لا يتذكر أحمد حلمي، الفنان الكوميدي المصري الشهير، الكثير من طفولته. في حواره قبل أيام مع الإعلامي الإماراتي أنس بوخش، يبدي اندهاشه من أن المرء – أو هو بالتحديد – ينسى معظم أحداث طفولته، فلا يبدأ في تذكرها جدياً إلا من مرحلة المدرسة الإعدادية (المتوسطة). مع ذلك، فإن إعرابه مراراً خلال الحديث، عن مصاعب عاشها صغيراً، قد يعكس أن الأمر ليس محض نسيان، وأن الأقرب للحقيقة هو الوصف الذي استخدمه باقتضاب، وبصيغة فصيحة، قائلاً إن طفولته "لم تكن كما يجب".
من القليل الذي يتذكره؛ صفعة والده له عقاباً له على خطأ طفولي، تسبب خلاله في فقدان خاله لمجموعة من طيور الحمام التي يهتم بتربيتها (في الواقع عاد الحمام إلى البيت فيما بعد)، صفعه والده لأنه فتح نافذة ما تسببت بخروج الحمام، أو لأنه كذب مدعياً أن شقيقه هو الذي فعلها (يكذب الطفل عادة بسبب الخوف)، لقد صدمته تلك الصفعة ولم يستطع نسيانها – يقول- ولكنه استمر أثناء روايته لتلك الحادثة في توجيه اللوم إلى خاله لا أبيه.
بعد كل تلك السنوات (تخطي حلمي الخمسين الآن) لا يزال يمارس تلك الحيلة الدفاعية، فيسقط الغضب الأكبر على الخال الذي اشتكاه لا على الأب الذي صفعه، ربما ساعد في ذلك أن الأب توفي بعد سنوات قليلة، فـ "ما لحقتش أشبع منه". إن موت الأب المبكر، لم يمنع حلمي على أي حال من تذكر الحادثة وحكيها في الحوار، رغم الإسقاطات والحيل الدفاعية.
من القليل الذي يتذكره الفنان أحمد حلمي؛ صفعة والده له عقاباً له على خطأ طفولي، تسبب خلاله في فقدان خاله لمجموعة من طيور الحمام التي يهتم بتربيتها، صفعه والده لأنه فتح نافذة ما تسببت بخروج الحمام
إنه الأمر نفسه مع نجم آخر، من عالم "الأكشن" هذه المرة، الفنان أحمد السقا، في حوار تلفزيوني سابق مع الإعلامية منى الشاذلي، يحكي عن الصفعة التي وجهها له والده، (مخرج مسرح العرائس الكبير إبراهيم السقا)، في سياق أقل إدراكاً لماهية العنف.
"لقد علمه درساً"، يقول السقا، لكن الدرس يصغر أمام المشهد المخيف. لقد ناقش أمه بقوة ولم يبدُ أنه ينتصر في النقاش، فصعد إلى النافذة وهدّد بإلقاء نفسه منها، فإذا بالأب يطلب منه تنفيذ تهديده، حتى "يكون قد كلامه" (!). لم يقفز السقا، وحين نزل عن النافذة، صفعه الأب، وهذا "علّمه" أن "يفكر قبل أن يتكلم". رغم محاولاته استخلاص العبر من الحكاية، لا يبدو السقا سعيداً وهو يحكي القصة المخيفة، المليئة في واقع الأمر بالأخطاء التربوية والسلوكية، يمكن القول إنه بإقدامه على حكي القصة، تماماً كما يفعل أحمد حلمي، يعبّر عن صوت مكتوم، استغاثة قادمة من سن أصغر ضد أب يصعب تحديه.
تتحرّر النجمة يسرا تماماً من تلك الحيل الدفاعية، ربما لأن مشهدها كان أقسى، وعلاقتها بوالدها – وبزوجة الوالد- كانت أكثر تعقيداً، ولأن العنف كان أشد وأقسى.
"معرفش لغاية النهاردة ضربني بالكوباية ليه؟"، تقول يسرا ، بعد أكثر من أربعين عاماً من الحادثة، في حوارها مع الإعلامية وفاء الكيلاني. كانت في بداياتها الفنية، أتمت لتوّها الواحد والعشرين من العمر، وكانا في مكان عام، فندق مينا هاوس الشهير، الأشهر في ذلك الوقت. وكانت تجلس بصحبة النجم رشدي أباظة، الذي كان صديقاً لوالدها الحاضر معهما، ويغضب الأب فجأة ويقذف بالكوب إلى وجهها، فيتسبب في فتح جبهتها، وإجرائها جراحتين. " انتهزتُ الفرصة وتركت البيت نهائياً رغم محاولاته الاعتذار". لماذا كل ذلك؟ (كان مغتاظاً لأنه لم يستطع التأثير على حبي لأمي)، لا دروس هنا إذن على غرار "درس السقا" ولا تبرير أو اتهام لآخرين على غرار خال حلمي.
كان تعبير الإعلامي المخضرم محمود سعد، واضحاً وخالصاً: "ما بحبوش". حين حكى، قبل عام، عن قسوة الأب التي تمثلت في عنف من نوع آخر، عنف التجاهل والتخلي المادي والمعنوي عن أبنائه
من بين قصص الفنانين مع آبائهم، تختلف المطربة أنغام في أن مشكلاتها مع والدها، ومكتشف موهبتها في الآن نفسه، الموسيقار محمد علي سليمان، كانت معروفة منذ زمن طويل، وهي قصة معقدة لدرجة أنها بعد كل هذه السنوات لا يزال لديها ما تقوله عنها، قبل شهرين حكت – أيضاً لأنس بو خش – أن أصعب موقف في طفولتها حين رأت والدها يعتدي بالضرب على أمها. ربما زاد من تأثير المشهد العنيف أنها كانت تحبه "بشكل هيستيري"، على حد وصفها، كان الرجل "اللي كنت بتعلق في كتافه".
على العكس من حالات اختلاط المشاعر، التي يمتزج فيها الحب، هيستيرياً أو عادياً، بالصدمة، كان تعبير الإعلامي المخضرم محمود سعد، واضحاً وخالصاً: "ما بحبوش". حين حكى، قبل عام، عن قسوة الأب التي تمثلت في عنف من نوع آخر، عنف التجاهل والتخلي المادي والمعنوي عن أبنائه.
رغم قدرته المادية، ترك الأبناء الأربعة في عناية الأم وحدها. وحين جاءه خبر موته قبل أكثر من ثلاثين عاماً: "ما حستش بأي حاجة". الإعلان عن "عدم الحب" وفقدان الإحساس حتى لحظة الموت، شكلا صدمة لمجتمع أبوي، يفترض أن البر بالوالدين يقضي الاعتراف بحبهما حتى لو كان وهمياً، وبفضلهما حتى لو لم يكن له أي أثر، ويدفع بالتالي إلى تحويل العنف إلى دروس وعِبرَ، إلى أي شيء غير ما هو حقاً عليه.
يصف علم النفس لحظة "قتل الأب" الرمزية بأنها لحظة النضج الحقيقي، لحظة أن نرى آباءنا كبشر عاديين، لا أبطالاً ولا أساطير، إنها اللحظة التي سنتخلص فيها من أبوّة المجتمع أيضاً، من ابتلاع العنف والقهر والإساءة وتوجيه الغضب إلى أنفسنا، وفيما بعد، إلى أبنائنا.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...