نعيش حالةً من الترقب مترافقةً مع الكثير من القلق والخوف؛ فكيف لنا ألا نكون في ترقب دائم عاجزين/ ات أمام شاشات التلفزة، ونحن نشاهد أشلاءً ودماراً في وطن لنا فيه الكثير من الذكريات من دون أن نعيش فيه؟
يخبرني أصدقائي/ صديقاتي بالحالة هذه، واصفين حالتهم/ نّ بأنهم/ نّ مكبلون/ ات وعاجزون/ ات، فمنذ أيام تسمّروا أمام شاشات الهاتف غير قادرين/ ات على القيام بأي نشاط بدني؛ منهم/ نّ من يترقب وضع الأصدقاء والصديقات في غزة، ومنهم/ نّ من يحاول نقل صورة المجازر والإبادة الواقعة فيها.
كيف لا نعيش كل هذه الحالات، ونحن بمعظمنا مررنا بعدد من الحروب المتقاربة في دولنا المتلاصقة والمتلاحمة في حدودها؟
هذا الخوف مشترك. نتشاركه وسط القصف والحروب، وهو نفسه في لبنان وسوريا وفلسطين. فمنذ أن بدأت المجازر في غزة، وذاكرتي لا تستهويها إلا العودة إلى كل الحروب والمشاهد التي عايشناها في الجنوب اللبناني، منذ العام 2000 وحتى الـ2006. أسترجع كل مشاهد الحرب متقطعةً؛ بعضها بالأسود، وبعضها الآخر أكاد فيها أن أشعر برائحة البارود، وأسمع صوت القذائف يتكرر في أذني.
صوت الزنانة أو "أم كامل"، كما اعتدنا تسميتها(الطائرة من دون طيار)، لم تُعدني إلا إلى الخوف والقصف وأصوات الرجال في الخارج وهم يشعلون سجائرهم، والنساء وهن يعانقن أطفالهنّ مسمّرات أمام شاشة التلفاز، وصوت طقطقة فناجين الشاي التي لم يتبقَّ منها ولا حتى فنجان واحد، فقد كسرتها عندما ركضت للاحتماء بأمي هرباً من صوت القصف.
هذا الخوف مشترك. نتشاركه وسط القصف والحروب، وهو نفسه في لبنان وسوريا وفلسطين. فمنذ أن بدأت المجازر في غزة، وذاكرتي لا تستهويها إلا العودة إلى كل الحروب والمشاهد التي عايشناها في الجنوب
هذا ببساطة ما تخزّنه الحروب في ذاكرتنا. وهكذا ببساطة حُكم علينا بأن نكبر وسط كمّ من الترقب على أصوات القذائف.
التعلّق بالألعاب
أتذكر إحدى الفتيات من سوريا اللواتي التقيت بهن. انهمرت بالبكاء لمجرد تذكّرها الحرب في بلادها. فكثيراً ما حاولت، بحسب تعبيرها، ألا تتذكر ما مرّت به. ولكن أكثر ما استوقفني، حديثها عن لعبتها التي لم تستطع أخذها معها بالرغم من أنها لم تكن تستطيع النوم من دونها. وربما توقفت هنا ولم أسألها المزيد، لأني مثلها كنت خائفةً في حرب تموز/ يوليو 2006، من ترك ألعابي خلفي. ولعل خوفي في ذاك الوقت لم يكن لتركها وحيدةً من دوني كما ظننت، بل خشيةً من بقائي من دون طفولتي!
يترجم الدكتور محمد الصالحي، وهو طبيب نفسي وكاتب، تعلّق الأطفال بألعابهم، قائلاً: "الارتباط الوثيق بالألعاب عند الطفل متعلّق بنظرية الكائن الانتقالي transitional object theory، لطبيب الأطفال والمحلّل النفسي الإنكليزي دونالد وينيكوت. وحسب هذه النظرية، فإن الطفل بشكل طبيعي لديه تعلّق بمقدّم الرعاية له، أي الوالدين بالأساس، وهذا التعلق جزء من عملية النمو النفسي للطفل. وعند غياب مقدّم الرعاية، على سبيل المثال: في حال خروجه من المنزل، أو سفره أو وفاته... إلخ، فإن بعض الأطفال في سعيهم إلى إخماد تخوّفاتهم وإلى تقليل مستوى قلقهم وتوتّرهم، يخلقون نوعاً من التعلّق تجاه شيء معيّن، وغالباً ما يكون بطانيةً أو وسادةً ناعمةً أو لعبةً".
وتؤكد المعالجة والمحللة النفسية نعمت بجاني، على ما تشكله الألعاب من أدوات للمتعة والمرح والأمان بالنسبة للأطفال والطفلات، ورموز للتماهي مع صورة الوالدين: "وفي حين تُعدّ الحرب من أصعب حالات الشرخ والتشتت والقلق الوجودي من الانفصال، يزداد الخوف والرهبة عند الطفل مما يضاعف تعلقه بمصدر الأمان والحنان، فيتعلق بلعبه بقوة أكبر؛ أولاً، للمحافظة على 'صحة الدمية وحياتها' من أي أذى أو مكروه، وثانياً ليستمد منها الأمان في الصراع مع المجهول، وثالثاً تماهياً مع مشاعر والديه العميقة تجاهه، وهمهما المتفاقم على سلامته".
تبلّد المشاعر
يتساءل أحمد عبد الله يحيى، وهو ابن بلدة كفرشوبا الجنوبية التي عايشت الكثير من الحروب والاعتداءات الإسرائيلية، في أحد منشوراته، لماذا لم يعد يتأثر بمشاهد القتل والدمار: "تبلّد المشاعر من أين جاء؟ أتذكر أني عايشت الـ2011، وعايشت جرائم النظام السوري وحلفائه، وعايشت وكبرت وأنا أشاهد الأطفال أشلاءً أو يموتون اختناقاً بالكيماوي. كبرت وأنا أشاهد التعذيب والقتل والتهجير. فقد عايشت الناس الذين ماتوا مجمّدين من البرد... أو من الجوع".
ويؤكد على أن الإنسان يكون إنساناً بغض النظر عن اسم القاتل، واسم الضحية، وأن الإنسانية لا تتقسم ولا تتجزأ. أما عن حرب تموز وما تركته من أثر في نفسه، فيجيب: "بالنسبة لصوت القصف لا أعلم، فربما كشخص تربيت على أصوات القذائف والحرب، وبرغم وجودي الآن خارج البلد، فقد أشعر بأنه يجب أن أكون الآن في المكان الذي تربيت فيه في بلدتي وضيعتي"، مشيراً إلى أن ما بقي عالقاً في رأسه من حرب الـ2006، هي "الحياة الصعبة التي مررنا بها خلال نزوحنا الذي كان أصعب بقليل من خبرية القصف والموت. ففكرة النزوح، بحيث نضطر إلى ترك بيتنا وأرضنا وكل شيء في حياتنا للنجاة من القصف والحرب، تخلق شعوراً يضاهي إحساس الموت، بحيث أن هناك ذلّاً كبيراً يعيشه الناس... فالعديد من الذين نزحوا تمنّوا الموت بسبب ما عايشوه من بشاعة النزوح".
"تبلّد المشاعر من أين جاء؟ أتذكر أني عايشت الـ2011، وعايشت جرائم النظام السوري وحلفائه. كبرت وأنا أشاهد التعذيب والقتل والتهجير. فقد عايشت الناس الذين ماتوا مجمّدين من البرد... أو من الجوع"
ويتابع: "عادةً ما تعلق تلك الأحداث التي تتصاحب مع الكثير من المشاعر القوية من فرح أو حزن، في ذاكرتنا، وللأسف نحن في بلادنا أكثر الأمور التي تبقى عالقةً وتحيا معنا لوقت طويل هي الذكريات والمشاعر السيئة".
لكن من أين يأتي كل هذا التبلّد برغم الوجع والتضامن مع غزة؟
في ما يتعلق بتبلّد المشاعر تجاه مشاهد المجازر والأشلاء التي نشاهدها، يوضح الدكتور الصالحي: "من الممكن أن يتأثر بعض الأشخاص بحدوث ما يطلَق عليه كرب ما بعد الصدمة(PTSD) ، خصوصاً الأشخاص الذين لم يعتادوا على مثل هذه المشاهد، أو الأشخاص من ذوي الشخصيات الحساسة. ومن أعراض كرب ما بعد الصدمة التي قد يعاني منها الشخص: فرط اليقظة أو أن يصبح الشخص 'مترقِّباً' أغلب الوقت، كذلك الأحلام المزعجة المتعلّقة بالحدث أو بالمشاهد الصادمة، أو تذكّر الشخص للحدث أو المشهد بشكل مفاجئ، أو أن يصبح يراه في خياله بشكل واضح وحيّ كما لو كان يحدث أمامه للتوّ، أو كما لو كان يشاهد مشهداً سينمائياً وهو ما يُعرف بالفلاش باك flashback، وقد يتأثر الأداء اليومي للشخص نتيجةً لذلك".
ويضيف: "التعرّض للشيء بشكل متكرر يخلق عند الشخص حالةً تُسمّى في علم النفس Desensitization أو إزالة التحسّس، وهو التكتيك نفسه بالمناسبة الذي نستخدمه في علاج الفوبيا. ويقوم مبدأ إزالة التحسس على أن التعرّض المتكرر للحدث أو المثير الخارجي يقلّل من استجابتنا له، ومرّةً بعد مرّة، تتلاشى الاستجابة له وهو ما أسميته بتبلّد المشاعر".
وتشير المعالجة والمحللة النفسية نعمت بجاني، في هذا الصدد إلى أن "التعبير عن صدمة الحرب من خلال التحليل النفسي من الممكن أن يؤدي إلى حالة نفسية معقدة وصعبة حسب شخصية متلقي الصدمة الأساسية، وقد تُفهم على أنها 'اختراق لدرع الإثارة'، حيث يتعين على هذا الأخير حماية الجسم من زيادة التوترات والرعب والخوف، وخطر الموت ...ليؤدي هذا الفائض من المشاعر السلبية إلى بدء الجسم بالعمل خارج مبدأ المتعة ويجد نفسه غارقاً في القلق التلقائي والوجودي، فتتراوح العوارض بين العصاب والذهان، والصراعات الناتجة عن الصدمة وتتفاقم آليات الدفاع النفسية، كما تتكاثر الاضطرابات السلوكية والنفسية والعلائقية، ومن الممكن أن تظهر مباشرةً أو بعد التعرض لهذه الظروف بفترة".
الدمار الداخلي
اللي رح ينجوا من الموت، ما رح ينجوا من الدمار الداخلي"؛ هكذا تخبرني صديقتي الفلسطينية في أثناء الاطمئنان على صديقنا في غزة: "بخير جسدياً. نفسياً كتير سيئ. يا دوب بيرد إنه بخير".
"بجي بحاول يعني مش قادر أشيل سطح، بدّي أدوات وفش أدوات... انهرت بدموعي فوقهم وأنا أقولهم سامحوني مش قادر، والله مش قادر، والطيران فوقي بيقصف بشكل مرعب بكل مكان والشظايا بكل مكان..."
أما صديقي الغزاوي عبد الحكيم، الذي قرر مع عائلته الصمود في منزلهم/ نّ المقصوف بشكل جزئي من دون مياه ولا كهرباء ومن دون أن يعلموا متى ينقطع التواصل عن العالم بشكل كامل، بالرغم من القصف الهمجي الإسرائيلي وتفضيل الموت على الخضوع لسياسة التهجير، فيحدّثني عن معايشة الموت اليومي وعن رائحة البارود والدماء.
يقول: "الناس ببيوتها آمنة. فجأةً قاموا بإسقاط براميل متفجرة دمرت مربعات كاملةً فوق ساكنيها. لما طلبنا الدفاع المدني والإسعاف قصفوا الإسعاف واستشهد المسعف، ومنعوا أي شخص من الاقتراب". ويتابع واصفاً مشهد الموت بتأثر كبير وجمل متقطعة ومتداخلة: "الجيران بتشوفيهم جثث وقطع أشلاء في الشوارع، لأن ما يحدث هو إبادة جماعية. تجدين من يستنجد بك لانتشال من هم/ نّ تحت الركام. بتقدرش تعمل إشي. بجي بحاول يعني مش قادر أشيل سطح، بدّي أدوات وفش أدوات... انهرت بدموعي فوقهم وأنا أقولهم سامحوني مش قادر، والله مش قادر، والطيران فوقي بيقصف بشكل مرعب بكل مكان والشظايا بكل مكان..."، ليبقى الخوف الأكبر لديه فقدان أهله وتهجيرهم/ نّ من أراضيهم/ نّ الفلسطينية.
هول المجازر والإبادة الذي يرافقنا إن من ناحية الجرائم المرتكبة من قبل العدو الإسرائيلي، أو من قبل نظام الأسد وحلفائه، إلى جانب ما ارتكبته الدولة اللبنانية بتفجير مرفأ بيروت، كلها مجتمعةً لم تترك فينا إلا مشاعر سيئة وذكريات مليئة بالدماء والأشلاء والدمار. فكيف لنا أن نحيا مع كل هذه الصدمات، وذكرياتنا محملة بالنعوش ورائحة البارود؟ وكيف لنا أن نسعف أنفسنا نفسياً من كل عوارض الاحتضار وسط حروب مستمرة؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.