شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
الحماقة بوصفها حرفة

الحماقة بوصفها حرفة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي نحن والتنوّع

الأحد 8 أكتوبر 202311:11 ص

"هذه هدية من عالم صغير بعيد، شهادة على أصواتنا وصورنا وموسيقانا وأفكارنا ومشاعرنا. نحن نحاول البقاء على قيد الحياة في عصرنا، حتى نتمكن من العيش في عصركم. نأمل، بعد حل المشكلات التي تواجهنا، أن ننضم إلى مجتمع من الحضارات الكونية".

جزء من رسالة الرئيس الأميركي الحاصل على جائزة نوبل للسلام، جيمي كارتر، في عام 1977، إلى الكائنات الفضائية وضعت مع مسبار فوييجر.

حتى هذا اليوم، ما يزال الهراء من اختصاص المهرجين والكوميديين والسينمائيين ونضيف السياسيين كتحصيل حاصل لمادة الهراء اليومي التي تتضمن الحروب والخطب النارية والتفاخر القومي والوطني. هو مادة يومية، تقع في محيط "العائلة" والوطن واليوميات، وربما نجد بعضاً من الهراء الفلسفي بالتأكيد في العديد من الكتب الجادة، لكن الهراء موضوع جدي للغاية، للدرجة التي تجبرنا على استبعاد الحمقى من استخدامه طوال الوقت، وأعني أولئك الذين يعرفون كيف يصنعون هراء منمقاً، على هيئة خطب وطنية أو قصائد شعرية أو حتى أغاني عميقة.

أصبح الهراء أسلوباً، وهذا ليس تشاؤماً، أو حتى شكوى، إنه واقع حال. الهراء كنظرة نحو العالم، يقتنصها البشر فجأة في معرض سعيهم لإثبات عكسها، أي عندما يلوكون الكلمات في جمل طويلة متصلة، وهم يظنون أنهم يبدون عميقين وجادين، بل ويسعون، كل من "مجال" الحماقة التي يخوض فيها، لتغيير العالم واتهامه، وليس في هذا أي مفاجأة، بالحمق.

الهراء موضوع جدي للغاية، للدرجة التي تجبرنا على استبعاد الحمقى من استخدامه طوال الوقت، وأعني أولئك الذين يعرفون كيف يصنعون هراء منمقاً، على هيئة خطب وطنية أو قصائد شعرية أو حتى أغاني عميقة

نحن نقدم عرضاً متواصلاً للهراء الإنساني، في اللغويات، علم الاجتماع، علم النفس والفلسفة، الأدب، السينما، الرسم، سواء أكان الأمر يتعلّق بالهراء الفلسفي أو الجوهري، أو بالهراء الهرائي الذي يتعلق بنظرة الإنسان إلى نفسه ككائن أسمى، أو كيفية مواجهة الهراء الذي يتخذ طابع الوطنية والإيمان الأعمى.

الهراء الوطني

"كان ذلك في 11 نوفمبر 1918، في مكان ما على الجبهة الشرقية، قبل الساعة الحادية عشرة بقليل. جمع النقيب رجاله، وبصوت متهدج قال لهم: أولادي، لقد انتهى الأمر. يجب أن نمنع هؤلاء الأوغاد من عبور تلك الأمتار الثلاثين ولو كلفنا الأمر حياتنا. تحيا فرنسا، تحيا الإنسانية. وفي نفس الوقت، أطلق العديد من الأوغاد الألمان النار، فقتل النقيب ورجاله العشرون على الفور".

الهراء لا يقتصر على سقط الكلام أو الاهتمام بالمواقف اليومية البسيطة التي لا تتطلب معرفة أو ذهناً متوقداً، بل يقع العبء الأكبر في "تهريئ" الهراء على قوانا وعواطفنا التي نسميها إنسانية في تدعيمه وتكبير حجمه للدرجة التي يصبح فيها هراء مطلوباً، ومدافَعاً عنه. الهراء في وقت الحرب يصبح شعاراً، يصبح إحساساً عاماً بدنوّ النهاية وبوجوب دفع هذه النهاية ما أمكن.

كل الكلام الوطني في أوقات الأزمات الاقتصادية والحروب مصنوع من مادة الهراء نفسه، الحديث عن "أحقيتنا" بتصفية أجساد الآخرين لأنهم، على نحو ما، لا يتفقون معنا في رؤيتنا للعالم أو الأديان أو "الحقيقة"، أو لأننا نظن أننا أكثر "حقاً" منهم بامتلاك هذه الأرض وفضائها دون اعتبار لأي تضامن إنساني يجعلنا وأياهم في مكان واحد من التاريخ والعالم، يعيدنا، مرة أخرى، إلى الاعتقاد بتفوقنا، وهذا ما يحمله "الهراء" من نرجسية الحمقى.

أن نأكل محاصيل جيراننا لأننا، ببساطة، جوعى، يشبه أن نقول إننا أفضل منهم، وأن أجسادنا تستحق أن تعيش أكثر من أجسادهم، أن نخلص إلى نهايات تبررها الحروب الاقتصادية والغزوات، لا يعني سوى أننا حمقى أفضل من الحمقى الذين يعيشون بجوارنا، في بلدان قريبة أو بعيدة.

مساحة نشاط الحماقة

يتفعل الهراء ضمن مساحة المشاعر، الرضا والصبر والخوف، الحب والإخلاص والإيمان، بل ربما تقع فاعليته المثلى في قطاع كبير من المشاعر المتمرّن على تأديتها بقناعة كما نقول، وهي مساحة الإيمان الديني. يقول مارميون إن هناك بعداً نرجسياً للخداع، يتعلّق بظنّ المخادع أن كل شيء يدور حوله، حول خدعته، لا يلقي بالاً للمحيطين به أو لتأثير خدعته عليهم، نلمحهم في كل مكان، النرجسيين المخادعين، في الطوابير ومحطات المترو، يتجاوزون الجميع وكأن لهم الحق في ذلك، وأكثر ما تتبدى تلك النرجسية في أساليب الخداع الديني، تلك التي تكفّ عن كونها رغبة بالهداية إلى "صواب" ما أو "حقيقة" ما، لكن لإعلاء شأن الذات، المتفوقة، الخبيرة، التي تعرف أكثر بكثير ما خلف الحكايات العامة المشهورة، والتي تختصر ما يحدث في العالم يومياً بجملة أو اثنتين مأخوذتين من كتاب ديني، تقول إن العالم في هزيعه الأخير أو أن الأخلاق بدأت تنفقد، في سوق العالم ذاك.

أن نأكل محاصيل جيراننا لأننا، ببساطة، جوعى، يشبه أن نقول إننا أفضل منهم، وأن أجسادنا تستحق أن تعيش أكثر من أجسادهم، أن نخلص إلى نهايات تبررها الحروب الاقتصادية والغزوات، لا يعني سوى أننا حمقى أفضل من الحمقى الذين يعيشون بجوارنا، في بلدان قريبة أو بعيدة

إن اللغة، أو الكلمات، قبل أن تكون وسيلة تواصل ونقل، تشبه الفيروسات التي تستمر بالعيش داخل أجسادنا، أي أنها "تعمل" و"تحيا" بمعزل عن نوايانا الأصلية، كما يقول سلافوي جيجك، ويمكن وضعها ضمن مجالات ثلاثة: الخيالية، الرمزية والحقيقية، لكن كيف تلعب اللغة دورها بالنسبة للحماقة، أي في اللحظة التي "نتفوّه" بحماقة ما أمام ما نظنه أنه وعينا للمشكلة، أو الحدث، مثلاً، كيف نستطيع اتخاذ موقف من الحرب الأوكرانية الروسية، (كما فعل جيجك نفسه) واضح وصريح ومتفرّد ومغاير ويحمل اتهاماً مباشراً بالعته والجنون، أي جميع الصفات التي تحتاجها الحماقة لتبني تمثالها.

ومن الأكثر استعمالاً للحماقة بوصفها حرفة منجية من شرور "العالم السوي"، الأكثر ثقة بأن مقولاته وتصرّفاته قابلة للتفسير بصفتها "الجوهرية" وليس كما تبدو لنا "حماقة" غير مبتكرة؟

أليس السياسيون الذكور هم الأكثر اطمئناناً لمعرفتهم، والأقل معرفة حقيقة بذواتهم؟

الهراء يؤثر على كل العالم، إنه كالمطر، يبلل الجميع، وعندما تمطر السماء بالحماقات يسارع الذكور إلى الاستحمام بها بينما تتجنّب النساء ذلك، وهذا لا يعني أن النساء يعيشون خارج "الهراء" العالمي، لا. هم مادته، مثلما الدين مادة المتدينين.

يقول مارميون إن الحماقة تقع في صلب الرغبة بالهيمنة التي يشيعها الذكور كرائحة سامة، فرض طريقة تفكير معينة والتصرّف على أساس ذلك.

باختصار، هناك نوعان من الحمقى في الخارج، إذا استثنينا الفئات الفرعية الأكثر تبدلاً: الطاووسي الذي يحب أن "يضاجع" صورته عن نفسه، والمخادع القذر الذي يستمتع بتعذيب الآخرين لفرط ساديته. 

هناك نوعان من الحمقى في الخارج، إذا استثنينا الفئات الفرعية الأكثر تبدلاً: الطاووسي الذي يحب أن "يضاجع" صورته عن نفسه، والمخادع القذر الذي يستمتع بتعذيب الآخرين لفرط ساديته

الأحمق المزيف والأحمق الأصيل

نشرت واشنطن بوست في عام 2017 استطلاعاً تم إجراؤه على الإنترنت، أكّد فيه 7% من المشاركين أن الكاكاو يأتي من الأبقار بنية اللون. هذا الهراء الجماعي لا يبدو خطيراً بحد ذاته، إلا أنه جزء من "خفّة" عقلية تصيب الجميع، وهنا نستطيع التمييز بين أحمق أصيل وأحمق مزيف، الأحمق الأصيل لا ينشغل بتهيئة الحجج العقلية لحماقاته، ولا يربط "الحقائق" التي يعرفها ويحاجج في تواجدها إلا بمقدار ما تتكلم العجوز المتدينة عن إيمانها بالله، هي "تؤمن" به لكنها لا تستطيع، ولا ترغب، بأن تعطي إثباتات، لا تبالي بالدفاع عن وجوده، هنا أو هناك، في سمائه السابعة، وحتى إنها غير مشغولة بالأسئلة التي يثيرها "الأذكياء"، أما الأحمق المزيف، فلا يكتفي برمي "هراءه" في وجهك، بل يستتبعه بالعديد من الحماقات الأخرى التي "يظن" بأنها تدعم رؤيته للموضوع وتدافع عنه. الأحمق المزيف يحتفظ بجيبه بقصاصات ورقية وكتابات وأقول مأثورة تدعم هراءه وتظهره على هيئة "حقائق".

الأخبار الزائفة، نظريات المؤامرة، القصص الصغيرة التي نخرج منها إلى استنتاجات عظيمة، اللاشيء الذي ينقله الإنترنت كل صباح، يثبت أن الهراء يتحكم بمصير ملايين من الرجال والنساء كل يوم، وما يفعله الأذكياء هو أنهم يقاومونه بكل السبل، ينشؤون صفحات لدحض "فكرة" الحبل بلا دنس أو قصة الإسراء والمعراج، وهم بالحقيقة يعيدون إنتاج هراء من نوع مختلف، لكنه غير قابل للهضم بسهولة.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

فلنتشارك في إثراء مسيرة رصيف22

هل ترغب/ ين في:

  • الدخول إلى غرفة عمليّات محرّرينا ومحرراتنا، والاطلاع على ما يدور خلف الستارة؟
  • الاستمتاع بقراءاتٍ لا تشوبها الإعلانات؟
  • حضور ورشات وجلسات نقاش مقالات رصيف22؟
  • الانخراط في مجتمعٍ يشاركك ناسه قيمك ومبادئك؟

إذا أجبت بنعم، فماذا تنتظر/ ين؟

    Website by WhiteBeard