فخر الدين الرازي (1210-1150)، فيلسوف وعالم إيراني قرشي النسب من العصور الوسطى. وقد جعله إتقانه العلومَ المختلفة وفصاحته من أشهر الشخصيات في عصره، وعُرف بأسماء مثل "الإمام فخر الرازي"، و"الإمام الرازي"، و"فخر الدين".
كان ضليعاً في علوم الفقه والتفسير وعلم الكلام والفلسفة والطب والرياضيات، وكانت له مؤلفات في جميع هذه المجالات، ولا تزال مؤلفاته هذه، إلى يومنا هذا، محلَّ نقاش وبحث في جميع البلدان والثقافات الإسلامية.
وُلد فخر الدين الرازي، عام 543 أو 544 هجري (1149 أو 1150)، في مدينة الرَ ي الواقعة بالقرب من العاصمة الإيرانية الحالية طهران. نشأ في عصر الخوارزمشاه، وكان له نفوذ كبير في بلاط السلطان محمد خوارزمشاه، ما جعله يقضي حياته كلها في الترف والرفاهية، على عكس معظم العلماء في تاريخ إيران.
درس فخر الرازي بدايةً عند والده الشيخ ضياء الدين، الذي كان من مشاهير علماء عصره. ثم هاجر في شبابه إلى خُراسان (شمال شرق إيران)، ليتعلم فلسفة ابن سينا والفارابي. وبعد أن وصل إلى مبتغاه، ذهب إلى ديار ما وراء النهر، التي كانت تشمل أراضي كلٍّ من أوزبكستان والجزء الجنوبي الغربي من كازاخستان، والجزء الجنوبي من قيرغيزستان الراهنة.
كان الإمام فخر الرازي عالم دين سنّي، وعلى عداوة مع الشيعة بشكل عام، وعلى وجه الخصوص مع النزاريين أو الإسماعيليين، الذين كانت لهم سلطة في إيران وسوريا خلال حياته
ولأنه كان يتمتع بعقلٍ نقدي وتحليلي قوي، فكانت لديه قدرة هائلة على إثارة الشك في أعمال الفلاسفة الكبار، ولهذا السبب عُرف بـ"إمام المشككين"، إذ شكك فخر الرازي في معظم المبادئ الفلسفية، وانتقد فلاسفة اليونان أيضاً. كما انشغل المفكرون مثل الخواجة خواجة نصير الدين الطوسي، وقطب الدين الرازي، ومير داماد، وصدر الدين الشيرازي، في الرد على شكوكه في الفلسفة لفترة طويلة.
لديه مؤلفات وكتب عديدة، إذ يُعدّ كتاب "المباحث المشرقية" أشهر مؤلفاته، وهو كتاب في العلوم الإلهية والطبيعية وفيه انتقادات لاذعة للفلاسفة. بشكل عام هاجم الفخر الرازي في مؤلفاته آراء الفلاسفة الإسلاميين واليونانيين بقلم حاد، وفي الوقت نفسه جادل لصالح علم الكلام والفقه الإسلامي ودعم سياسات الخلافة.
عن هذا الموضوع يقول الباحث والكاتب الإيراني محمد آسياباني: "انتقادات فخر الرازي، مثل انتقادات محمد الغزالي، كانت انتقادات سليمةً، لكنه على عكس الغزالي لم يستخدم لغة التكفير والقدح قط. كان أسلوب فخر الرازي في النقد من خلال الاحتجاج والجدل. حيث كان ابن سينا يتقبل نقد فخر الرازي لبعض آرائه إلى حدّ كبير. وينبغي ألا ننسى أن فخر الرازي اعتبر المتصوف الإيراني ’حسين بن منصور الحلاج’، الذي أُدين وأُعدم بتهمة الكفر، من أولياء الله ولم يشتمه أو يسخر منه كغيره".
أبرز فترات حياة الفخر الرازي كانت في مدينة هرات، حيث شارك في محاضراته أكثر من ألفي عالم ومفكّر، وحتى عندما كان على سفر، رافقه أكثر من ثلاثمئة من الفقهاء والطلاب للاستفادة من معرفته، ومن المعروف عنه أنه كان حادّاً جداً في المناقشات.
الحشاشون وفخر الرازي
كان الإمام فخر الرازي عالم دين سنّي، وعلى عداوة مع الشيعة بشكل عام، وعلى وجه الخصوص مع النزاريين أو الإسماعيليين، الذين كانت لهم سلطة في إيران وسوريا خلال حياته، وكانوا في الوقت نفسه يقاتلون الخلفاء الإسلاميين والملوك السلاجقة. لكن الحادثة المعروفة بـ"البرهان القاطع"، غيّرت سلوكه تجاه النزاريين إلى الأبد.
قبل الخوض في تفاصيل قصة الحادثة، يجب التعريف بـ"النزاريين" أو "الحشاشين"، الذين اتُّهموا بتعاطي الحشيش من قبل أهل السُنّة في إيران آنذاك، برغم أنه لم تكن هناك أدلة تثبت هذا الادعاء. كلمة الحشاشين (Assassin) تُترجم بـ"القتلة" في اللغة الإنكليزية، نظراً إلى سلسة الاغتيالات التي طالت كبار السلاجقة على يد الحشاشين الذين كانوا أتباعاً لحسن الصبّاح.
والصبّاح، الذي نشأ في أسرة شيعية اثني عشرية، ترك في شبابه مذهب أسرته واعتنق المذهب الإسماعيلي، وبعد ذلك انضم إلى الفاطميين في أثناء رحلته إلى مصر، ومن ثم عاد إلى إيران في العشرين من عمره، ليكون إمام الفاطميين فيها ويعزز مبادئ المذهب الإسماعيلي وأفكاره التحررية. وفي عام 1090، اختار مدينة "ألَموت" الإيرانية مركزاً لنشاطه السياسي ليقود الإسماعيليين في إيران من هناك.
يرى بعض المؤرخين أن فخر الرازي قُتل مسموماً على يد أتباع طائفة كانت تُعرف بالكرامية، وذلك نظراً إلى احترامه من قبل السلطة في ذلك الوقت.
وفي ذلك الوقت، كان المستنصر بالله الفاطمي (1029-1094)، هو الخليفة، وثامن خلفاء الفاطميين. تزايدت الصراعات على الخلافة بعد وفاته في عام 1094 في القاهرة، حيث دعم نزار، الابن الأكبر للخليفة، حسنَ الصباح، لكنه -نزار- قُتل على يد أخيه الأصغر.
مع ذلك، روّج حسن الصباح للمذهب النزاري، وأصبح زعيمه في آسيا الوسطى وإيران والعراق والشام، وقطع علاقاته مع الخلفاء الفاطميين تماماً. فيما اتخذ النزاريون من أتباع الطائفة الإسماعيلية من نزار إماماً لهم، بعد الخلاف بينه وبين المستعلي بالله على خلافة أبيهما، ولهذا السبب أصبحوا يُعرفون بالنزاريين.
الشجاعة الفريدة من نوعها التي تمتع بها أتباع حسن الصباح، وكذلك طرائق الاتصال المعقدة بين قلاعهم البعيدة عن بعضها، وأسلوب اغتيالاتهم الشهيرة في جميع أنحاء الأراضي الإسلامية، أدت إلى تكوين أساطير غريبة عنهم.
الغربيون الذين تعرفوا على النزاريين في الحروب الصليبية، لم يستطيعوا تصديق شجاعتهم وتضحياتهم، وبدأوا بخلق الأساطير عنهم؛ إذ يروي الرحالة الشهير ماركو بولو في رحلته: "بأمر من زعيم الحشاشين، أعطوا المخدرات لمجموعة من الشباب حتى أُغمي عليهم، ثم نقلوهم إلى مكان جميل للغاية، وكان هذا المكان عبارةً عن حديقة تجري فيها أنهار من اللبن والعسل، وتتواجد فيها فتيات جميلات، حيث بقي هؤلاء الشباب لعدة أيام في هذه الجنة المزيفة، وبعد ذلك تم تخديرهم مرةً أخرى ونقلهم إلى قائد المجموعة. في هذا الوقت سألهم القائد: أين كنتم؟ فأجابوا جميعهم: ’في الجنة!’، فحضر هنا زعيم الحشاشين شيخ الجبل حسن الصبّاح، وقال لهم إنكم دخلتم الجنة بإرادتي، وإذا أردتم الذهاب إلى هناك مرةً أخرى، عليكم أن تفعلوا ما آمركم به. ولذلك كان الشباب على استعداد للتضحية بحياتهم من أجل زعيمهم، ومن أجل دخول الجنة مرةً أخرى".
البرهان القاطع
من أشهر الروايات المرتبطة بحياة الإمام فخر الدين الرازي وأفكاره ولقائه مع الإسماعيلية أو الحشاشين، رواية للمؤرخ والطبيب الإيراني رشيد الدين فضل الله الهمذاني (1318-1247)، ذكرها في كتابه الشهير "جامع التواريخ" في باب ’الإسماعيليون والفاطميون’.
لأنه كان يتمتع بعقل نقدي وتحليلي قوي، كانت لديه قدرة هائلة على إثارة الشك في أعمال الفلاسفة الكبار، ولهذا السبب عُرف بـ"إمام المشككين"، إذ شكك فخر الرازي في معظم المبادئ الفلسفية، كما انتقد فلاسفة اليونان
وبحسب الهمذاني، كان الإمام فخر الرازي كلما اعتلى المنبر في مدينة الري، سَبّ الشيعة الإسماعيلية وأطلق عليهم لقب "الجماعة الملحدة"، فوصل الخبر إلى قلعة ألموت، فأُرسل شخص من ألموت إلى الري ليقتل فخر الرازي، وحضر هذا الشخص في صفوف فخر الرازي لمدة سبعة أشهر، حتى يجد الفرصة المناسبة لقتله، وأخيراً سنحت له الفرصة وحاصر فخر الدين في الدّير، فأخرج "الحشاش" سكيناً وحاول قتله، فقفز الشيخ خوفاً وقال: يا رجل ماذا تريد؟ فأجابه الحشاش: والله لا أريد إلا أن أشقّ صدرك، حتى لا تستطيع بعد ذلك لعننا على المنبر. فقال فخر الدين وقد تعددت أنفاسه بالخوف: والله لقد تُبتُ ولن ألعن أحداً منكم بعد ذلك، فعفا الحشاش عنه.
وبعد ذلك لم يعد فخر الدين يشتم الإسماعيليين كلما اعتلى المنبر، ولم يعد يُسمّيهم بالجماعة الملحدة. وفي أحد الأيام التي صعد فيها المنبر، سأله رجل: مولانا، ماذا حدث لك، فلم تعد تلعن الإسماعيليين؟، فأجاب فخر الدين: يا صاحبي، عند هذه الجماعة البرهان القاطع، فلا ينفع شتمهم ولا سبّهم.
عاد الإمام الفخر الرازي إلى هرات نحو عام 1205، وعاش هناك حتى توفي في ثاني أيام عيد الفطر سنة 606 هجري (1209)، ويُذكر أنه عندما كان على فراش الموت، كتب وصيةً لأحد أصدقائه أو طلابه، تحتوي على معلومات واسعة عن أفكاره وحياته.
يرى بعض المؤرخين، أنه قُتل مسموماً على يد أتباع طائفة كانت تُعرف بالكرامية، وذلك نظراً إلى احترامه من قبل السلطة في ذلك الوقت.
وطائفة الكرامية طائفة إسلامية اتّبعها كثر في مدينة نيشابور شمال شرق إيران، بين القرنين العاشر والثالث عشر الميلادي، وكان زعيم هذه الطائفة، أبو عبد الله محمد بن كرم. كان الكراميون يعتقدون بأن الإيمان ليس سوى اعتراف لفظي بالشهادتين، وفي مادة اللاهوت أيضاً آمنوا بالتجسد، أي أنهم آمنوا بأن لله جسداً واتجاهاً، وكان مذهبهم يرتكز على التقشف في الحياة والمعارضة الحادة للملكية الاقتصادية.
يقع مقام الإمام فخر الرازي في الشمال الغربي من مدينة هرات في أفغانستان.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...