباتن جاءت لتعفيني من زيارة الطبيب النفسي، ووجدت عندها حكمة شافية لمست صداها فيما بعد لدى الفيلسوف الشهير سبينوزا، ولكن بعد أن زالت الغمّة وتصالحت مع النوم وانتفت حاجتي ولو مؤقتاً إلى الطب النفسي والفلسفة.
*****
نكمل الأسبوع القادم بإذن الله.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...