شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
اليأس هو أملنا الوحيد

اليأس هو أملنا الوحيد

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والتنوّع

الخميس 12 أكتوبر 202311:47 ص

(مقاطع من رسالة إلى صديق أفقدته الأيام ثباته الانفعالي، أقدم فيها على أربع محاولات لإنصاف اليأس، وكلي أمل في أن أنجح في ذلك).

المحاولة الأولى

صدقني، إذا كان هناك بيننا من سيعبر هذه الفترة العصيبة التي لم تعد تمرّ بغيرها البلاد، وهو محتفظ بأكبر قدر ممكن من صحته وضميره وعقله وإنسانيته، فسيكون حتماً من أولئك الذين يعتبرون أن اليأس ليس خيانة ولا ترفاً ولا رفاهية ولا انهزاماً ولا عيباً، لأن اليأس في الواقع ربما كان أملك الوحيد.

في فترات الانحطاط والتدهور والاضطراب الشامل يعاني كثيراً ‑وبأقصى درجة يمكن تخيلها‑ أولئك الذين يظنون أن إصرارهم على إنكار الواقع هو طريقهم الأكيد نحو الخلاص، أولئك الذين يغفلون أهمية الثبات الانفعالي وضرورة السيطرة على الأعصاب والحفاظ على ذلك الخيط الرفيع بين العقل و"الفَلْقَسَة"، ولعلي لا أجد تشبيهاً أكثر ابتذالاً ‑ودقّة‑ لحالة هؤلاء من تشبيههم بذلك المسكين عاثر الحظ الذي وجد نفسه تائهاً وسط صحراء مقفرة حارقة، فأخذ يجري فيها دون هدى بأسرع ما أمكنه، وهو يرى في كل خيال عابر خلاصاً مؤكداً قادماً إليه، ويحسب كل سراب بقيعةٍ ماء سيروي ظمأه، دون أن يضع في اعتباره أن تلك الصحراء ربما كانت هي الصحراء الكبرى، وأنه لا يزال في أولها من اتجاه الوادي الجديد، وأنه دون أن يعلم يجري في طريق النيجر.

في فترات الانحطاط والتدهور والاضطراب الشامل، يعاني كثيراً أولئك الذين يظنون أن إصرارهم على إنكار الواقع هو طريقهم الأكيد نحو الخلاص، أولئك الذين يغفلون أهمية الثبات الانفعالي وضرورة السيطرة على الأعصاب والحفاظ على ذلك الخيط الرفيع بين العقل و"الفَلْقَسَة"

سيؤسفني جدّاً أن تكون من أولئك الذين لا يجيدون التفريق بين العدمية الإيجابية والعدمية السلبية، فتتخيل ‑ولنستخدم نفس تشبيهنا المبتذل والدقيق‑ أنني أدعوك إذا تهت في الصحراء لأن تدفن نفسك "بالحيا"، وتنتظر عاجزاً وقوع الموت دون أن تبذل أدنى مقاومة له، مع أن ما أدعوك إليه هو العكس، وهو ألّا تستسلم للموت أبداً، ولا تتوقف عن محاولة التفكير في سكة السلامة، ولا تكلّ أو تملّ من البحث عمّا يعينك على مواصلة الحياة، ولا تكف عن التيقظ لكل صوت تسمعه، لعله يكون طائرة عابرة أو قافلة مارّة.

لكنك يجب أن تفعل ذلك كله، فقط لأنك لا تملك شيئاً آخر لتفعله، وليس لأنه سينجيك بالضرورة، لأن ذلك التوجه وحده سيجعل تفكيرك أهدأ وانفعالاتك أكثر اتزاناً، وسيساعدك على توفير طاقتك أكبر وقت ممكن، وستعرف قيمة ذلك إذا نجوت، أما إذا حانت ساعة الهلاك، فأنت على الأقل لن تضيف إلى ألمه المرير ألم الإحساس بسذاجة التفاؤل ومرارة اكتشاف كذب الأمل.

المحاولة الثانية

وهي محاولة وجيهة مع أنك ستظنها محاولة يائسة لإنصاف اليأس، لأنني سأستشهد فيها بواحد من أبرز منظري العدمية الإيجابية، أبونا صلاح جاهين، الذي قال في واحدة من أعظم رباعياته:

"صبرك ويأسك بين إيديك وإنت حر

تيأس ما تيأس الحياة راح تمر

أنا دُقت من ده ومن ده عجبي لقيت

الصبر مر وبرضك اليأس مر

عجبي"

أعلم أنك بالتأكيد ستقلّل من أهمية الاستناد على صلاح جاهين في هذا الصدد، لأنه أصلاً مات مكتئباً ويائساً، ولو أنك تريثت قليلاً لأدركت أن صلاح جاهين، دون غيره، هو أكبر دليل على صحة ما أحاول إقناعك به، فما أعظم وأنبل وأجمل أن تخوض أكثر ظلمات الاكتئاب مرارة، ومع ذلك لا تكف عن الإنتاج والإبداع والعمل كل يوم، ولا أظن أنك كنت ستحب صلاح جاهين، رحمه الله، بنفس قدر حبك له، لو كان كل ما قام بإنتاجه هو تأكيده الذي ينزعه الناس من سياقه الدرامي على أن "الدنيا ربيع والجو بديع قفل لي على كل المواضيع"، وهو تأكيد ستدرك أنه كان مجرد "اشتغالة درامية" ساعدت فتنة جسد سعاد حسني وعبقرية موسيقى كمال الطويل على جعلها تعيش طويلاً، لكنك ستدرك كم كانت اشتغالة درامية مضحكة عندما تتذكر أن من كتبها هو ذاته الذي قال:

"حزين يا قمقم تحت بحر الضياع

حزين أنا زيك وإيه مستطاع

الحزن ما بقالهوش جلال يا جدع

الحزن زي البرد زي الصداع"

وهو أيضاً الذي كتب:

"مهبوش بخربوش الألم والضياع

قلبي ومنزوع من الضياع انتزاع

يا مرايتي ياللي بترسمي ضحكتي

يا هلترى ده وش ولا قناع"

ومع ذلك فهذا الرجل نفسه قرّر أن يتغلب على صداع الحزن ويتجاهل "خربوش الألم والضياع"، وجلس ليكتب كلاماً يدعو للحب والتفاؤل والبهجة، تنهيه سعاد حسني بقولها: "تشك تشك تشك".

المحاولة الثالثة

في العادة، يعشق الذين يكرهون سيرة اليأس أن يتم الاستشهاد بعبارة الزعيم الوطني –بجد‑ مصطفى كامل الشهيرة: "لا حياة مع اليأس ولا يأس مع الحياة"، وهي عبارة يسهل الردّ عليها بالإشارة إلى أن القدر لم يمهل مصطفى كامل طويلاً ليختبر خطأ عبارته، فقد وافته المنية وهو في الحادية والثلاثين من عمره، وربما لو كان قد عاش طويلاً، لعرف أنه من الممكن أن تكون يائساً من تحقيق أحلامك، دون أن يدفعك ذلك لخيانتها أو العمل ضدها، كما فعل كثير من عظماء مصر من مختلف الأجيال.

يحب الذين لا يقدرون قيمة اليأس أن يتذكروا لمصطفى كامل مقولته في استحالة الحياة مع اليأس، ، فيجعل عباراته الشهيرة مثاراً للسخرية والتندر، لدرجة أنه لم يعد يحظى في البلاد التي أحبها بنفس شهرة وذيوع مطرب يحمل نفس اسمه، وهي عبارة "عم قول يا رب"

يحب الذين لا يقدرون قيمة اليأس أن يتذكروا لمصطفى كامل مقولته في استحالة الحياة مع اليأس، بالطبع مع مقولته الشهيرة الأخرى، بضمّ الألف: "لو لم أكن مصرياً لوددت أن أكون مصرياً"، لكنهم لا يشيرون ‑عمداً أو جهلاً‑ إلى أنه أيضاً قائل عبارة: "هذه الأمة بلاني الله بأن أكون واحداً من أبنائها"، وهي مقولة جاءت ضمن سطور رسالة بعث بها إلى صديقه الحميم فؤاد سليم، في فترة عصيبة من حياته السياسية، حين زادت الدسائس ضده ووجد نفسه منفياً خارج مصر وقد تقطعت به السبل دون مال ولا معين.

سأدع مصطفى كامل نفسه يعبر لك عن يأسه المرير ذلك، حين تقرأ سطور خطابه الذي بعث به إلى صديقه بتاريخ 16 أكتوبر 1895 قائلاً:

"لقد قرّرت ألا أعود إلى مصر إلا إذا يئست من معاونة الوطنيين، وإني حالياً يائس من واحد وهو الخديوي، ولكن أليس في استطاعة والدك والهلباوي ومحمد سالم أن يرسلوا لي سنوياً 400 جنيه ما داموا يعتبرون أنفسهم وطنيين ويقدرون جهودي الوطنية، وإذا كانوا غير قادرين على مساندتي، فإني سأعود إلى مصر يائساً، فاقد الأمل، ليس من أجل الجلاء فحسب، بل من أجل مستقبل الأمة المصرية، وتأكد يا صديقي العزيز أنني لن أمكث في مصر بعد عودتي دون أن أرى النصر أكيداً: سوف أنتحر ولا أعيش في وسط أمة جامدة، بالإضافة إلى أني لا أعرف اليأس إلا بالموت معاً.

بلغ والدك سلامي باسم الوطن المقدس وليس باسم الصداقة، التمس منه وحده أن يرسل لي مبلغ 150 جنيه هذا الشهر لهذه السنة كلها ولن أطلب منه شيئاً بعد ذلك".

وعندما لم يتلق مصطفى كامل من صديقه أي جواب كتب له في 21 أكتوبر:

"استلمت بالأمس كتابك وأؤخر الجواب عليه لوقت آخر، وأسألك الآن أن تجيبني على رسائلي لأعلم إن كنتم نساء أم رجالاً والسلام".

وفي 6 نوفمبر 1895، يكتب مصطفى كامل إلى صديقه قائلاً:

"إني أشكرك على إمدادك لي بالأحداث التي جعلتني أرى بوضوح أن من بينكم لا يوجد أشخاص لا يمكن لوطني مثلي أن يعتمد عليهم، أنت تقول إنه لا يوجد في مصر شعب جريء، قادر على مساندتي، ولكن أيها البائس والدك وأصدقاء والدك هؤلاء وطنيون هم جزء من هذا الشعب، أكفاك هزلاً إني أرى أنكم وطنيون عندما يكون الخديوي وطنياً، ولستم وطنيين عندما يكون العكس؟".

لكن لا تنسَ بعد ذلك كله أن مصطفى كامل نفسه قال في نفس الرسالة: "من أشق الأعمال أن يجاهد المرء ضد الزمن والحوادث والناس، سأبقى حتى الممات حاملاً لواء الاستقلال إذ أجد حياتي في تلك العقدة، وبغير هذه الشعلة الوطنية لا أستطيع الحياة"، وقد ظل حتى آخر يوم في حياته صادقاً وموفياً بوعده، ليثبت على عكس ما شاع عنه أنه من الممكن أن تجتمع الحياة مع اليأس.

من أجل إنجاح هذه المحاولة سنتجاهل معاً ذلك الخاطر الذي يلح عليك سائلاً عما كان سيشعر به الزعيم مصطفى كامل لو اطلع على علم الغيب ورأى أن مصر سيحكمها حوالي 40 عاماً حزب يحمل اسم حزبه، فيجعل عباراته الشهيرة مثاراً للسخرية والتندر، لدرجة أنه لم يعد يحظى في البلاد التي أحبها بنفس شهرة وذيوع مطرب يحمل نفس اسمه، جاءت شهرته من غناء عبارة أكثر إقناعاً وتشابهاً مع عبثية حياة المصريين من "لا حياة مع اليأس"، وهي عبارة "عم قول يا رب".

المحاولة الرابعة

وهذه الطلعة سيقوم بها نيابة عني الأديب اليوناني العظيم نيكوس كازنتزاكيتس، ولن أستشهد فيها بأحد أعماله الروائية العظيمة التي لم يحصل بفضلها على جائزة نوبل للآداب ‑خسرها بفارق صوت واحد لألبير كامو، وهو ما يجعل لكلامه عن اليأس وجاهة إضافية‑ لكنه حصل على الخلود في وجدان الملايين من قرائه حول العالم، بل سأستشهد بمقطع من مسرحيته الوحيدة "عطيل يعود"، والتي يقول فيها كلاماً شديد الأهمية في صلب موضوعنا، سأتركك تتأمله دون أدنى تدخّل مني:

بالتأكيد ستقلّل من أهمية الاستناد على صلاح جاهين في هذا الصدد، لأنه أصلاً مات مكتئباً ويائساً، ولو أنك تريثت قليلاً لأدركت أن صلاح جاهين، هو أكبر دليل على صحة ما أحاول إقناعك به، فما أعظم وأنبل وأجمل أن تخوض أكثر ظلمات الاكتئاب مرارة، ومع ذلك لا تكف عن الإنتاج والإبداع والعمل كل يوم

"ليس ثمة أمل قد بقي غير اليأس، لا حُرمنا منه، ولن ينتزعه مني أحد، لا الحليف ولا حتى العدو، لن ينتزعه مني سوى الموت فهو القادر على ذلك. عار عليك، أتبكي يا صديقي، وهذه اللحظة أغلى ما وهبه الله للإنسان؟ كان بالإمكان أن نبكي يا صديقي عندما كان الأمل يراودنا، ولم يكن في ذلك عار، أما الآن وقد بلغنا منتهى اليأس ماذا بقي لنا؟ شيء واحد: عزة النفس. وهذه في اعتقادي تأبى علينا أن نبكي.

ليس للحياة من معنى، ولا من مبرر لها، حالاً أو مستقبلاً... إنها ظاهرة زائفة مكتوب عليها أن تندثر، دون أن تخلف وراءها شيئاً، ومع ذلك فقد مُنحت لنا، فهل نلقي بها عنا، ونرفض عذابها، أو نخطف بين الفينة شيئاً من المتعة، ولكن دون أمل أو رجاء... إن هذا الرفض لن يكون سوى جبن وفرار من أرض المعركة، إن ما أعطي لنا وإن لم تسع إرادتنا لنواله، وإن لم تكن لنا القدرة على الاختيار أو الرفض، قد أُعطي لنا وإننا لملزمون بأن نجعله ذا قيمة بارتضائه ومواصلته، وبأن يقدم كل منا أفضل ما عنده.

علينا أن نسلك طريق الكمال وتهذيب النفس، ولو كان هذا الطريق شأن كل الطرق لا يوصل إلى شيء. إنه إذن الكفاح من أجل الكفاح ذاته، وهكذا يتحقق في النهاية اشتراك بين أولئك الذين يعرفون السر وأولئك الذين لا يعرفون، فهم جميعاً يواصلون المسير، كل ما هنالك أن أولئك الذين يعرفون يواصلون ببطولة... لا تسأل: أين أذهب؟ امضِ في الصعود والنزول، ما من بداية أو نهاية.

إنما الوجود هذه اللحظة الحاضرة المليئة بالمرارة والحلاوة أيضاً، وإني أستمتع بها إلى آخر قطرة فيها... إني أطرد من بالي أكبر المغريات ألا وهو الأمل، وأحرم نفسي من متعته، إننا نقاوم لأن المقاومة هي كرامتنا، إننا نغني ولو لم تكن ثمة أذن تسمعنا، لا تسأل: أين نذهب، هل سيقدر لنا النصر يوماً؟ ما الهدف من كل هذه المعركة؟ لا تسأل، قاوم فقط واعلم أن معنى الله هو المقاومة".

ولا أظن أن هناك كلاماً يقال بعد هذا لإنصاف اليأس وإقناعك بأنه صار الأمل الوحيد، أو دعني أصارحك أنني حاولت أن أقول كلاماً أجمل وأهم، لكني يئست.

*****

ـ فصل من كتابي "فيتامينات للذاكرة" الذي صدرت منه مؤخراً طبعة إلكترونية متاحة على كيندل وتطبيق أبجد.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

تنوّع منطقتنا مُدهش

لا ريب في أنّ التعددية الدينية والإثنية والجغرافية في منطقتنا العربية، والغرائب التي تكتنفها، قد أضفت عليها رومانسيةً مغريةً، مع ما يصاحبها من موجات "الاستشراق" والافتتان الغربي.

للأسف، قد سلبنا التطرف الديني والشقاق الأهلي رويداً رويداً، هذه الميزة، وأمسى تعدّدنا نقمةً. لكنّنا في رصيف22، نأمل أن نكون منبراً لكلّ المختلفين/ ات والخارجين/ ات عن القواعد السائدة.

Website by WhiteBeard
Popup Image