لم تفلت خطبة الجمعة في مصر من آثار العسكرة العمومية. العسكرة مفهوم أكثر اتساعاً من مؤسسة ذات زيّ محدد، يميز المنتمين إليها. يمكن تمثيلها بكائن أسطوري لديه القدرة على التنميط، وفرض نسق أشبه بمظلة، عبء يثقل كاهل المغلوبين على أمرهم، وفي حالتنا الآن هم جيش من الوعّاظ، وقد أمروا يوم الجمعة الماضي، 13 تشرين الأول/أكتوبر 2023، أن يتكلموا عن فضل الدعاء للمظلومين والمستضعفين، وآثاره في رفع الغمة عن فلسطين المحتلة، وحماية أهلها الذين يتعرضون للاسئصال في قطاع غزة. وقبل صلاة الجمعة، طالبهم العدو بالخروج الجماعي وإخلاء غزة. فهل يجدي الدعاء أكثر من إبراء ذمة المصلين، قبل الاستمتاع بقيلولة خالية من الكوابيس؟
يسهل أن تتبارى ميكروفونات المساجد بالدعاء على العدو. سلوك مجاني غير مكلف. يُجمع عليه خطباء موظفون تبلغهم وزارة الأوقاف أسبوعياً بموضوع الخطبة. ومسلمون طيبون لا يملكون إلا الدعاء لأشقائهم في فلسطين. ومواطنون لهم في المعتقلات أبناء وأحبة ويخافون الجهر بالدعاء على الظالم، ولو تنفيذا لآية "لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظُلم". متى أفاد الدعاء في حماية ضعيف، أو إنقاذ مظلوم من أنياب ظالمه؟ رصيدنا يزيد على خمسة وسبعين عاماً من الدعاء على إسرائيل. وما ازدادوا إلا قوة وبطشاً، واستهانة بالمسلمين وإهانة لحاكميهم. كان الدعاء تلقائياً وخالصاً لله أن ينقذ فلسطين ويحمي الأقصى. والدعاء اليوم عنوان العسكرة.
متى أفاد الدعاء في حماية ضعيف، أو إنقاذ مظلوم من أنياب ظالمه؟ رصيدنا يزيد على خمسة وسبعين عاماً من الدعاء على إسرائيل. وما ازدادوا إلا قوة وبطشاً، واستهانة بالمسلمين وإهانة لحاكميهم
لا نحتاج إلى المزيد من الدعاء. تنقصنا العدالة السياسية، وتجديد الخطاب الحاكم، والكفّ عن التنطع، وهو ما كتبته تفصيلاً في مقال عنوانه "إنسانية الحضارة الإسلامية... عنوان خطبة الجمعة لفقراء ينقصهم الخبز"، في رصيف22 في 7 كانون الأول/ديسمبر 2021.
ينقصنا الوعي بحقوق المواطنة. حقوقنا فريضة غائبة تتفاداها وزارة الأوقاف، ولو بتخصيص خطبة جمعة واحدة في السنة في ذم الاستبداد؛ لكيلا يشمت بنا رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك وهو يعلن الاصطفاف مع العدو، عشية محرقة غزة، ويعايرنا بالنوم في عسل الديكتاتورية، أما إسرائيل فهي "الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط حيث يمكنك التصويت. هذه القوة التكنولوجية التي تقدم اختراقات في مجال الطب والعلوم".
نفّذ الخطباء أمراً بعدم إطالة الخطبة. عشت زمناً كانت فيه خطبة الجمعة تبلغ ساعة كاملة. تبدأ بحمد لله، ويتوالى نعاس المتعبين، ولا يفيقون من الغفوة العميقة إلا بانخفاض صوت الإمام، داعياً المؤذن إلى إقامة الصلاة. قصر زمن الخطبة، وهذا حسن جداً. وبقي الزعيق والجوهر إنشائياً تقليدياً يدعو إلى السأم. وجاء توحيد موضوع الخطبة ليجعل من صلاة الجمعة تحصيل حاصل. لا جديد يذكر، والجديد مُضجر. قبل أسبوعين كانت خطبة الجمعة عن التربية الإسلامية للأبناء، وكيفية الوقاية من مؤامرة وسائل التواصل الاجتماعي التي يريد بها "الغرب الصليبي" تفكيك المجتمع الإسلامي. كأن الحياة كانت أفضل قبل يستهدفنا، وحدنا، الغرب بهذا الاختراع لنشر الفواحش.
أما الجمعة قبل الماضية، 6 تشرين الأول/أكتوبر 1973، فخصصوا خطبتها لشرح أسباب النصر على العدو، وقال الوعاظ إن أولها الإيمان، ونداء "الله أكبر". سمعت هذا الكلام صبياً، من أشرطة الشيخ عبد الحميد كشك، وفي الجامعة من محاضرة ليوسف القرضاوي في جامعة القاهرة. صدّقتهما آنذاك. زمن الصبا، والزهو بإنكار الشهر الميلادي واستكثار أن يهبنا الله فيه نصراً. قال القرضاوي: "انتصرنا على اليهود في حرب رمضان حين قلنا: الله أكبر. وقد هزمونا في 1967 لأن شعارنا كان: وسيفنا يتحدى القدر". تبسيط ساذج يجد استجابة من مسلمين يظنهم الوعاظ في مرحلة الصبا العقلي. فهل انتصر العدو عام 1967؛ لأن جنوده أقاموا الليل، وقاتلوا صائمين؟
فصل الخطاب: لا يدافع الله عن أحد. تعالى الله علوّاً كبيراً عن خوض حروب البشر. وأسباب النصر لمن يعقلها. في هذا يتساوى المسلم وغير مسلم. ينتصر العارفون بالقوانين البشرية، المستعدون للمعارك بالعلم لا بالتقوى. ينتصر خالد بن الوليد كافراً ومسلماً، ولا نظن أن الله كافأه في غزوة أحد فنصره على النبي والصحابة. كما ينتصر الجاهزون بما أعدوا من خطط، وما استطاعوا من قوة. لا فرق إلا في الدرجة بين كل من الإسكندر وخالد بن الوليد وأبي عبيدة ومحمد بن أبي عامر المنصور ومحمد الفاتح ونابليون وإبراهيم باشا ومونتجمري، وصولاً إلى جورج بوش. لم تكن بغداد منحة إلهية لهولاكو، وعقاباُ للمستعصم.
أدعو الله أن ينصر الفلسطينيين، ويدعو غيري. لا نملك إلا الدعاء خفية، مختارين، واثقين بأن الله أقرب من حبل الوريد؛ فلا يكون الدعاء وظيفة لواعظ، ولا تنفيذا لأمر وزاري، ولا أذى تضخّه ميكروفونات المساجد، ولا بيزنس يباع رنّات للهواتف ويستثمر في جلب إعلانات لمحترفي مواقع التواصل
فصل الخطاب: لو انتصرت ثورة 25 كانون الثاني/يناير 2011 لتغير المشهد والخرائط. أرعبهم الزلزال الشعبي، فقضية فلسطين يحسمها ميدان التحرير. حين كانت إدارة البلاد حرة، تستند إلى حقائق القوة الثورية على الأرض، تم تحرير سيناء من الآثار المهينة لمعاهدة "السلام" مع العدو. بفضل الثورة، وصلت القوات المصرية، للمرة الأولى منذ عام 1967، إلى الحدود مع فلسطين. وحين نصير أقوياء، وتفرض الإرادة الشعبية سطوتها في اختيار الحكام، وخلعهم أو إقصائهم بانتخابات حرة، فإن هذه القوة تدعو قادة أمريكا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا إلى التفكير في الدعم العلني لإسرائيل، وإدانة الضحايا، ولن يعايرنا رئيس الوزراء البريطاني باستبداد لا يحظى من وزارة الأوقاف بخطبة واحدة.
أدعو الله أن ينصر الفلسطينيين، ويدعو غيري. لا نملك إلا الدعاء خفية، مختارين، واثقين بأن الله أقرب من حبل الوريد؛ فلا يكون الدعاء وظيفة لواعظ، ولا تنفيذاً لأمر وزاري، ولا أذى تضخّه ميكروفونات المساجد، ولا بيزنس يباع رنّات للهواتف ويستثمر في جلب إعلانات لمحترفي مواقع التواصل.
الدعاء الصادق، من دون نفير ولا استعراض، شأن شخصي بين الإنسان وربه، يُطمْئن النفس بأن العدالة الإلهية لن تتأخر. وفي الوقت نفسه، لا أنسى أن النصر حليف القوة، وأن العالم قد يتعاطف مع الضعفاء، ولكن الأمور في صراع الأمم وتحديد المصائر تمضي باتجاه احترام الأقوياء. ليس أقوى من شعب جريح يحلم باسترداد عافية ثورته.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Tester WhiteBeard -
منذ 23 ساعةtester.whitebeard@gmail.com
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 4 أيامجميل جدا وتوقيت رائع لمقالك والتشبث بمقاومة الست
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Ahmed Adel -
منذ أسبوعمقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ اسبوعينعزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...
نسرين الحميدي -
منذ اسبوعينلا اعتقد ان القانون وحقوق المرأة هو الحل لحماية المرأة من التعنيف بقدر الدعم النفسي للنساء للدفاع...