خناقتنا الأولى كانت عن المجاز، وهيّ دي خناقة تتنسي؟
كنا في ليلة شتاء نيويوركي، يعلو صخبنا في كافيه وسط مانهاتن الذي تعودنا على اللقاء فيه، حين كنت لا أزال حديث الإقامة في نيويورك. كانت صداقتنا في بداياتها، لم تكن تناديني "يا معدن" وأناديك "يا أسطورة"، ولم نكن قد تعلّمنا أن الأمور، بشكل عام، لا تستحق أن نأخذها على صدورنا أكثر من اللازم، لأن "حسم الجدل" حولها لن يتحقق في حياتنا.
أعترف أن ما قلته لك كان خاطئاً وقتها، وكان لديك حق في رفضك القاطع له، لكنك يا أخي لم تترك لي مخرجاً للتراجع، و"زوّدتها شويتين" بعد أن قلت لك إن غضبك مبالغ فيه لأن ما قلتُه كان مجرّد مجاز، فردّيت بغضب وقلت: "يا أخي، كسم المجاز"، وانفعالك أضحكني وجعلني أهدأ قليلاً، لأقول لك إنني لا أستطيع أن أتبنى موقفك "لأن أكل عيشي معتمد على المجاز".
لم يستمر تردّدنا بعدها على الكافيه الذي أصبحنا نسميه "كافيه المجاز"، لأن نظرات زبائنه الغاضبة من أصواتنا العالية أصبحت مزعجة، خصوصاً بعد أن وقعت أكثر من حادثة إرهابية لبّشت الجو العام، ولذلك اخترنا عبور النهر الشرقي إلى المقهى اليوناني في حي كوينز الذي احتضن سهراتنا لسنوات طويلة. حين رشّحته لكم شبّهته بمقاهي الإسكندرية القديمة والمنقرضة، ليس فقط لأنه كان يتيح لنا الجلوس عليه حتى مطلع الفجر، نلعب الدمنة ونأكل ونتناقش ونتخانق، ونؤجل الخناق أحياناً لكي نستقبل ضيوف "عصير الكتب" الذي كنت أصوره في الاستديو المجاور للمقهى، ونتسلى من حين لآخر بإيجاد أوجه الشبه بين بعض رواد المقهى اليونانيين وممثلين أو كتّاب من أبناء جلدتنا، ونحرص على تصوير بعضهم، لأن أحداً لن يصدقنا لو قلنا له إننا كنا نجلس إلى جوار مظهر أبو النجا أو أنور عبد الملك، أو الشخصية التي لعبها نور الشريف في فيلم "الظالم والمظلوم".
أعترف أن ما قلته لك كان خاطئاً وقتها، وكان لديك حق في رفضك القاطع له، لكنك يا أخي لم تترك لي مخرجاً للتراجع، و"زوّدتها شويتين" بعد أن قلت لك إن غضبك مبالغ فيه، لأن ما قلتُه كان مجرّد مجاز، فردّيت بغضب وقلت: "يا أخي، كسم المجاز"
يؤسفني أن أبلغك أنهم أغلقوا مقهانا الحبيب قبل شهرين، بعد أن فشل في مقاومة طوفان الـ Gentrification الذي داهم المنطقة المتداريّة التي عاش المقهى فيها وعشنا فيه أجمل سنوات الغربة. تعرف أنني لا أحب أن أستخدم كلمة "المنفى"، لأن سيرتها "تجيب الفقر"، أو لأنني أفضل أن أقاوح، فأصور لنفسي أن سفري كان اختيارياً، وكان يمكن لي، بدلاً من لقائك في نيويورك، أن أواصل لقاءك في قهوة الكراسي البيضاء التي التقينا عليها أول مرة، رأيتني ليلتها وأنا مشتبك في معركة دمنة حامية الوطيس، والبذاءات انتهت طبعاً بانتصاري الأكيد والمنطقي، ولم أقل لك يومها إنني كنت على مشارف سفر أدرك أنه سيطول، وأخشى من تحمّل آثاره، لأنني أؤمن مثل المتنبي، أن "شر البلاد بلادٌ لا صديق بها"، لكن الله أكرمني بك وبأصدقاء أجمل وأجدع من الذين ضيّعوني قبل أن أسافر، لأن مواقفي جعلت صداقتي عبئاً عليهم وخطراً على مصالحهم.
خبر حزين آخر، تذكر طبعاً السينما الصغيرة التي تقع خلف "لينكولن سنتر"، والتي كنا نحب التردّد على قاعاتها، تلك التي حضرنا فيها أول عرض لفيلم "بيرد مان"، وفور أن رأينا وجه مايكل كيتون على الشاشة ،وقفتَ هاتفاً: "وحشتنا يا فنان"، وحين حضرنا بعدها فيلماً تافهاً يحاول تمجيد بطولات الجيش الأمريكي في العراق، وقفت في طلعة من طلعاتك المبهجة، وهتفت قائلاً: "لن ننسى هيروشيما".
مع الأسف، أغلقوا السينما بعد أيام كوفيد اللعينة، لأن الجمهور لم يعد إليها، فلم تعد تكلفة تشغيلها مجدية، لتلحق بأكثر من سينما صغيرة فشلت في مقاومة زحف السينمات فخمة الكراسي، غالية التذكرة، عالية التكييف.
بجملة النكد، خذ عندك كمان: مطعم الستات البوسنيات الثلاث، القريب من المقهى اليوناني، قفل. ظننت أنهم سيعيدون افتتاحه بعد تلاشي كوفيد، لكنهم باعوه وافتتحوا مكانه مطعماً تعيساً للفراخ المقلية بزيت المواتير، لنحرم من بهجة أكله البيتي وسعره المهاوِد، حتى المطعم المصري الذي فرحنا به لأننا وجدنا لديه، بعد طول انتظار، كشري وحواوشي وطعمية وممبار، بحق وحقيق، تغيرت إدارته مؤخراً، فرفدت الطباخ الشاطر، واستبدلته بآخر كتيان، أكله يقرف الكلب الحزين.
لكن نيويورك لا زالت، برغم كل هذه الخسائر، مليئة بالمفاجآت المبهجة التي لا تخلو منها زخانيقها التي تحتاج إلى عمر كامل لاكتشافها، وحين تأتي في زيارتك التالية التي طال انتظارها، سنكون قد وجدنا ملاذاً جديداً للعب الدمنة، نستطيع فيه أن نسب لبعض ساعة اللزوم، وتستطيع فيه أن تمارس جنونك بعد لحظات الفوز النادرة، فتقوم بعمل طيارة أبو تريكة بين الترابيزات، أو تصعد على الكرسي غاضباً لأنني أكلت ورقة النتيجة التي توثق فوزك ،الذي جاء بصدفة لن تتكرّر، وأنت تهتف: "أحيه أحوه قال إيه عايزين ياخدوه".
في زيارتك التالية التي طال انتظارها، سنكون قد وجدنا ملاذاً جديداً للعب الدمنة، نستطيع فيه أن نسب لبعض ساعة اللزوم، أو تصعد على الكرسي غاضباً لأنني أكلت ورقة النتيجة التي توثق فوزك ،الذي جاء بصدفة لن تتكرّر، وأنت تهتف: "أحيه أحوه، قال إيه عايزين ياخدوه"
قبل أسابيع التقيت صديقاً لك، استغرب أننا نعرف بعض منذ سنوات، وحين سأل عن ظروف تعارفنا، قال له صديقنا الشرير متخابثاً، إننا تعرفنا في مساكن النهضة، مشيراً إلى خناقتنا الثانية التي حضرتها الباحثة الأمريكية الشابة، والتي كانت تسألنا عن مشاكل ثورة يناير، وأظن أن خناقتنا حامية الوطيس ساعدتها في العثور على الإجابة.
ما بقي من هذه الخناقة كان أهم منها بكثير، بالطبع لا زلت أعتقد أن التضامن مع اعتصام الذين وضعوا يدهم على مساكن النهضة لم يكن مهماً، ليس لأنني ضد الفعل في حد ذاته، بل لأنني لم أكن قد سمعت وقتها عن الاعتصام ولا عن مساكن النهضة، لكنني أتفهم الآن مقصدك الذي غيّبته حموة النقاش، وما أنا مشغول به الآن أكثر هو الفكرة التي قلتها لك بعدها، وهي أن علينا أن نتوقف عن إطلاق أحكام عامة تخصّ الثورة، ليتحدث كل منا فقط عن "مكانه في الثورة" وما عاشه فيه، وهو ما حاولت أن أقوم به طيلة السنوات الماضية، لكنني في كل مرّة كنت أجد نفسي أضعف من مواجهة "الفاتوحة" التي سأفتحها على نفسي، حين أعاود زيارة تلك الأيام بعقل هادئ وروح نقدية، بعيداً عن "الشحتفة" والانغماس العاطفي المؤذي والمزغلل للبصائر.
ربما كان ما أحتاجه من أجل إنجاز هذا المشروع، أن أتعامل معه ببساطة، فأتخلّى عن فكرة الاحتشاد والتفرّغ الكامل لإنجازه، لأنه لن يستطيع أحد، مهما استعفى نفسه، أن يكتب تاريخاً شاملاً للثورة، أو حتى لمكانه من الثورة، أقصى ما يمكن فعله –وأقساه‑ أن أترك ما سجّلته وكتبته وشهدت عليه، متخلياً عن فكرة صياغته في إطار رؤية شاملة تستخلص العبر والدروس المستفادة وتفهم ما جرى، يكفي أن أتعامل مع ما رأيته وشهدت عليه بوصفه مادة خاماً، على كل منا أن يتيحها.
لا، اطمئن، لن أقول للأجيال القادمة التي نفترض طيلة الوقت إنها ستكون مهتمة بتجاربنا، مع أننا ندرك ضآلة عدد من اهتموا من بيننا بالتعرّف على تجارب الأجيال السابقة، فضلاً عن دراستها والتعلم منها.
أعلم أن هذا الكلام سيزعجك كرجل "أكل عيشه معتمد على التاريخ"، أحب جداً حين لا تتحدّث عن نفسك بوصفك مشروع مؤرّخ أو أستاذ جامعي في التاريخ، بل تصف نفسك بأنك مجرّد "مدرس تاريخ"، لأنه لم يؤثر في تكويني ووجداني أحد مثلما فعل مدرس تاريخ في الإعدادية، كانت الكتب التي دلّني على قراءتها سبباً في قلب حياتي وطريقة تفكيري رأساً على عقب، ولذلك حين أنهي مشروع "مكاني من الثورة"، ستكون أنت، ومدرّسي القديم، على رأس من سأهدي عملي إليهم، دون أن أشترط عليك الاعتذار عن "تلبيخك" القديم في المجاز.
في الفترة الأخيرة قمت بعمل حلقات أقلّب فيها بشكل عشوائي في أرشيفي الذي يضم خليطاً متنافراً من الأوراق التي جمعتها خلال الثلاثين عاماً التي مضت، على أمل أن تلهمني شيئاً، أو تذكّرني بشيء، أو تساعدني على نسيان أشياء، وخلال جولة تقليب في الأرشيف، وجدت قصاصات كنت أكتب فيها رؤوس أقلام، تضمّ كتباً يجب أن أقرأها أو أفلاماً أحب أن أشاهدها، أو أفكاراً تستحق التوقف عندها وتأملها.
لا أدري متى سنلتقي، لكنني متأكد أننا، إن أراد ربنا وحصل، سنضرب يومها أكلة حلوة في صحة المجاز والدمنة، ثم ندخل أقرب سينما، وفور أن يبدأ الفيلم العبيط، سننهض ونهتف: "لن ننسى هيروشيما"
أغلب هذه القصاصات كانت أوراقاً منتزعة من كتب كنت أحملها معي، فأكتب على صفحاتها الفارغة لكي أقوم بتفريغها فيما بعد، ثم أتكاسل وأكتفي بانتزاع الصفحات وتجميعها، ذكرتني هذه القصاصات بالدفاتر الصغيرة التي تحملها معك طول الوقت، والتي كنت تقوم بإخراجها من حقيبتك كلما تحدّثنا، لتسجّل ترشيحات كتب وأفلام وملاحظات كنت تقول إنها ستكون مهمة لحوار طويل يجب أن نقوم به يوماً ما.
غادرتَ نيويورك ولم نقم بالحوار، ولم تعد ظروف الحياة الضاغطة تسمح بما هو أكثر من أن نطمئن على بعض، ونتبادل الميمز والفيديوهات العبثية والنمائم وأخبار الوفيات والمستشفيات وتوصية العزاب مثلك باللحاق بقطار الزواج والخلفة. لا أخفيك أنه يقلقني اختفاؤك الذي يطول عن جروب شاتنا الذي يلم شتاتنا، والذي نحاول أن يكون بديلاً عن القهوة التي أصبحنا نفضّل قعدة البيوت عليها، وما أسمعه عن أخبارك يزيد قلقي أحياناً ويطمئنني عليك أحياناً، لكنني أوقن أنك ستظل تحاول وتعافر مهما كانت الظروف، وأنك ستبقى مخلصاً لرغبتك العارمة في المعرفة والسؤال، وحرصك على تحدي الفكرة السائدة، وأنك لن تفقد أبداً أجمل ما فيك.
لا لن أتحدث عن قلبك الطيب وخفة ظلك وجنّوناتك التي أستحمل لأجلها عدم احترامك للمواعيد، بل سأتحدث عن إيمانك بضرورة أن يكون الإنسان جزءاً من معنى أكبر يتجاوز الحلول الفردية التي يراها الكثيرون سبيل الخلاص الوحيد.
لا أدري متى سنلتقي، لكنني متأكد أننا، إن أراد ربنا وحصل، سنضرب يومها أكلة حلوة في صحة المجاز والدمنة، ثم ندخل أقرب سينما، وفور أن يبدأ الفيلم العبيط، سننهض ونهتف: "لن ننسى هيروشيما"، ومن يدري ربما جمعتنا الصدفة في شارع نيويوركي بجاك نيكلسون، لنهتف قائلين له: "وحشتنا يا إنسان".
(إلى سعيد الأسطورة)
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...