شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
كيف تم تأويل حديث الاثني عشر في المُتخيل المذهبي في الإسلام؟

كيف تم تأويل حديث الاثني عشر في المُتخيل المذهبي في الإسلام؟

سياسة نحن والتاريخ

الخميس 5 أكتوبر 202311:55 ص

عرفت مدوّنات الحديث النبوي عدداً كبيراً من الروايات ذات الصبغة السياسية الواضحة، والتي بشّر فيها الرسول الكريم ببعض الوقائع المستقبلية. من أهم تلك الروايات، تلك التي تحدث فيها النبي عن اثني عشر أميراً قرشياً سيتولون الحكم من بعده، وهو الحديث الذي تم تأويله بطرق مختلفة في المُتخيّل المذهبي، السنّي والشيعي على حد سواء.

الخليفة والإمام

من المعروف، أن لقبَي الخليفة والإمام، قد ظهرا منذ فترة مبكرة من عمر الدولة الإسلامية، إذ تتحدث المصادر التاريخية، ومنها على سبيل المثال، "تاريخ الرسل والملوك"، لابن جرير الطبري المتوفى سنة 310 هـ، أن أبا بكر الصديق قد عُرف باللقبين معاً بعد أن تمت مبايعته في سقيفة بني ساعدة، عقب وفاة الرسول في العام الحادي عشر للهجرة.

في الوقت الذي بقي فيه مصطلح الإمام رهيناً باستخداماته السياسية -وفي بعض الأحيان الفقهية كذلك- داخل الإطار السنّي التقليدي، فإننا نجد أنه قد تطور بشكل كبير في الفكر الشيعي، بحيث أصبحت فكرة الإمامة من أهم الركائز الذي يقوم عليها هذا الفكر بأكمله.

الشيعة الإمامية قد عرّفوا الإمامة على كونها "زعامةً ورئاسةً إلهيةً عامةً على جميع الناس"، فهل استمد الإمام في المُتخيل الشيعي سلطته من الله مباشرةً، تبعاً لهذا التعريف؟

هذا التطور يتضح عند مراجعة تعريف المصطلحَين؛ الخليفة والإمام، عند كل من السنّة والشيعة، فبينما نجد أنه قد تم تعريف الخلافة عند السنّة، على كونها "نيابةً عن صاحب الشريعة في حفظ الدين وسياسة الدنيا"، بحسب ما يذكر ابن خلدون المتوفى سنة 808 هـ في تاريخه، أو "رياسةً تامةً، وزعامةً عامةً، تتعلق بالخاصة والعامة في مهمات الدين والدنيا"، بحسب ما ورد في كتاب "غياث الأمم" لأبي المعالي الجويني المتوفى سنة 478 هـ، فإننا سنجد أن الشيعة الإمامية قد عرّفوا الإمامة على كونها "زعامةً ورئاسةً إلهيةً عامةً على جميع الناس"، وذلك بحسب ما يذكر الصدوق المتوفى سنة 381 هـ، في كتابه "الاعتقادات في دين الإمامية"، ومن هنا فقد استمد الإمام في المُتخيل الشيعي سلطته من الله مباشرةً، وتم اعتباره استمراراً لخط النبوة والرسالة.

الاثنا عشر في المُتخيّل السنّي

ورد حديث الاثني عشر خليفةً، في الكثير من مدونات الحديث النبوي المشهورة عند أهل السنّة والجماعة، ومنها على سبيل المثال، ما ذكره محمد بن إسماعيل البخاري المتوفى سنة 256 هـ في صحيحه، عن جابر بن سمرة من قول النبي: "يَكونُ اثْنَا عَشَرَ أَمِيراً، فَقالَ كَلِمَةً لَمْ أَسْمَعْهَا، فَقالَ أَبِي: إنَّه قالَ: كُلُّهُمْ مِن قُرَيْشٍ"، وما ذكره مسلم بن الحجاج النيسابوري المتوفى سنة 261 هـ في صحيحه، من قول النبي: "لا يَزَالُ الدِّينُ قَائِماً حتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ، أَوْ يَكونَ عَلَيْكُمُ اثْنَا عَشَرَ خَلِيفَةً، كُلُّهُمْ مِن قُرَيْشٍ"، وأيضاً ما ورد في مسند أحمد بن حنبل المتوفى سنة 241 هـ، من أن أحد العراقيين سأل عبد الله بن مسعود، إذا كان النبي قد حدد عدد الخلفاء الذين سيتولون الأمر من بعده، فرد عليه ابن مسعود: "ما سألني عنها أحد منذ قدمت ‏العراق‏ ‏قبلك، ثم قال: نعم، ولقد سألنا رسول الله، ‏فقال:‏ ‏اثنا عشر كعدة‏ ‏نقباء‏ ‏بني إسرائيل".

برغم اتفاق الأغلبية الغالبة من الروايات السنّية على أن الخلفاء المذكورين من قبيلة قريش على وجه التحديد، فإننا سنجد أن العلماء والمفسرين لم يجمعوا على فهم واحد لمعنى الحديث، خصوصاً وأن عدد الخلفاء قد زاد أضعافاً مضاعفةً عن الرقم المذكور في الحديث، وفي ذلك نقل ابن حجر العسقلاني المتوفى سنة 852 هـ، في كتابه "فتح الباري بشرح صحيح البخاري"، عن بعض أهل العلم، قوله: "لم ألقَ أحداً يقطع في هذا الحديث -يعني بشيء معين"، وفي السياق نفسه، نقل العسقلاني قول ابن الجوزي المتوفى سنة 597 هـ: "قد أطلت البحث عن معنى هذا الحديث وتطلبت مظانه وسألت عنه فلم أقع على المقصود به لأن ألفاظه مختلفة ولا أشك أن التخليط فيها من الرواة...".

لو رجعنا إلى التأويلات التي طرحها علماء السنّة لهذا الحديث، فسنجدها كثيرةً ومتعددةً، ويختلف بعضها مع بعض بشكل كبير. برغم ذلك توجد ثلاثة تأويلات شهيرة له داخل العقل السنّي، وهي التي سنعرض لها تأويلاً بعد آخر. أول تلك التأويلات ما ذهب إليه القاضي عياض المتوفى سنة 544 هـ، عندما قال: إنه يُحتمل أن النبي قد قصد في حديثه، أنه سيأتي زمن على الأمة الإسلامية، يظهر فيه اثنا عشر خليفةً في وقت واحد، وأن كل واحد من هؤلاء ستتبعه طائفة من الطوائف، وقد استشهد القاضي عياض بإمكانية وقوع ذلك، مشيراً إلى أنه قد سبق وأن تزامن وجود خمسة من الخلفاء في عصر واحد، وذلك في القرن الخامس الهجري، عندما وقع الصراع في الأندلس، ليعلن ثلاثة رجال عن خلافتهم هناك، هذا فضلاً عن وجود الخليفة الفاطمي الذي كان يحكم من القاهرة، والخليفة العباسي الذي كان يحكم من بغداد. بحسب هذا التأويل، فإن الاثني عشر خليفةً المذكورين في الحديث، سيكونون علامةً على التشرذم والاختلاف والتناحر.

لو رجعنا إلى التأويلات التي طرحها علماء السنّة عن الاثني عشرية، فسنجدها كثيرةً ومتعددةً، ويختلف بعضها مع بعض بشكل كبير، فما هذه التأويلات وهل تتشابه أم تتناقض؟

أيضاً، كان شيخ الإسلام ابن تيمية الحرّاني المتوفى سنة 728 هـ، من أشهر علماء السنّة الذين قدّموا تأويلاً مختلفاً لهذا الحديث، وذلك عندما سلّط الضوء على بعض الروايات التي ورد فيها التأكيد على عزة الإسلام التي تحققت زمن خلافة الاثني عشر المذكورين وكيف أن الأمة قد اجتمعت عليهم وانقادت لسلطتهم، فنجده -أي ابن تيمية- يحددهم في كتابه "منهاج السنّة النبوية في الرد على الشيعة القدرية"، بأنهم الخلفاء الراشدون الأربعة، ومعاوية بن أبي سفيان وابنه يزيد، وعبد الملك بن مروان وأبناؤه الأربعة، ومعهم عمر بن عبد العزيز، وهكذا يكتمل نصاب الخلفاء الاثني عشر المذكورين في الحديث.

أما ثالث تلك التأويلات -وأشهرها- فقد كان ذلك الذي طرحه الحافظ ابن كثير المتوفى سنة 774 هـ، في تفسيره المسمى بتفسير القرآن العظيم، عندما ربط بين الخلفاء الاثني عشر المذكورين في الحديث من جهة ومعاني الحق والعدل من جهة أخرى، فقال: "... ومعنى هذا الحديث البشارة بوجود اثني عشر خليفةً صالحاً يقيم الحق ويعدل فيهم، ولا يلزم من هذا تواليهم وتتابع أيامهم..."، ثم حدد أسماء بعض من هؤلاء الخلفاء فذكر الراشدين الأربعة، وعمر بن عبد العزيز، فضلاً عن المهدي المنتظر، والذي جاء ذكره في بعض الأحاديث النبوية، وقيل إنه سيخرج في آخر الزمان ليقيم دولة الحق والعدل.

معنى ذلك أن أشهر التأويلات السنّية للحديث، قد اتسقت -إلى حد بعيد- مع الأصول والمبادئ العامة المُتعارفة عند أهل السنّة والجماعة. على سبيل المثال، سنجد أن تأويل القاضي عياض للحديث باجتماع الاثني عشر في وقت واحد، يتوافق مع الظروف التاريخية الحرجة التي وجد المسلمون أنفسهم فيها في القرن الخامس الهجري، كما سنجد أن تأويل ابن تيمية يتماشى مع اعتبارية القوة والمنعة كمبدأ أساس للسلطة، الأمر الذي طُبّق على أرض الواقع مع سيادة نظرية حكم المتغلب صاحب الشوكة. أما تأويل ابن كثير فيمكن تفسيره بالحاجة الإنسانية الجمعية المُلحة إلى معاني العدل والحق، خصوصاً أن الفترة التي عاش فيها ابن كثير -القرن الثامن الهجري- كانت فترةً انتشر فيها الجور، واشتهر فيها الحكام بظلم العامة ونهب أموالهم وأملاكهم.

...وفي المُتخيّل الشيعي

لعب حديث الاثني عشر الذين بشّر بهم النبي، أدواراً متفاوتةً في المُتخيّل الشيعي، فبينما نجده وقد تم تهميشه، إلى حد ما، عند كل من الزيدية والإسماعيلية، فإننا نجده وقد أضحى أحد أهم الأعمدة التي تأسست عليها نظرية الإمامة عند الشيعة الإمامية الاثني عشرية.

على سبيل المثال، من الممكن أن نلمس الحضور الباهت للحديث في المُتخيّل الشيعي-الزيدي، وفي وسعنا رصد بعض التأويلات التي حاولت أن تربطه بالأصول الزيدية، تلك التي تدّعي أن الإمامة محصورة في أبناء الحسن والحسين. من ذلك ما ذكره العالم الزيدي أحمد بن يوسف زبارة، في كتابه "أنوار التمام في تتمة الاعتصام"، عندما قال: إن المقصود بالاثني عشر المذكورين في الحديث، هم الأسباط -ستة من ولد الحسن بن علي، وستة من ولد الحسين بن علي-، وإن الإمامة محصورة في أبناء هؤلاء الأسباط، وإنهم المختصون بالإمامة دوناً عن بقية الناس.

في السياق نفسه، سنجد أن حديث الاثني عشر لم يشتهر عند الشيعة الإسماعيلية، الأمر الذي يمكن تفسيره بأن الدلالة الصريحة له تخالف أصول المذهب التي ترفض الاعتقاد بحصر الأئمة في اثني عشر رجلاً فقط. مع ذلك، يمكن القول إن تأثيرات هذا الحديث قد ظهرت في المُتخيل الإسماعيلي، من خلال التأكيد على وجود اثني عشر نقيباً في الأرض، وأنهم يساعدون الإمام القائم في كل عصر.

 "... إني واثني عشر من ولدي وأنت يا علي زرّ الأرض -يعني أوتادها وجبالها-، بنا أوتد الله الأرض أن تسيخ بأهلها، فإذا ذهب الاثنا عشر من ولدي ساخت الأرض بأهلها ولم يُنْظَروا"

على الجهة المقابلة، سنجد أن روايات هذا الحديث قد ذاعت وانتشرت في المدوّنات الشيعية الإمامية الاثني عشرية، وأنه قد جرى التأكيد على العدد، اثني عشر، في الكثير من المناسبات. من ذلك ما ذكره محمد بن يعقوب الكليني المتوفى سنة 329 هـ، في كتابه "الكافي"، عن جابر بن عبد الله: "دخلت على فاطمة عليها السلام وبين يديها لوح فيه أسماء الأوصياء من ولدها، فعددت اثني عشر آخرهم القائم، ثلاثة منهم محمد وأربعة منهم علي"، وما ورد في الكتاب نفسه عن الإمام محمد الباقر، من أن النبي قد قال:  "... إني واثني عشر من ولدي وأنت يا علي زرّ الأرض -يعني أوتادها وجبالها-، بنا أوتد الله الأرض أن تسيخ بأهلها، فإذا ذهب الاثنا عشر من ولدي ساخت الأرض بأهلها ولم يُنْظَروا"، وما ذكره الفضل بن الحسن الطبرسي المتوفى سنة 548 هـ، في كتابه "إعلام الورى بأعلام الهدى"، عن علي بن أبي طالب: "إن لمحمد اثني عشر وصياً أئمة عدل، لا يضرّهم خذلان من خذلهم، ولا يستوحشون لخلاف من خالفهم، وإنهم أرسب في الدين من الجبال الرواسي في الأرض...".

هذا فضلاً عن عشرات الروايات الأخرى، والتي تسمي الأئمة الاثني عشر المعصومين واحداً بعد آخر، وتؤكد على أن أولهم علي بن أبي طالب، ثم الحسن بن علي، ثم الحسين بن علي، ثم على السجاد، ثم محمد الباقر، ثم جعفر الصادق، ثم موسى الكاظم، ثم علي الرضا، ثم محمد الجواد، ثم علي الهادي، ثم الحسن العسكري، وأخيراً المهدي الغائب محمد بن الحسن العسكري، الذي اختفى بشكل تام عن الأنظار في 329 هـ.

الملاحظة الأولى على تلك الروايات، أنها لم تُنقل عن جابر بن سمرة -كما هو الحال في مدوّنات أهل السنّة والجماعة- بل نُقلت عن مجموعة من الشخصيات المُعتبرة عند الشيعة، سواء كانوا من الصحابة الثقات كجابر بن عبد الله، أو من الأئمة المعصومين كعلي بن أبي طالب ومحمد الباقر.

أما الملاحظة الثانية، فتتمثل في أن الشيعة الاثني عشرية -واستجابةً منهم للمرويات المتواترة التي تحدثت عن ضعف الأئمة وتعرّضهم للقتل والحبس على يد الخلفاء المعاصرين لهم- لم يتعاملوا مع شروط القوة والعزة الواردة في بعض الروايات الخاصة بالحديث بشكل حرفي، بل عملوا على تأويلها بما يتسق مع الظروف التاريخية التي عاش فيها الأئمة الاثنا عشر، فقالوا -أي الشيعة- بأن العزة هنا مرتبطة بالدين وليس بالدولة، وعملوا على إثبات الدور الكبير الذي اضطلع به الأئمة في سبيل نشر الدين الصحيح بين عامة المسلمين.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard
Popup Image